السبت 8 نوفمبر 2025
تتصاعد التوترات مجددًا في الصومال. فمنذ انهيار الحكومة المركزية عام 1991 عقب سلسلة انتفاضات ضد الحكم العسكري آنذاك، غرقت البلاد في صراع أهلي طويل. ومنذ ذلك الحين، حاولت الحكومات الوطنية المتعاقبة بناء قدرات الدولة، وترسيخ الديمقراطية وبسط السيطرة على الإقليم، لكنها أخفقت في تهدئة الصراع المحتدم على السلطة والموارد والحدّ من كلفته الدموية.
اليوم تمضي الإدارة الحالية برئاسة حسن شيخ محمود في التحضير لانتخابات وطنية عام 2026، عبر الدفع بخطط مثيرة للجدل لتغيير النموذج الانتخابي بدعوى إصلاح المنظومة وتحسينها. غير أن ساسة المعارضة، ومعهم ولايتا بونتلاند وجوبلاند، يجادلون بأن تلك الترتيبات تهدف أساسًا إلى تمكين الرئيس من إعادة الانتخاب، وإطالة أمد بقائه في السلطة. وقد أدّى هذا الخلاف إلى حالة شللٍ سياسي، مع خطر تحوّله إلى مواجهات مفتوحة.
يتزامن ذلك مع تصعيد لافت للجماعات الإسلامية المتشددة، فحركة الشباب التي تخوض تمردًا مسلحًا ضد الحكومة منذ نحو عقدين في جنوب البلاد ووسطها تحقق مكاسب ميدانية، وكذلك تنظيم «الدولة الإسلامية»، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي مُني بها، في الأشهر الأخيرة، بفعل حملة نفذتها قوات بونتلاند مدعومة بضرباتٍ بطائرات مسيّرة إماراتية وأميركية. وفي الخلفية، يزداد تبرّم المانحين الأجانب الذين موّلوا واحدًا من أطول مشاريع "بناء الدولة" في العالم.
يلقي الخلاف حول الانتخابات المقررة بحلول مايو/أيار بظلاله على المشهد السياسي الصومالي، فالرئيس محمود يريد إلغاء النظام الحالي، إذ لم يشارك في انتخابات 2021 سوى نحو 28 ألف ناخب في بلدٍ يناهز سكانه 15 مليونًا، والانتقال من التصويت غير المباشر عبر شيوخ العشائر إلى الاقتراع العام المباشر. إن توسيع قاعدة المشاركة، بحسب ما تؤكد الحكومة هدفٌ مشروع؛ وقد أُنشئت بالفعل لجنةٌ وطنية للانتخابات، وبدأ في تسجيل الناخبين. لكن الوقت ينفد، ويرى كثير من المراقبين أن السبيل العملي لتنظيم الانتخابات في موعدها هو الإبقاء مؤقتًا على الصيغة غير المباشرة. تجدر الإشارة إلى أن الرئيس السابق محمد عبد الله «فرماجو» بقي في منصبه خمسة عشر شهرًا إضافية، عندما أخفق في تنظيم انتخابات 2021 في موعدها.
تقف الصومال اليوم عند مفترقٍ حاسم؛ فإمّا أن تتقدّم نحو دولةٍ أقلّ هشاشةً بمؤسساتٍ منتخبة قابلة للاستمرار، وإمّا أن تنزلق مجددًا إلى حلقة التأجيل وصراع النفوذ وتآكل الثقة
حتى الآن ظلّ الخلاف سلميًا في العموم، لكنّ التوتر يتصاعد في العاصمة مقديشو؛ فقد قُتل شخصان أواخر سبتمبر/أيلول عقب اشتباك بين وحداتٍ أمنيةٍ متنافسة بعد زيارة وفدٍ معارضٍ لمركزٍ للشرطة.
يكشف الخلاف الانتخابي معضلات السياسة الصومالية المزمنة. فمنذ إنشاء الحكومة الاتحادية عام 2012 بدعمٍ أميركي، بديلًا عن الحكوماتٍ الانتقاليةٍ الهشّة، تعاني مؤسسات الدولة من صعوبة في الأداء الفعّال. وبعد أكثر من عقد، ما يزال الدستور مؤقتًا، ولا يوجد اتفاقٌ واضح على كيفية تقاسم السلطة والصلاحيات بين الحكومة في مقديشو والولايات الأعضاء، وبعضها يعمل بقدرٍ كبير من الاستقلال.
يبقى مفتاح اللحظة الراهنة في توافقٍ انتخابيٍ واقعي بخارطة طريق تُلزم الجميع، وتُحافظ مرحليًا على آليةٍ مجرّبة لضمان الموعد، وتُوسّع تدريجيًا قاعدة المشاركة وصولًا إلى اقتراعٍ عام حين تتوافر المتطلبات القانونية واللوجستية والأمنية
وقد انسحبت ولايات أكثر تشددًا، مثل: بونتلاند شمالًا وجوبلاند جنوبًا، فعليًا من المنظومة الاتحادية. وتفاقم التوتر مع جوبلاند إلى صدام مسلح قرب الحدود الكينية، في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، على خلفية إعادة انتخاب شيخ أحمد مدوبي، زعيم الولاية وخصم الرئيس اللدود، لتتنازع الأطراف اليوم النفوذ في إقليم جدو شمال جوبلاند.
قوّضت هذه الانقسامات الداخلية المزمنة قدرة الصومال على معالجة أكثر ملفّاتها استعصاءً: من الحرب على حركة «الشباب»، إلى التكيّف مع موجات الجفاف الممتدّة بفعل تغيّر المناخ، وتحفيز النموّ الاقتصادي، وانتهاءً باستكمال الدستور. وبالتوازي، تواجه مقديشو تحوّلًا جذريًا في مشهد المساعدات الخارجية؛ إذ تعتمد الحكومة الاتحادية على الدعم الخارجي لتغطية ما يقرب من ثلثي الميزانية، فيما ينهض أمن البلاد إلى حدّ بعيد على إسناد بعثة الاتحاد الأفريقي. ورغم ذلك، خفّضت إدارة ترامب المساعدات من 750 مليون دولار عام 2024 إلى 150 مليونًا هذا العام. وقد وسّعت الصومال في السنوات الأخيرة قاعدة داعميها الخارجيين بتوثيق روابطها مع تركيا وبعض دول الخليج، لكنها تكابد لتعويض التراجع الكبير في المساعدات الغربية.
ليس كلّ شيءٍ قاتمًا تمامًا؛ فقد نجحت الحكومة الاتحادية إلى حدٍّ كبير في دفع حركة الشباب خارج المراكز الحضرية، ما أتاح هامشًا من التعافي الاقتصادي، ولا سيما في مقديشو حيث ترتفع مبانٍ شاهقة، ومهّد لترسيخ مؤسسات الدولة الاتحادية، من وزارات وهيئات وطنية ومحلية. غير أن أعمال العنف لا تزال تهزّ العاصمة، ومن بينها اقتحام الحركة مجمّعًا للسجون مطلع هذا الشهر، ومحاولات متكررة لاستهداف الرئيس محمود، لكن وتيرة الهجمات الكبرى تراجعت بوضوح مقارنةً بالسنوات السابقة. وهذه مكاسب لا يرغب أحد في التفريط بها، ويستلزم الحفاظ عليها إقناع المجتمع الدولي بأن مشروع بناء الدولة في الصومال ما يزال جديرًا بالاستثمار.
إن توسيع قاعدة المشاركة، بحسب ما تؤكد الحكومة هدفٌ مشروع؛ وقد أُنشئت بالفعل لجنةٌ وطنية للانتخابات، وبدأ في تسجيل الناخبين. لكن الوقت ينفد، ويرى كثير من المراقبين أن السبيل العملي لتنظيم الانتخابات في موعدها هو الإبقاء مؤقتًا على الصيغة غير المباشرة
يتطلب ذلك على المدى القريب التوصل إلى تسوية عملية بشأن النظام الانتخابي تضمن إجراء الاقتراع في موعدٍ معقول في العام المقبل. وعلى المدى الأبعد، ينبغي جعل الحكومة الاتحادية تعمل على نحوٍ أفضل عبر تحديدٍ صريح للصلاحيات بين المستويين الوطني والولايات الفيدرالية، وتوضيح آليات التنسيق بينهما. يُعدّ استئناف الاجتماعات الدورية بين الحكومة الاتحادية والولايات خطوة أولى على الطريق، لكن تحويلها إلى نتائج ملموسة يستلزم قدرًا عاليًا من البراغماتية وروح التسوية من الطرفين.
إنّ معالجة مصادر التوتر هذه ستُحسّن عمل النظام الاتحادي، وتكبح مسار التشرذم السياسي، وتمكّن من مواجهة أكثر تماسكًا للتحديات المشتركة الكثيرة. ينبغي للقيادة السياسية، سواءً في الحكومة وفي المعارضة، أن تدفع بالبلاد إلى الأمام؛ فالإخفاق في ذلك لن يعني إلا مزيدًا من الانقسام، وتنامي خيبة أمل المانحين، واتساع الفرص أمام حركة الشباب. وفي نهاية المطاف، سيكون المواطنون العاديون هم من يدفع الثمن الأكبر.
يبقى مفتاح اللحظة الراهنة في توافقٍ انتخابيٍ واقعي بخارطة طريق تُلزم الجميع، وتُحافظ مرحليًا على آليةٍ مجرّبة لضمان الموعد، وتُوسّع تدريجيًا قاعدة المشاركة وصولًا إلى اقتراعٍ عام حين تتوافر المتطلبات القانونية واللوجستية والأمنية. أما الانتقال المتعجّل إلى نموذج جديد من دون استكمال مستلزماته فينذر بتأجيلٍ آخر، أو مواجهة تُهدد الاستقرار النسبي المحقّق. وبالتوازي، تقتضي الضرورة تسوياتٍ أمنية وإدارية في المناطق الحدودية والمتنازع عليها، وفي مقدمتها إقليم غدو، كي لا تتحول الخلافات الدستورية إلى صداماتٍ مسلحة بالوكالة. كما أن إقرار قواعد عادلة لتقاسم الإيرادات بين المركز والولايات سيحدّ من التنافس على الموارد، ويخلق حوافز للتعاون المؤسسي بدل صراع النفوذ.
في المحصلة، تقف الصومال اليوم عند مفترقٍ حاسم؛ فإمّا أن تتقدّم نحو دولةٍ أقلّ هشاشةً بمؤسساتٍ منتخبة قابلة للاستمرار، وإمّا أن تنزلق مجددًا إلى حلقة التأجيل وصراع النفوذ وتآكل الثقة. والقرار، قبل المانحين والوسطاء، بيد الصوماليين أنفسهم؛ فإذا قدّم قادتهم تسويةً معقولة وجدولًا انتخابيًّا قابلًا للتنفيذ اتّسعت نافذة الفرصة، أمّا إذا عجزوا فالعاقبة واضحة، انقسامٌ أعمق، تراجعٌ في الدعم الخارجي، وتمددٌ لحركة الشباب، وثمنٌ يدفعه المواطن قبل غيره.