الأربعاء 9 يوليو 2025
توفي شاب صومالي أمريكي يدعى عمار عبد الحميد عبد الرحمن، في سن 17 عامًا، إثر تعرضه للضرب في مركز الفجر للعلاج والتأهيل بمدينة قرطو بولاية بونتلاند شمال شرق الصومال. بدأت قصة عمار الذي وُلد ونشأ في كنف والديه المهاجرين في ولاية مينيسوتا، عندما قررا إرساله إلى الصومال لاكتشاف ثقافته وزيارة الأقارب. كان الشاب ذكيا ومنفتحا وعنيدا ومتمردا وكثير الأسئلة، مما أثار حيرة القائمين بهذا المركز، ما جعل اللجوء إلى أسلوب التعنيف بالضرب أحد الخيارات الممنهج.
أفادت والدة عمار (شكري حرسي) في مقابلة مع قناة فوكس9: "أن ابناها تعرض للضرب حتى الموت من قبل خمسة أشخاص من بينهم المدير، حين كان يحتج على أساليب التعامل غير اللائقة في المركز، بطبعه العنيد. لهذا السبب، عذبوه وقتلوه، حيث تُظهر صور صادمة آثار الضرب المبرح بالسوط على جسم المرحوم (عمار)".
انتشر في الآونة الأخيرة ظاهرة الرقية الشرعية بالعاصمة الصومالية مقديشو ومدن أخرى، وتزايدت بشكل غير مسبوق، مما أثار جدلاً واسعًا بين مؤيد ومعارض، فهناك من يرى فيها علاجاً روحياً فعالاً، فيما يرى غيرهم أنها قد تكون مضللة أو تستغل من قبل ضعاف النفوس، من يقدمون أنفسهم رقاة أو معالجين لتحقيق مكاسب مادية واستغلال.
هذه الظاهرة آخذة في الازدياد، وإن تفاوتت نسبة الزيادة من مدينة إلى أخرى، فإحصائيات الأمم المتحدة تشير إلى أن شخصا من كل ثلاثة صوماليين يعاني من أزمة نفسية حادة، ما يؤدي إلى اضطراب شديد في التماسك الاجتماعي. تبقى هذه النسبة خطيرة وحرجة، ما يتطلب علاجا خاصا لتطويقها والتخفيف من حدتها.
في ظل حياة مليئة بالضغوطات والمتاعب والصراعات، لا تزال الرقية الشرعية علاجا يلجأ إليه الكثيرون، لتخلص من الهموم والأحزان، بسبب وضع معيشي صعب، وانتشار حالة من القلق والاكتئاب، وتفشى الأمراض والاضطرابات النفسية في المجتمع الصومالي في الفترة الأخيرة. فضلا عن أن العزلة والفقر وانتشار البطالة وتردي الأوضاع المعيشية أحد العوامل المشجعة لانتشار هذه الظاهرة، بالإضافة إلى القصور الكبير للاختصاصيين النفسيين في البلاد، ما يجعل الرقية سبيلا لدى البعض لتخلص من مشاكله، لا سيما النساء، فهن أكثر الفئات إقبالاً على مراكز الرقية والمعالجين، ممن يدعون القدرة على إخراج "السحر والعين والحسد" من أجسادهن، بمختلف مسمياتهم، حسب ما يقول الدكتور محمد طاهر عبدالكريم، المحاضر بالجامعة الوطنية الصومالية لـ"چيسكا".
يعتبر الأديب الصومالي، فارح بنين بوص، العلاج بالرقية الشرعية من أقدم وأعرق الطرق للعلاج، فظهوره يعود إلى مجيء الإسلام في البلاد، وإن اختلفت الوسائل والطرق التي يمارس بها، فكان الراقي "المعالج" يتمتع بقدسية واحترام ومكانة اجتماعية مرموقة، لكونه حافظ لكتاب الله، فوظيفته في العلاج والاستشفاء من الأمراض كانت تدر عليه أموالا أو مواشي توهب له نظير عمله. يعرف محليا باسم "AF KU TUFLE" حيث يقرأ ما تيسر من القرآن، ثم ينفث على المريض، ويدعو بالدعوات. كما يقوم ب"تشخيص" نوع المرض الذي يعاني منه المريض، وإعطاء النصائح النفسيّة لضمان حصوله على العلاج المناسب.. وغير ذلك من الممارسات المنتشرة في القرى والبوادي.
يذهب فارح بنين بوص إلى الاضطرابات السياسية والأمنية التي شهدتها البلاد في المرحلة التي أعقبت اندلاع الحرب الأهلية في التسعينات، تعد من أكبر العوامل التي تساهم في زيادة الاضطرابات النفسية. بالإضافة إلى تعاطي القات والمخدرات والبطالة وغير ذلك مما دفع نسبة كبيرة من الصوماليين، غالبهم من النساء، نحو دور العلاج بالرقية، لتقى العلاج وتخفيف وطأة معاناتهم.
يتميز المجتمع الصومالي بكونه مجتمعًا تقليديًا محافظًا، ما يجعل الرقية جزءًا من الثقافي والديني في البلاد، حيث يلجأ إليها الناس طلباً للشفاء من الأمراض الجسدية والنفسية. ما يجعل ظاهرة التماس العلاج ب"الرقية" أحد خيارات العلاج من الأمراض المختلفة، لارتباطها بالاعتقاد الديني، واعتقاد بعض الناس بأنها وسيلة شرعية للشفاء من الأمراض الروحية والجسدية.
يؤكد الدكتور محمد طاهر عبدالكريم، في هذا السياق، أن عودة ظاهرة "الرقية الشرعية" إلى الواجهة في البلاد، مترتبطة ارتباطاً وثيقاً بالثقافة المجتمع، ولا أحد ينكر بأن القرآن هدى وشفاء. لكن بعض الرقاة استغلوا "الرقية" استغلالا سيئا من خلال معاناة المواطنين وإيمانهم وصدق نواياهم من قبل مُدّعي الرقاة، من أجل تحقيق مكاسب مادية، واستغلال عواطف المرضى، وإغراء المريض بشراء الخلطات العشبية، التي يتم الترويج لها كعلاج فاعل.
كما يقوم بعض المعالجين بممارسات مثيرة تصل مستوى تعذيب المريض بالصعق بالكهرباء والخنق والرش بالماء، وحتى استخدام مكبر الصوت ما يلحق أدى بالمرضى. وهناك مَن يخرج عبر مواقع التواصل الاجتماعي بتصوير المرضى، ونشر تلك الصور دون أخذ موافقة من ذويه، وقد استغلَّ هذه المهنة فاقدو الضمير والمبتزّون، وما إلى ذلك من ممارسات تتسبب في نتائج كارثية على المرضى.
تزايد الاهتمام بالرقية الشرعية يعود إلى عدة عوامل من بينها تردّي الأوضاع المعيشية والتحوّلات الاجتماعية والثقافية المتسارعة التي تشهدها البلاد، والبحث عن بدائل للعلاجات الطبية التقليدية. كل ذلك أدى إلى بروز مراكز الرقية إلى الواجهة كأحد أهم الوسائل العلاجية لبعض الأمراض والاضطرابات النفسية، وأن الإقبال على مراكز الرقية رافقه استغلال بعض القائمين لمعاناة المواطنين، حتى صارت بابا للكسب المادي لكل عاطل عن العمل.
يقوم بعض المعالجين بممارسات مثيرة تصل مستوى تعذيب المريض بالصعق بالكهرباء والخنق والرش بالماء، وحتى استخدام مكبر الصوت ما يلحق أدى بالمرضى
ترجع فاطمة محمد حوش، الخبيرة في علم النفس التربوي، أسباب إقبال الناس على التداوي بالرقية في البلاد لعدة أسباب، أهمها وجود إرث تاريخي وديني ومجتمعي يتقبل ويشجع على الرقية الشرعية، فشريحة كبيرة من المرضى جربوا العلاج الرقية قبل اللجوء إلى المستشفيات. إضافة إلى تسامح المجتمع وتقبله لبعض أخطاء ممارسي الرقية، فضلا عن عدم وجود سياسات واضحة تتُقنن أعمال هذه المراكز.
فكرة إنشاء مواقع التواصل الاجتماعي كانت أحد الوسائل الفعالة للغاية قصد الوصول إلى أكبر عدد من العملاء المستهدفين، حيث يستخدم أصحاب المراكز المنصات لنشر أشرطة صور وفيديو، وأحيانا تقومون ببث مباشر لطقوس رقية المرضى، مع عرض عدد من الحالات في مشاهد لا تحترم الخصوصية من أجل الترويج لعملهم، واستعراض قدراتهم الخارقة على معالجة المس من الجن وإبطال السحر أو الحسد أو غيرها بهدف التكسب وتحقيق الشهرة. ويصل الأمر بأصحاب هذه الصفحات، التي تحمل اسم الراقي نفسه، وتعرض أرقاماً هاتفية وبريداً إلكترونياً في دعوة المرضى للاتصال بهم وتحديد موعد للزيارة.
لا تزال الرقية الشرعية علاجا يلجأ إليه الكثيرون، لتخلص من الهموم والأحزان، بسبب وضع معيشي صعب، وانتشار حالة من القلق والاكتئاب، وتفشى الأمراض والاضطرابات النفسية في المجتمع الصومالي في الفترة الأخيرة
يقول الدكتور محمد طاهر عبدالكريم: "إن هذه المراكز باتت مرتعا لكل من هبّ ودب، وأضحت الرقية مهنة من لا مهنة، وأن بعض القائمين لا علم شرعي لديهم، حيث أصبحت تحدث هناك انحرافات كثيرة، يستغل فيها العلاج بالقرآن لتحقيق مكاسب مادية لا غير، بعدما كان الرقاة الشرعيون قديما يتمتعون بالحكمة والوقار ويتشبعون بالقيم الدينية والأخلاقية العالية".
تروي روضة محمد علمي، أحد ضحايا هذه المراكز، تجربتها قائلة: "كلما تقدم شخص بغرض الزواج؛ لا يتم الأمر بدون أسباب واضحة، أنا كنت جزء من المشكلة، تأخر زواجي، كلما اقترب الموعد أبحث عن أعذار للمتقدم؛ لكي أتخلص منه، وأحاول إقناع نفسي بأني محقة بذلك حتى أهلي استغربوا الأمر، نصحني أحد أقاربي بالذهاب إلى الرقاه للعلاج، وبدون تردد قررت الذهاب إلى الرقاة بعد حجزي موعد جلسة، وبدأ الشيخ بتشخيص حالتي واستماع بي"، قائلا: "إن هذه الأعراض تذل على أنك مصاب بالمس والحسد"، وتؤكد روضة أنها استمرت للجلسات وسط مجموعة كبيرة من الناس يجلسون في فناء المركز، ويشغل الراقي سماعات كبيرة تسمع بعض الآيات القرآنية، ويرش الماء المقروء عليه، معه عصى يضرب لمن استعصى له خروج الجني".
تضيف روضة أنها تعرضت للضرب بالعصا والصعق بالكهرباء وربط الأصابع والخنق أثناء فترة العلاج، وأحيانا تسمع أصوات البكاء والصراخ وطلب النجدة من المرضى، ولا توجد حيلة للهرب إلا أن تنتهي الفترة المحددة لك، لوجود حراس على البوابة الرئيسية. كان البكاء والصراخ الوسيلة الوحيد للتخفيف من شدة الضرب على مواضع من الجسد، بذريعة طرد وتخويف الجن والشياطين أو فك السحر، فهؤلاء يبرون ذلك بجواز استخدام كل وسيلة مشروعة لإخراج الجن من البدن، وأن تلك الأصوات صادرة عن الجن، لا عن المريض، بعد شهر ونص لم أجد تحسنا يذكر، كنت أشعر بالقلق من خسارة المال والصحة، فقد بلغت التكاليف الإجمالية 1500 دولار، وهي تتضمن أجرة الراقي والأعشاب بالإضافة المواصلات.
تعرضت للضرب بالعصا والصعق بالكهرباء وربط الأصابع والخنق أثناء فترة العلاج، وأحيانا تسمع أصوات البكاء والصراخ وطلب النجدة من المرضى، ولا توجد حيلة للهرب إلا أن تنتهي الفترة المحددة لك، لوجود حراس على البوابة الرئيسية
لا تختلف تفاصيل الضحايا كثيرا، فهي تكاد تتشابه من حيث التداعيات السلبيّة، حيث يستغل بعض الرقاة معاناة المواطنين، كما يفيد عبدالرحمن عبدالله أحد ضحايا مراكز الرقية، في حديث مع "چيسكا": "أنه تناول الأعشاب التي وصفها أحد الرقاة يسمى "شيخ رشيي يرى" في مقديشو، ما تسبب له في إصابة بارتفاع ضغط الدم مفاجئ والصداع لمدة ثلاثة أشهر، وانتقل من مستشفى إلى مستشفى آخر، بعد فشل كل محاولات العلاج، شخص الأطباء إصابتي بشلل في الأرجل وعدم القدر على السير، منذ ما يقارب أربع سنوات أنا غير قادر على التبول إلا عبر أنبوب مطاطيّ رفيع لإزالة البول المُحتَبِس، بعد أن تناول الخلطات العشبية تسببت لي في مضاعفات خطيرة، أدخلتني في عالم آخر من المعاناة والألم. لم أعد أستطيع الوقوف، ولا حتى المشي، أصيبت بألم حاد في المسالك البولية".
يضيف ساردا معاناته مع الوضع الجديد: "عندما جئت إلى المركز، كنت أمشي على قدمي إلا أني كنت أعاني آلام في الظهر، للأسف الشديد تدهور صحتي بعد تناولي هذه الخلطات العشبية، لا أعرف ماذا أفعل؟ بعدما وصلت الأمور إلى مرحلة لم تعد تطاق ولا شيء ينفع، قررت أن أشارك قصتي مع وسائل الإعلام لعلّ وعسى أجد من يوفر لي الدعم المعنوي والمادي، وانتشر قصتي انتشارا واسعا حتى تحولت لمادة دسمة للإعلام، وصلتني تهديدات من "الشيخ" المتهم الأول وجماعته الذي أدخلني إلي عالم آخر من المعاناة والألم، وطلبوا مني الكف عن التحدث إلى وسائل الإعلام، وكان ردي الرفض والمواجهة مهما كلفتي، وما تزال تصلني التهديدات، وأختفي من حي إلى حي حتى فقدت الأمل، قائلا: "حسبي الله ونعم الوكيل".