تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 9 يوليو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة
العنوان

نغوغي واثيونغو: ناسج الأحلام على عتبات رحلة جديدة

30 مايو, 2025
الصورة
Geeska Cover
Share

أُعلنت وفاة الكاتب الكيني البارز نغوغي واثيونغو، الذي يلقب عن حق بعملاق الأدب الأفريقي، وظل مرشحًا أمثلًا لنيل جائزة نوبل في الآداب دون نيلها، في 28 مايو/آيار الجاري مصحوبة بوصيته للبشر وقرائه بالاحتفاء الدائم بالحياة، لتنتهي رحلته بعد 87 عامًا (ولد عام 1938) مخلفًا ورائه إرثا أدبيا وفكريا بالغ العمق والتميز، وتجربة حياتية شخصية ملهمة لأفريقي لم يتخل عن قناعاته، ولم يتوان عن نسج حلمه، للتحرر الشخصي أو تفكيك العقل الكولونيالي الجمعي لبني وطنه كينيا وأفريقيا، بتؤدة واتقان نادرين. 

تصدر نبأ رحيل واثيونغو عناوين كبرى الصحف العالمية والأفريقية، في دلالة على مكانته وحجم منجزه الأدبي والفكري الكبير، واجمعت تلك التغطية على وصفه بعملاق الأدب الأفريقي (مضمونًا ولغة)؛ مما مثل انتصارًا واضحًا لمشروعه وفكرته بضرورة تبني ثقافة ولغة وأدب أفريقي، لا يقل أهمية وقيمة عن أي ثقافة أخرى. 

أكدت صحيفة الجارديان مثلا في تأبينها للمفكر الراحل أنه نجا من محاولات القمع الاضطهاد التي انتهجها ضده نظام الرئيس الكيني الأسبق، دانيال اراب موي (1978- 2002). وفيما أعلنت ابنته وانجيكو وا نغوغي وفاته في ولاية أتلانتا الأمريكية، فإنها أوجزت مسيرته بعبارة مؤثرة: "لقد عاش حياة كاملة، وأبلى بلاءً حسنًا".

واثيونغو ورحلة النضال المستمر

ولد واثيونغو في كينيا عام 1938، وتفتحت عينا الصبي مراهقًا على حرب الماو ماو (1952-1962) من أجل استقلال البلاد عن الاستعمار البريطاني، وهي واحدة من أشد حروب النضال الوطني الأفريقي ضد المستعمر ضراوة ونجاحًا؛ وكان لهذه الفترة أبلغ الأثر في تكوينه وإسهاماته المتنوعة بين نصوص أدبية وأعمال فكرية مهمة. وحصل على درجة البكالوريوس من جامعتي مكريري في كمبالا عام 1963، ثم جامعة ليدز بانجلترا في العام التالي.

تجربة حياتية شخصية ملهمة لأفريقي لم يتخل عن قناعاته، ولم يتوان عن نسج حلمه، للتحرر الشخصي أو تفكيك العقل الكولونيالي الجمعي لبني وطنه كينيا وأفريقيا، بتؤدة واتقان نادرين

عمل واثيونغو محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة كولدج في نيروبي، ثم أستاذًا زائرًا في جامعات أمريكية. وترأس في الفترة 1972-1977 قسم الآداب في جامعة نيروبي. كما عُني بشكل عام بالدراسات الأفريقية وصلة السياسة بالأدب وتفكيك استعمار الهيمنة الثقافية- اللغوية الإنجليزية تحديدًا. 

إلى جانب هذه المسيرة الأكاديمية الحافلة، كان صيت واثيونغو قد ذاع  بداية في شرق أفريقيا عند عرض مسرحيته "الناسك الأسود" على خشبة المسرح الوطني في العاصمة الأوغندية كمبالا عام 1962 كجزء من الاحتفالات باستقلال أوغندا. وبدأ الاحتفاء بنصه وسط الشباب؛ حيث وصف عنوان جريدة الشباب بجامعة مكريري الأديب الشاب بعنوان "نغونغي يتحدث باسم القارة".  

خاض واثيونغو نضالًا متعدد المستويات سياسيًا وأدبيًا، وكانت له أصداء واضحة في إسهاماته. وعلى سبيل المثال فإن نقطة تحوله "الفاصلة" في العام 1966 خلال حضوره لمؤتمر بن الدولي ليمثل أفريقيا في المؤتمر الذي تنظمه "PEN America" في نيويورك (وبدعوة شخصية من الكاتب الكبير آرثر ميللر رئيس هذه الهيئة الأدبية الأمرييكة الرفيعة)، ظلت حاضرة فيما تبقى من حياته. وقد روى واثيونغو قصة ما حدث بعدها بسنوات، وظل يذكرها حتى مع استلامه جائزة "PEN America" عام 2022. 

مما ذكره عن لقائه المثير مع بابلو نيرودا: "ضم المؤتمر مشاركون من دول شرقية وغربية (في أجواء الحرب الباردة بطبيعة الحال)، ومن بينها دولًا شيوعية سمحت لها الولايات المتحدة بالحضور للمرة الأولى، ومن بينهم بابلو نيرودا، عضو الحزب الشيوعي الشيلي والذي لم يسمح له بزيارة الولايات المتحدة سنوات طويلة، وكان حضوره في المؤتمر هي زيارته الأولى لها منذ 30 عامًا. وخلال حضوري إحدى الجلسات الأخيرة للمؤتمر بوجود بابلو نيرودا واجنازيو سيلون، المؤلف الإيطالي صاحب "خبز ونبيذ"، وآرثر ميللر نفسه. اشتكى سيلون من عدم وجود ترجمة للفعاليات من الإيطالية وإليها بالقدر الكاف، وأن "الإيطالية ليست كتلك اللغات التي لا تملك في مفرداتها سوى كلمة أو كلمتين. وشعرت أنه لزامًا علي أن أدافع عن اللغة الأفريقية قائلًا: "أود أن اطمئن الحضور أن اللغات الأفريقية تضم في مفرداتها أكثر من كلمة أو كلمتين" وعلق ميللر قائلًا أنه مسموح بالاعتزاز باللغة لأيا من كان، لكن دون التقليل من شأن "اللغات الأخرى"، وما حدث لاحقًا أن نيرودا سار نحوي وسط الجموع وشد على يدي، وقال كلمات كثيرة (لم أفهمها) لكنني شعرت بالتضامن من قبله، وكنت وقتها في وسط كتابتي رواية "A Grain of Wheat"، لكن بأية لغة؟ بالإنجليزية، ومن هنا بدأت أفكر جديًا في الكتابة بلغتي الأفريقية الجيكويو".   

سيرة واثيونغو الذاتية: القومية والإثنية والمقاومة

قدم البروفيسور أميتايو تشاكرابورتي سيرة ذاتية مهمة عن واثيونغو  (2024) من جهة مزجها بين الكرونولوجي والموضوعي في حياة المفكر الراحل. وقسم تلك السيرة على ثلاثة مراحل، وهي: مرحلة القلق (عقدا الخمسينيات والستينيات)، ومرحلة السجالات العنيفة (في عقدي الستينيات والسبعينيات)، ثم المرحلة الأخيرة في حياته بدءًا من نهاية السبعينيات فصاعدًا.   

حسب هذه السيرة دائما، فإن المرحلة الأولى تجلت في كتابات واثيونغو المبكرة مثل الناسك الأسود، والنهر الذي بيننا، وصعود نهج واثيونغو الثوري مع استقلال بلاده بصدور "لا تنتحب أيها الطفل"؛ بينما تصاعد توجه واثيونغو الراديكالي، إذا جاز الوصف، ضد الإمبريالية في المرحلة الثانية التي شهدت صدور أعمال عدة من بينها "بتلات الدم" التي جسدت أفكاره التي تجمع بين الإثنية الأخلاقية والثورة الماركسية، كوسيلة، في التحليل النهائي ربما، لتحقيق انعتاق أفريقي فعال. اما المرحلة الثالث فهي مرحلة التحدي، والتي ميزت حياته ونضاله حتى وفاته في 28 مايو/آيار 2025.

امتزجت مبادئ القومية والتسامح الإثني والمقاومة في حياة واثيونغو بشكل واضح، ولعل الإشارة هنا إلى اعتقاله عام 1977 على خلفية كتاباته الأدبية والفكرية تكون دالة للغاية على هذه الفرضية. وقد وثق واثيونغو نفسه هذا التحول الجذري في جياته في مؤلف شهير يمزج بين السيرة الذاتية والسرد الروائي؛ وجاء بعنوان معتقل: "يوميات كاتب في السجن" (1981)، استهله باقتباس شهير نقله ماركس في مقال نُشر في جريدة نيويورك ديلي تريبون (25 أغسطس/أب 1852) يشير فيه إلى دفاعه عن حريات جموع مواطنيه، وأن النتيجة كانت تحجيم حريته: "لأنني حاولت حمل معبد الحرية من أجلكم جميعًا، زُج بي في غياهب السجن ظلمًا...". ويبدو من الاقتباس قناعة واثيونغو أن سجنه كان بسبب الدفاع عن بني وطنه. وقد اعتقل واثيونغو في 31 ديسمبر 1977 وقضى عامًا في السجن دون تهمة سوى أنه كان معارضًا للرئيس الكيني موي. وطور واثيونغو خلال سجنه مشروع كتابه الأبرز تحرير العقل من الاستعمار: سياسة اللغة في الأدب الأفريقي (1986)، وقرر ان يلحق بالنص الإنجليزي نصًا بلغة الجيكويو، بلورة لمقاومته للهيمنة السلطوية لموي واللغة الإنجليزية في آن واحد. 

لغة الأدب الأفريقي وتفكيك الكولونيالية

قدم واثيونغو إسهمًا نقديًا مهمًا، ومبكرًا، في صياغة أدب أفريقي أصيل، ودعا إلى العناية به أيما عناية في مواجهة تزايد مد الهجمة الكولونيالية التي طغت على بلاده منذ ضمها كمحمية للاستعمار البريطاني، والتي استمرت بعد استقلال البلاد بفضل تكون نخبة أنجلوفونية كبيرة، كان واثيونغو نفسه احد أبرز المفكرين والأدباء الذين لمعوا بها. وجمع ذلك النقد في مؤلفه "تحرير العقل من الاستعمار: سياسة اللغة في الأدب الأفريقي" (لندن- 1981). وقدم في الكتاب نقدًا مدافعًا عن تحرر العقل الأفريقي، فيما يتعلق باللغة وكل من الأدب، والمسرح، والقصص الأفريقي، بعد أن قرر في العام 1977، عقب نشر آخر أعماله الأدبية باللغة الإنجليزية مباشرة "بتلات الدم"، التفرغ للكتابة بلغة الجيكويو، مقتصرًا على كتابة أعمال فكرية باللغة الإنجليزية أبرزها يوميات كاتب في السجن. 

أعلن واثيونغو في تصديره لكتاب "تحرير العقل من الاستعمار" أنه سيكون الأخير في الكتابة له مباشرة باللغة الإنجليزية في كافة الأعمال أدبية وفكرية. وبدا أن هذا الخيار، لأستاذ الأدب الإنجليزي في جامعات أفريقية وبريطانية، نوعًا من المقاومة وتقديم دفعة للثقافة الأفريقية ولغاتها (الجيكويو والكيسواحيلي في الحالة الراهنة)؛ وهو ما التزم به واثيونغو على مدار أكثر من أربعة عقود حتى وفاته. 

لأنني حاولت حمل معبد الحرية من أجلكم جميعًا، زُج بي في غياهب السجن ظلمًا.... ويبدو من الاقتباس قناعة واثيونغو أن سجنه كان بسبب الدفاع عن بني وطنه

جاء الكتاب، على صفحاته الوجيزة التي لم تتجاوز 130 صفحة، ليلخص تجربة واثيونغو على مدار عشرون عامًا سابقة في كتاباته للقصة والمسرح والنقد وتدريس الأدب في الجامعات؛ وما اعتبره في مقدمة العمل سعيًا لدراسة الحقائق الأفريقية "بمنأى عن النظرة أو التصور القبلي". وأنه، الكتاب، جزء من جدل مستمر "حول مصير القارة الأفريقية نفسها". وعلى مدار الفصول الأربعة الرئيسة للكتاب قدم واثيونغو رؤيته بتكثيف دال للغاية: فقد أكد بداية، في الفصل الأول حول "لغة الأدب الأفريقي"، على استحالة دراسة هذه المسألة على نحو دال "خارج سياق القوى الاجتماعية التي تصنعه"، أخذًا في الاعتبار أن الإمبريالية "في مرحلتيها الكولونيالية وما بعد الكولونيالية" ظلت تضغط بقوة على الأفريقي لينظر للعالم ومستقبله كما حددته الأولى تمامًا، عبر السيد "المسلح بالكتاب المقدس والسيف".

من بين الأفكار التي فصلها واثيونغو فكرة وظيفة اللغة وصلتها بالتحرر الوطني: فاللغة، أي لغة، لديها شخصية مزدوجة كوسيلة للتواصل وناقلة للثقافة. وضرب مثالًا هامًا، ومتاقضًا للحالة الأفريقية في بلاده ودولًا أنجلوفونية أخرى في القارة حينذاك، تمثل في انتشار اللغة الإنجليزية في دول مثل: الدانمارك والسويد كلغة تواصل مع غير الاسكندنافيين فحسب، دون أن تكون ناقلة للثقافة وسط مجتمعا البلدين. 

الأمر الذي يكشف عن أحد جوانب إسهام واثيونغو بتحرير الثقافة المحلية الأفريقية من ربقة ما يمكن وصفه بالاستعمار الثقافي البريطاني بشكل عام؛ وهو ما فصل واثيونغو على صعيدي المسرح والأدب القصصي الأفريقي في الفصلين الثاني والثالث.

اختتم واثيونغو عمله بفصل بعنوان "السعي للملائمة"؛ ملخصًا رؤيته لكيف يرى الأفارقة أنفسهم وبيئتهم، وأن ذلك يعتمد أيما اعتماد على موقعهم فيما يتعلق بالإمبريالية في مرحلتيها الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وهو طرح يؤكد على اتساق مجمل مشروع واثيونغو الفكري والأدبي مع فكرته الرئيسة بالتحرر الأفريقي سياسيًا واقتصاديًا اجتماعيًا من نقطة بدء واضحة للغاية: الثقة التامة بالثقافة الأفريقية وقدرتها على مواجهة "التغيرات العالمية" أو "العولمة" بثبات وحيوية، وقبل ذلك قدرة اللغة الأفريقية على الاستمرار كناقل للثقافة وتطويرها.   

واثيونغو إلى رحلة جديدة: مولد ناسج الأحلام

خلف واثيونغو ورائه إرثًا أدبيًا وفكريًا مرموقًا، واختلطت روحه الشعرية بعقل بالغ الصرامة والدقة في صوغ أفكاره، وإعادة طرحها مرارًا وتكرارًا عبر وسائط أدبية متعددة، وباستخدام لغة أفريقية حية. ومما أصدره واثيونغو ويظل وثيق الصلة بروحه، بل وعبرًا عن ذاته حد التماهي نصه "مولد ناسج الحلام: يقظة كاتب" (نيويورك، 2016). 

استهل واثيونغو الكتاب بنص بالغ العذوبة بعنوان "جرح في القلب" عن سياقات الاستعمار البريطاني في أوغندا وكينيا ونشأته طفلًا على عتبات المراهقة. وحللت ميشيلا رونج العمل بدقة بالغة بملاحظتها أن العمل/ المذكرات على مستويين: أولهما تذكر الكاتب تجاربه في الماضي بموضوعية بالغة؛ وثانيهما يتعلق بمقاربة تحليلة محددة، إذ يلعب الكاتب دور من يراقب طفولته وحياة مجتمعه وعصره. 

اتساق مجمل مشروع واثيونغو الفكري والأدبي مع فكرته الرئيسة بالتحرر الأفريقي سياسيًا واقتصاديًا اجتماعيًا؛ الثقة التامة بالثقافة الأفريقية وقدرتها على مواجهة "التغيرات العالمية" أو "العولمة" بثبات وحيوية، وقبل ذلك قدرة اللغة الأفريقية على الاستمرار كناقل للثقافة وتطويرها

اختتم واثيونغو نصه بفصل بعنوان "جحيم جنة ما" تمتزج فيه السخرية بالأحداث الدالة على صعوبة الفكاك من الذهنية الكولونيالية، إذ استخدم وصف "الجنة" لوصف جامعة مكريري في كمبالا خلال فترة الخمسينيات ومطلع الستينيات. ويسرد بنعومة واضحة معاناته داخل تلك "الجنة"، والفوارق الطبقية التي كانت حاضرة فيها. 

ما يهمنا في هذا النص هنا هو تمثل وعي نقدي مبكر للغاية لدى واثيونغو، وعي لا ينبهر بالمباني الكولونيالية الفخمة، أو التقاليد الراسخة التي تتدثر بشكليات فجة لتخفي نواة العنصرية والتفرقة القائمة عليها، وهو وعي ظل ملازمًا لواثيونغو حتى أنفاسه الأخيرة؛ ويظل هو بالفعل ناسجًا للأحلام التي تلقاها منه الشباب الأفريقي في كينيا وخارجها في القارة الأفريقية، وفي الشتات؛ تعلموا منه الدأب والإيمان بالذات، والفخر باللغة والثقافة الأفريقية الثرية، والقدرة على الرفض بحرية تامة، ليظهر جيلًا آخر من نساج الأحلام والساعون لتحقيقها على الأرض بين ملايين الأفارقة شبابًا وشيوخًا.