الاثنين 24 مارس 2025
وجدت مليشيا الدعم السريع، خلال فترة الانتقال الموؤد (2018 - 2021)، نفسها في تموّضعٍ عسكري واقتصادي قويّ في المشهد العام، بفعل تشابك جملة تعقيدات متداخلة في السياق. "ميليشيا" اعتدادًا بالتصنيف الأكاديميّ للجماعات المسلحة؛ حيث وفق ذلك، تُعد هذه القوات ميليشيا تابعة لجهاز الدولة في السُودان. وكانت تتبع إلى شؤون رئاسة الجمهورية مباشرةً لحكومة الإنقاذ، بعد أن أجاز البرلمان السوداني آنذاك قانونًا لها عام 2017، قبل تحويلها لتكون جزءًا من مؤسسة الجيش باعتباره الجهاز العسكريّ الرسمي للدولة، وفيما بعد أصبحت جزءًا من حكومة الانتقاليّة بعد سقوط نظام البشير حتى قيام الحرب.
ضعف جهاز الدولة، وهشاشة الفترة الانتقالية ورخو المجتمع المدنيّ بمختلف مؤسساته ومنظماته، كانت كفيلة بأن تُقدِم الميليشيا في المشهد العموميّ بشكل أكبر، وتصعد بها لتصبح أحد أهم اللاعبين الجُدد في الساحة. وكان ما تتمتع به من وزنٍ اقتصادي وعسكري، محفزها الأكبر للبحث عن تموقع سياسيّ، يتيح لها ولوج دهاليز السياسة من أوسع أبوابها.
أصبحت مسألة صياغة خطاب سياسي ضرورة عاجلة، بعد اشتعال الحرب، لتستطيع به تبرير خوضها المعركة والاستمرار فيها، بعد فشل خطة الانقلاب من اليوم الأول للنزاع، ولحماية وتعزيز إرثها التموضعيّ الجيّد الذي اكتسبته مؤقتًا من هشاشة الأوضاع، قبل انفجار الأزمة.
عن محتوى الخطاب
بعد فشلها منذ لحظات الرصاصة الأولى للحرب، اجتهدت الميليشيا في حياكة سردية سياسيّة تحاول بها مقارعة الجيش في معركتهما التي اتضح لاحقًا صعوبة معرفة أجل توقفها. فبعد نجاة قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقاليّ، من محاولة اغتيالها له في مكان إقامته، أطلق قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) جملة شتائم على قائد القوات المسلحة، ودعاه إلى الاستسلام. ثم لاحقًا قال إنهم سيقبضون عليه خلال ساعات ثم قال أيام. وهذا ما يفسر سبق قصد المليشيا واستبطان محاولتها الجادة لعمل انقلاب على الجيش والسُلطة القائمة في آن.
عملت الميليشيا على استحلاب بعض مواد الوثيقة الدستورية لتبرير تمردها على الجيش، لتحاول بها خلق شرخ في مؤسسة الجيش السُوداني؛ حيث زعمت أن حربها ضد مجموعة الإسلاميين المسيطرة على مفاصل الجيش والبلاد، داعيةً أفراد الأخيرة إلى الانشقاق والانضمام إليها، لأنها كما تزعم "خيار الشعب". وهذه العبارة أحد أهم شعارات حراك ديسمبر الثوريّ (2018 - 2021)، تغذي هذه الدعوة رواسب ذاكرة مظلومية شعبوية ظلت طازجة بفعل طاقة الحراك.
استندت هذه السردية على خطابية "دولة 56"، والتي تشير إلى سيطرة نموذج نظام سلطة استقر من قِبل مجموعة سياسية واثنية بعينها، منذ استقلال السُودان في الأول من يناير/كانون الثاني 1956، واستدعاء مضمون جدلية الهامش والمركز، لدرجة يكاد يتماهى خطابها مع خطاب حركات الكفاح المسلح لتصوّر الدولة السُودانيّة.
حاولت المليشيا تحويل طبيعة الصراع من كونه اشتباكًا عنيفًا بين حلفاء سابقين في السُلطة، إلى قضية مصيرية كبرى تهم كل مواطن سودانيّ وتمسّه. وإلى حدٍ كبير وجد الخطاب بصياغته المظلومية طُعمها عند مواطنيّ الهامش، لأنها لامس "مشاعر رائجة" وسط "لحظة سياسية فارغة" يمر بها السُودان. وكان ستجني بمحتوى خطابها الشعبوي مزيدًا من التأييد والشرعية، لولا انهياره يومًا تلو آخر بنتائج ما تمارسه عناصرها في أرض الواقع من عنف وانتهاكات جسيمة وواسعة لحقوق الإنسان، وضد المدنيين والأعيان المدنيّة.
على المستوى السياسيّ، حوى الخطاب ادعاءً، ما يزال يتردد بأن هذا التمرد على الجيش والسُلطة القائمة كان دفاعًا عن الانتقال الديمقراطيّ؛ فهي لا تتواني في ترديد أنها تقاتل من أجل حماية التحوّل المدنيّ المنشود في البلاد، متهمةً الجيش بعرقلة مساره. وأن الأخير انقلب، وهي كانت جزءًا أصيلًا في تلك الفعلة، على حكومة الفترة الانتقالية القائمة. هكذا تبنَّى خطابها لغةً معادية لمركزية السلطة كما تقول مرددة، أن سيطرة الجيش على الحُكم ليس إلا مساعٍ للمحاولة نحو إعادة إنتاج نموذج نظام البشير. وهو في الواقع محتوىً مغريًا بالنسبة لقوى الهامش، حيث يتقاطع كثيرًا وفحوى هذه القوى الثوريّة في نضالها الطويل المستمر لتفكيك استعمارية الخرطوم.
على الصعيد الاجتماعي، حاول الخطاب تصوير الدعم السريع قوة قوميّة عابرة للقبائل، مع أنها في الأصل وُلدت من رحم الإثنية، في محاولة لتوسيع قاعدتها الاجتماعيّة، وكسب المزيد من الجند، ولاسيما من شرائح الأطراف. لذلك سعى إلى مناداتهم، ومعهم الجيش، من الهامش للانضمام إليها، مدعيّاً أنها تحارب النظام السابق داخل الجيش، والذي سقط في 11 أبريل/نيسان 2019، بعد حراك امتد لأكثر من أربعة أشهر متواصلة من الغضب والاحتجاج. الأمر الذي أكسبها تعاطفًا وتضامنًا مقدرًا لدى الأطراف.
لقد كان هذا الكسب الاستقطابي مشهودًا ضمنيًا وعلانية، فالكثير من زعماء القبائل، وخاصة من المجموعات العربية، كانت وما تزال متورطة بشكل مباشر في دعمها سواء باستجلاب أفراد من مكوناتها للتنجيد، بقوة الولاء القبلي أو بالمال، أو توفيرها للمليشيا شرعية شعبوية من خلال دعمها الاجتماعي بالولاء إثنيا، وبالوعود المؤجلة بإشراكها في السلطة أو تمليكها الأرض، لمن يعانون الأن من فقدها، في ظل صراع الأرض والموارد والهوية المستمر في الإقليم الغربي.
كما تبنى الخطاب محتوىً أخلاقيًا ودينيًا إسلاميًّا، حيث لجأت القوات إلى تبرير أعمالها وتمردها، بأنها تدافع عن المظلومين والمهمشين، وكانت تدعو بالشهادة والنصر بعون "الله". وحتى تلك الممارسات التي طالت المدنيين، يزعم خطابها أن وسطهم الكثير من المجموعات المجرمة أو الأفراد المستهدفين الذي يتبعون إلى الإسلاميين داخل الجيش. فكانت عناصرها تنطق في معاركهم؛ إما الانتصار على الجيش بعون "الله ورضاه" أو الاستشهاد في سبيله. وبحكم ذاكرة المظلومية لدى الهامش، ورسوخ قيم الإسلامية لدى شريحة كبيرة من الشعب السوداني بشكل واسع، استطاع الخطاب أن يتلاعب بعقول ومشاعر الكثيرين أفرادًا ومجموعات سياسيّة ومكونات اجتماعيّة.
كان التسويق الدولي والإقليمي لهذه القوات حاضرًا في السياق إعلاميًا ودبلوماسيًا وسياسيًا، فقد تبنى خطابها لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تنسفها الانتهاكات الواسعة المرتكبة ضد المدنيين. وفي الوقت ذاته يتهم الخطاب الجيش بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ويظهر الوجود المادي المباشر لهذا المحتوى في الزيارات واللقاءات الكثيرة التي قام بها قائدها حميدتي، أو مستشارو الدعم السريع، مثل يوسف عزت، والتي استهدفت هيئات ورؤساء دول أفريقية وعربية وحتى أوروبية، بغرض تسويق تمردها على السُلطة، لكي يكسبها شرعية ما، سيقدمها كطرف عسكريّ مهم، ولاعب سياسيّ جديد يمكن التعامل معه على المستويين الإقليمي والدولي.
عوامل تشكّل الخطاب
من بين أهم العوامل التي اسهمت في تشكيل خطاب الميليشيا، الإرث التاريخي وسردية التهميش. ولأن قوات الدعم السريع تعد امتدادًا لمجموعات "الجنجويد" التي شكّلها نظام البشير بغرض مواجهة حركات الكفاح المسلح في نضالها المستمر ضد حكومات الخرطوم، تأثرّ سياق نشأتها بهذا الخطاب، وخاصةً المكونات الاجتماعية التي ترتبط بها علاقات عصبية وقبلية بشكل مباشر وواسع، وانشقاق أعضاء من مجلس السيادة، مثل: الهادي ادريس، رئيس حركة تحرير السودان المجلس الانتقالي، والطاهر حجر، رئيس تجمع قوى التحرير، قبل انشطارهما إلى فصائل، بعد اندلاع الحرب مباشرة، وهم من أبناء هذا الإقليم، وانشطار تحالف "تقدم"، في 10 فبراير/ شباط الجاري، بسبب الخلاف في دعم محاولة تشكيل حكومة موازية للدعم السريع من عدمه، شاهدًا مباشرًا على ذلك التأثير.
هذا فضلًا عن الدعم السياسي الذي كسبها بإعلان أديس أبابا الذي وقعتها في يناير/كانون الثاني 2024، بينها وبين تحالف "تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية - تقدم" الذي يضم الكثير من أعضاء حكومة الفترة الانتقالية لحراك ديسمبر الثوري، ويترأسها رئيس وزراء تلك الحكومة، عبد الله حمدوك. ومن نتائج ذلك الإعلان، فكرة "الإدارة المدنية" التي كونتها المليشيا في المناطق تسيطر عليها حاليًا.
كما تشكّل الخطاب على فكرة الصراع على السلطة والنفوذ، حيث كان واضحًا للجميع مؤشرات تعاظم طموح الدعم السريع السياسيّ بعد سقوط نظام البشير عام 2019. فقد صعدت سريعًا في سُلم المشهد السياسي، مستغلًا هشاشة فترة الانتقال وضعف جهاز الدولة. ومنذ حينها كان التوتر واضحًا بينها والجيش، بل إن بعض قيادة الأخيرة كانت متحفظة ورافضة وجودها من الأساس بقيادتها شبه المستقلة. ورغم ذلك، جاء قائدها في منصب الرجل الثاني في الدولة، منذ سقوط نظام البشير إلى اندلاع الحرب التي كانت لتقاطع علاقات المصالح إقليميًا ودوليًا دورًا محوريًا في قيامها، واستغلتها المليشيا بجانب ما تتمتع به من نقاط اتصال واستشارات خارجية حيوية في تشكيل خطابها السياسي، لتدافع به عن طموحاتها السياسية والعسكرية ذات الأجندة الاقتصادية والإيديولوجيّة.
كما كان لوجود تجارب مليشيات تحارب الدولة في المنطقة أفريقيًا وعربيًا، مثل تجربة ليبيا واليمن، الدور الاستلهاميّ في الدفع بطموحات المليشيا قُدمًا، لصياغة سرديّةٍ تعمل بها لخلق حضور ما في المشهد العام داخليًا وخارجيًا، وإن كان براغماتيًا يتأسس على تقاطع مصالح السُلطة والمال والإثنية.
منطلقات الخطاب
استند خطاب المليشيا على العديد من المنطلقات التي تكاد تتماهى وخطاباتٍ حاضرة في المشهد السياسيّ السودانيّ. أهمها، خطاب المظلومية والتهميش التاريخيّ للأطراف في السُودان منذ استقلالها على الأقل. حيث حاولت المليشيا تصوير نفسها مدافعا عن حقوق المواطن في الهامش، الذي عانى كثيرًا حسب زعمها من مركزية السُلطة في الخرطوم، واحتكارها في يد مجموعات إثنية وإيديولوجية ومناطقية بعينها. نتيجة لذلك استطاع خطابها كسب دعم أصوات مقدرة، لكنها ظلت خافضة وسط المدنيين وبعض الحركات المسلحة في سياق الإقليم الغربي. فاتسمت لغة خطاب الميليشيا على خطاب "دولة 56"، وهو سردية تحاول إرسال محتوى معادي ضد ما يمكن تسميتهم "النخبة الخرطومية الشمالية". وذلك بهدف استقطاب الفئات المهمشة في بقية الأقاليم أو تحييدها عن دعم الجيش، واستغلت بعض الشخصيات التي تتمتع بمكانة اجتماعية وأكاديمية بارزة لتسويق هذه السردية.
اتكئ خطاب كذلك على مقولة البراغماتية السياسيّة، ما أطاح لها التمتع بمرونة كبيرة في التعاطي مع متغيرات مواقف الأطراف المباشرة وغير المباشرة للحرب. حيث سعى الخطاب بلغة متحفظة ومتذبذبة إلى التوافق والتماهي، إلى حدٍ كبير، مع المواقف الداخلية والدولية والفاعليين في الإقليم الأفريقي. فمثلًا استخدمت المليشيا، لغة السلام في محادثاتها ومواقفها وخطاباتها مع المجتمع الدولي والأمم المتحدة والهيئات الإقليمية المؤثرة، بينما لجأت إلى خطابٍ تعبوي استقطابي مناطقي في المعارك الميدانية.
وفي سبيل توصيل محتوى خطابها، استندت المليشيا على الرسالة الدعائية والإعلام الرقمي، بالتركيز على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لبث رسائلها التي أبرزت مظاهر القوة والشرعية، ونقل مؤشرات تقدمها ولحظات انتصاراتها. وقد ساعدت شبابية صغر سن جنودها في تسويق نفسها قوة عسكرية، تتمتع بقوة اقتصادية ودعم اجتماعي وثقل علاقاتي إقليمياً ودوليًا. وقد أسهمت فجوة ضعف التغطية الإعلامية التي تعرضت لها الحرب، في مساعدتها في تسويق نفسها بسهولة لدرجة أن مؤسسات إعلامية كبرى، كانت وما تزال تعتمد في معلومات نشراتها الإخبارية على ما تنشره جنود الميليشيا على وسائل الإعلام الاجتماعي.
كان خطاب ميليشيا الدعم السريع السياسي، خطابًا مستلفًا مرحليًا، يحمل طابعاً براغماتيًا يعتمد على مزيج من منطلقات مغلوطة وهلامية، ظلت تتداعى باستمرار مع طبيعة ممارساتها على أرض المعركة. وكانت مصداقيته محل شك وتحفظ ونفور، ما يكشف عن هشاشته وظرفيته خلال فترة تاريخية حرجة ذات امتدادات عميقة يمر بها السودان. وعليه، ومع جملة التناقضات والتحديات التي يعاني منها الخطاب، هل ستجد المليشيا وضعية ما، بعد إنهاء الحرب، كما كانت تتمتع بها قبل اندلاعها، في ظل استمرار تراجعها عسكريًا ولوجستيًا واجتماعيًا وسياسيًّا مع قرب النزاع لعامه الثاني؟ وهل تستطيع الصمود في وجه التقدم الواسع للجيش، وتحولات مواقفه سياسيًّا واجتماعيًا مع خطاب قائده البرهان في 8 فبراير/شباط الجاري؟