تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

عن تاريخ ووظائف الزوايا الدينية في القرن الأفريقي

14 فبراير, 2025
الصورة
Geeska cover
Share

كانت الزوايا والرباطات في الحضارة الإسلامية مؤسسات ثقافية واجتماعية، فقد اضطلعت بأدوار متنوعة، مثل نشر التعليم الإسلامي، ورعاية المشردين وطلاب العلم، وتوفير الملجأ للهاربين والخائفين... وغير ذلك من الوظائف المتنوعة.  

ظهرت في البداية كمراكز للزهد والعبادة، إلا أنها تطورت لتصبح تحفًا معمارية بفضل دعم الأمراء والملوك الذين زينوها بالقباب والنقوش، مما أضاف لها قيمة فنية، تعكس أصالة الفن الإسلامي. اليوم، تُعد هذه الزوايا معالم أثرية جاذبة للسياح في بعض الدول الإسلامية مثل المغرب.

لكن وبالرغم من هذه الأدوار الإيجابية، يرى بعض النقاد أن الزوايا ساهمت في نشر ثقافة الزهد والسلبية في المجتمعات، مما أثر على طاقات المجتمع، ودعم ثقافة الكسل والبطالة. ومع ذلك، فلا شك أن هذه المؤسسة كانت ذات أهمية كبيرة في الحفاظ على الهوية الإسلامية، خاصة في أفريقيا، حيث لعبت دورًا محوريًا في تعزيز الحياة الروحية والاجتماعية، ودعم الأنشطة العلمية والثقافية.

كانت الزوايا في منطقة القرن الأفريقي، حيث واجه الوجود الإسلامي تهديدات، بسبب الحروب الدينية والاستعمار، ملاذًا للأنشطة الثقافية والعلمية، وساعدت في تعزيز الهوية الدينية للمجتمعات. وهذا ما سوف نسلط الضوء على بإبراز الأهمية التربوية والثقافية والاجتماعية لهذه المؤسسة مع الإشارة إلى المخاطر التي تهددها.

عن الزاوية والمقام والحضرة

يرتبط مفهوم الزاوية في الثقافة الإسلامية بالعديد من المفاهيم، إلا أن أكثرها شيوعًا وانتشارًا في المعجم الثقافي للقرن الأفريقي هما: مفهومَا المقام والحضرة.

الزاوية في البناء تعني الركن، وفي الهندسة هي الفرجة بين خطين متقاطعين. تُطلق الزاوية على المسجد غير الجامع؛ أي الذي لا يحتوي على منبر ولا تقام فيه الجمعة، كما تشير إلى مأوى المتصوفة والفقراء.  

أما المقام فيعني موضع الإقامة أو القيام، ويُقصد به مكان إقامة الولي أو الضريح الذي يُدفن فيه، وقد يُلحق به زاوية أو مدرسة ومسجد. يبقى الفرق بين المقام والمشهد والضريح هو أن الضريح يحتوي على جثة المتوفى، بينما المقام والمشهد قد لا يحتويان عليها.

بينما تدل الحضرة على مكان الحضور أو التجمع، وتُطلق عند المتصوفة على ثلاثة أمور: حلقة الذكر أو مجالس الذكر؛ وأذكار وأوراد تُتلى جماعياً (ليلة الخميس)؛ والمكان الذي يجتمع فيه المريدون للذكر.

تلتقي هذه المصطلحات الثلاثة (الزاوية والمقام والحضرة) في ارتباطها بالتصوف ورموزه الثقافية. لكن مفهوم الحضرة يبقى أكثر التصاقاً بالتصوف، خصوصا التصوف الطرقي. وتُستخدم "الحضرة" للإشارة إلى مركز الجماعة الصوفية، بينما "الزاوية" تشمل المقام والحضرة، وقد تُطلق على أي مكان مخصص للعبادة أو التعليم أو إيواء الفقراء.

أنواع الزوايا في القرن الأفريقي

يمكن تصنيف الزوايا الدينية في منطقة القرن الأفريقي إلى ثلاث أنواع، حسب وظيفتها الاجتماعية والثقافية.  

الزاوية البسيطة  

تعرف هذه الزوايا محليًا باسم (مولع)، وهي لم تُبن على ضريح ولي، ولا ترتبط بطريقة صوفية، بل تكون دارًا أو فناءً يجتمع فيه الناس للصلاة ودراسة العلوم الشرعية، ويأوي إليها أبناء السبيل والغرباء. عادة ما يعتمد قاطنوها على دعم المجتمع المحلي من خلال الهبات والصدقات، ويكون انتشارها غالبًا في المناطق الزراعية والقرى.

الزاوية ذات الولي (المقام)  

تلك التي أنشئت حول ضريح من أضرحة الأولياء، وتُنسب إليه، فتشتهر وتصبح مزارًا يقصده الناس للتبرك والتوسل. ما يولد حولها معتقدات عن بركة الشيخ، وتنتشر روايات عن كراماته وتأثيره الروحي.

في القرن الأفريقي، هناك العديد من الزوايا البارزة، مثل زاوية القطب يوسف الكونين قرب هرجيسا، وزاوية الشيخ عمر الرضا في هرر، وزاوية الشيخ عبد الرحمن الزيلعي في قلنقول، وزاوية الشيخ أويس البراوي في بيولي، وزاوية الشيخ حسين نور في بالي بأروميا... وغيرها كثير.

كما توجد زوايا تُنسب لأولياء دون أن تشتمل على أضرحتهم، وتم تأسيسها بناءً على الاعتقاد بتجلي روحانية الولي في مكان معين، مثل زوايا عبد القادر الجيلاني، الذي تزعم الأساطير الشعبية أنه موجود في كل موضع ثلاث خطوات من الأرض. وفي هذا يقول يوسف بحر الشيخالي: هُوَ السَّاكِنُ يَاْ صَاْحِ ثَاْلِثَ خُطْــــــوَةٍ / مِنَ الأَرْضِ هُوَ المَشُهُوْرُ فِيْ كُلِّ بُقْعَةٍ

الزاوية الطرقية (الحضرة)

تكون المرتبطة بإحدى الطرق الصوفية، وتعرف محليًا بـ"الحضرة"، حيث تمثل مركز الطريقة ومقرها الرئيسي. يجتمع فيها الخلفاء والمريدون لتلاوة الأوراد وإقامة الصلوات، كما تُعد سكنًا ومدرسة للفقراء، وتنظم أعمالها بنظام خاص.

يتولى الإشراف عليها شيخ عارف يُرشد المريدين، ويعاونه الشاويش؛ وهو المسؤول عن محتويات الحضرة وإدارة الاجتماعات، وهناك الخدم الذين يتولون حفظ النظام وجمع الهدايا وخدمة الزوار.

عن تاريخ الزاوية الدينية

تنتشر الزوايا الدينية على نطاق واسع في القرن الأفريقي، لكن يصعب تحديد تاريخ ظهورها بسبب غياب التوثيق، وغلبة الاعتماد الروايات الشفهية. ذكر العمري في القرن الثامن الهجري أن المنطقة مع كثرة المساجد والجوامع لم تكن تعرف المدارس أو الزوايا، ما يشير إلى ظهورها في عصور لاحقة.  

إذا وضعنا كلام العمري في سياق عدم انتشار الزوايا التي كانت تقوم بدور الخانقاوات والرباطات في نشر التعليم، كما في بقية العالم الإسلامي، فإن هذا لا يعني انعدام وجود المقامات والزوايا المرتبطة بالأضرحة، مثل زاوية الإمام عمر الرضا في هرر وزاوية القطب يوسف الكونين، واللتان تعودان إلى القرنين السادس والسابع الهجريين.

أما الزوايا الطرقية التي اهتمت بنشر العلم الشرعي أكثر، فانتشرت مع التصوف الطرقي، وقد أشار الرحالة أوليا جلبي في القرن السابع عشر إلى وجود زوايا على الساحل الإرتيري، وذكر قلعة القادرية في زيلع.  

بلغت مثل هذه الزوايا ذروتها في القرن التاسع عشر حيث توسعت الطريقة الأحمدية في جنوب الصومال، وأنشأ أتباعها قرى زراعية مستوحاة من الحركة السنوسية. كما ازدهرت الزوايا القادرية في أوسا بوجود الإمام كبير حمزة، وزوايا في الصومال الغربي بفضل الإمام الزيلعي.

وظائف الزوايا الدينية في القرن الأفريقي

تحظى الزوايا الدينية بمختلف أنواعها بأهمية تربوية وثقافية واجتماعية وحضارية، يمكن إجمالها فيما يلي:  

الأهمية التربوية والتعليمية للزوايا

لعبت الزوايا دورًا أساسيًا في نشر العلوم الشرعية في القرن الأفريقي، حيث كانت مراكز تعليمية تجمع الطلاب الفقراء حول شيخ فقيه، يتلقون منه أصول الدين ثم يعودون إلى قراهم لنشر التعليم الإسلامي. كما أدت دورًا اجتماعيًا في الإفتاء، وإبرام عقود الزواج، وتأبين الموتى، والإصلاح المجتمعي.

إلى جانب التعليم، ساهمت الزوايا في الحفاظ على اللغة العربية، من خلال تدريس علومها كالبلاغة والنحو، واستخدام القصائد الدينية والمدائح النبوية التي حفظها الناس ورددوها. كما استخدمت العربية في العقود والمعاهدات الرسمية، وساهم العلماء في توثيقها، مما عزز مكانتها كلغة التعليم والمعاملات اليومية.

الأهمية الاجتماعية والثقافية للزوايا  

تُعتبر الزوايا المؤسسة الاجتماعية الأولى في المجتمع، نظرًا لدورها الكبير في تقديم الدعم الاجتماعي والثقافي. فقد كانت ملجأً للفقراء والغرباء والمسافرين، حيث وفرت المأوى والطعام للذين انقطعت بهم السبل. كما كانت مركزًا لتلقي الصدقة والزكاة، حيث كان المجتمع المحلي يعتبرها مصرفًا طبيعيًا لتوزيع العطايا على المحتاجين.  

إضافة إلى ذلك، لعبت الزوايا دورًا رئيسيًا في تنظيم الاحتفالات الدينية، مثل المولد النبوي وزيارات الأقطاب الصوفية، حيث كانت تجمع التبرعات وتنظم الفعاليات. في أوقات الأزمات، مثل الجفاف أو الكوارث الطبيعية، كانت الزوايا تقود مبادرات التكافل الاجتماعي، مثل إقامة الولائم للفقراء وتنظيم صلاة الاستسقاء.  

من الناحية الثقافية، كانت الزوايا مستودعًا لحفظ الموروث الديني والثقافي، حيث احتفظت بذكرى الأولياء والطقوس الدينية، وسجلت قصصًا وأساطير تاريخية. كما حفظت الزوايا مخطوطات وكتبًا إسلامية نادرة، مما جعلها مراكز للحفاظ على التراث الثقافي للشعوب.

الأهمية الحضارية للزوايا

لعبت الزوايا الدينية في منطقة القرن الأفريقي دورًا محوريًا في تحويل المجتمع البدوي القائم على الرعي والتنقل إلى مجتمع مستقر ومتحضر. فقد جذبت الزوايا، خاصة تلك التي تضم أضرحة مشهورة، السكان الرعويين لزيارتها والإقامة الدائمة فيها، مما أدى إلى نشوء تجمعات عمرانية حولها. تتحول هذه الزوايا خلال مواسم الزيارة إلى مراكز حيوية، تنشط فيها الخدمات والتجارة، مما ساهم في تطورها إلى مدن صغيرة ثم إلى مراكز حضرية كبيرة.

كما أن الزوايا التي أُقيمت بالقرب من الموارد المائية والأودية الخصبة ساعدت في تكوين تجمعات سكانية دائمة، مما عزز الاستقرار الاجتماعي وانتشار التعليم. ومن أبرز المدن التي نشأت أو ازدهرت بفضل وجود الزوايا والشيوخ البارزين: "هرر" اكتسبت مكانتها بفضل الشيخ عمر الرضا (أبادر)، و"هرجيسا" التي تأسست على يد الشيخ مطر أحمد شروع، ومدينة الشيخ وعبد القادر وأورشيخ وعلي صبيح...  جميعها ارتبطت بزوايا وأضرحة شيوخ بارزين. بذلك تكون الزوايا قد ساهمت بشكل كبير في تشكيل الحضارة والاستقرار الاجتماعي في منطقة القرن الأفريقي.

مقامات القرن الأفريقي تراث ثقافي مهدد

مع ظهور الحركة الوهابية، التي ركزت على هدم الأضرحة حتى وصفتها الصحافة الأوروبية بـ"هدّام المعابد"، تراجعت مكانة الزوايا في العالم الإسلامي، وتعرضت العديد منها للتدمير على يد الوهابية والجماعات المتشددة. وشهدت مناطق مثل: الحرمين الشريفين والعراق والشام هدمًا واسعًا للأضرحة، بما في ذلك أضرحة أهل البيت والصحابة.

في غرب أفريقيا، تعرضت معالم إسلامية في تمبكتو، مثل الزوايا والأضرحة، للتخريب من قبل الجماعات المتشددة. وفي القرن الأفريقي، هدمت حركة الشباب مقامات وزوايا صوفية، منها مقام الشيخ محيي الدين العِلي في مقديشو عام 2010، ما دفع الاتحاد العالمي للطرق الصوفية لإطلاق نداء عاجل لحماية هذه المواقع.

ردًا على هذه الاعتداءات، شكلت الجماعات الصوفية في الصومال كيانًا مسلحًا باسم "أهل السنة والجماعة" للدفاع عن مقدساتها. لكن تراجع التأثير الصوفي لصالح التيارات السلفية، أضعف الاهتمام الشعبي بالمقامات والطقوس المرتبطة بها، ما أدى إلى إهمالها.

في جيبوتي مثلا، تحولت بعض المقامات إلى مساجد أو مبانٍ سكنية، بينما فقدت أخرى دورها الديني، وأصبحت أماكن لتجمعات عشوائية وسط غياب الجهود الرسمية لحماية هذا الإرث الثقافي المهدد بالاندثار.

رغم التحديات التي تواجه الزوايا والمقامات في القرن الأفريقي، توجد مؤشرات إيجابية تبعث على الأمل لأن التصوف يتميز في المنطقة بخصوصية ثقافية تجعله جزءًا من الهوية الاجتماعية، حيث ترتبط الزوايا والمقامات بتقديس الأجداد، مما يجعلها إرثًا قبلياً وعائلياً يُحافظ عليه.

كما توجد جهود دولية كتلك التي تبدلها منظمة اليونسكو لحماية هذا التراث، حيث أدرجت مواقع في هرر ضمن قائمة التراث العالمي. وهناك وعي متزايد لدى الشباب بأهمية الربط بين الماضي والحاضر، سعيًا لإعادة إحياء التراث الديني والثقافي.

ولضمان بقاء هذه الزوايا كإرث ثقافي، نقترح حصرها في سجلات رسمية، وترميمها، وسن قوانين لحمايتها. كما ندعو اليونسكو لإدراج زوايا تاريخية مهمة، مثل زاوية الإمام يوسف الكونين وزاوية الإمام با يزيد، ضمن قائمة التراث العالمي بهدف حمايتها للأجيال القادمة.