السبت 17 مايو 2025
يتشارك السودان وجنوب السودان تاريخًا طويلًا من التعايش والاحتكاك الثقافي والاجتماعي، منذ ما قبل الاستعمار وحتى بعده، امتدادًا من عام 1955 وحتى إعلان انفصال جنوب السودان رسميًا في عام 2011. أسهم هذا التاريخ المشترك في نشوء تداخل ثقافي عميق، خاصة من خلال السياسات المركزية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة في السودان قبل الانفصال، والتي سعت إلى تعريب وأسلمة جنوب السودان، كما هو الحال مع سياسة الرئيس إبراهيم عبود (1958-1964) مرورا بالرئيس جعفر نميري (1969-1985) وصولا إلى عمر البشير(1989-2019)، كل هذه السياسات التي كانت تعمل على سلب الهوية الأفريقية للإنسان الجنوب سوداني.
أدى هذا الواقع إلى تحويل جنوب السودان لمنطقة متعددة الثقافات والهويات، تمتزج فيها الخصائص الأفريقية الزاخرة بالأغاني والرقصات واللغات المحلية والتقاليد القبلية، مع عناصر من الثقافة العربية والإسلامية، مثل ارتداء النساء لـ"الثوب السوداني"، ولبس الرجال للجلاليب، إلى جانب استخدام اللغة العربية في الحياة اليومية، بلهجات مختلفة ومتنوعة، وفق المناطق والانتماءات القبلية.
هذا التداخل لا يعني غياب الهوية الثقافية المستقلة لجنوب السودان، بل يعكس حالة من التفاعل والتشكل المستمر للهوية الجنوبية، خصوصًا في ظل انفتاح البلاد بعد الاستقلال على ثقافات شرق أفريقيا وشمالها. بالإضافة إلى التأثير العالمي، وهو ما وضعها في حالة إعادة إنتاج وتعريف مستمرة لهويتها الوطنية والثقافية.
تعود أصول استخدام الحناء إلى العصر الفرعوني، قبل أكثر من تسعة آلاف عام، حيث استُخدمت لأغراض التجميل وتزيين الأظافر وصبغ الشعر وحتى علاج الجروح. انتقل الحناء عبر بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط، بما فيها الهند، وأصبحت عنصرًا رئيسيًا من زينة النساء في المناسبات. وقد عرفها السودانيون عبر الحضارة النوبية، وصار يستخدم لنفس الأغراض، وكما يستعمل أيضًا من قبل الرجال في حفلات الزواج فقط.
في السياق السوداني، تمثل ليلة الحناء تقليدًا راسخًا في أعراس الشمال والوسط، حيث تُقام عادة قبل يوم أو يومين من الزفاف، وترتدي العروس خلالها ثوبًا جديدًا، وتُقدَّم صينية مزينة بالشموع والحناء والبخور والعطور التقليدية، مثل: الصندل والمسك، بهدف "ترقيتها" وتحصينها روحانيًا. بالموازاة تُقام حفلة مماثلة للعريس، يرتدي فيها الجلباب الأبيض المعروف بـ"السورتي" مع طاقية حمراء، وتُوضع الحناء على يديه وقدميه بطريقة تقليدية.
التداخل لا يعني غياب الهوية الثقافية المستقلة لجنوب السودان، بل يعكس حالة من التفاعل والتشكل المستمر للهوية الجنوبية، خصوصًا في ظل انفتاح البلاد بعد الاستقلال على ثقافات شرق أفريقيا وشمالها
يرى الباحثون أن ليلة "الحنة" تقليد فرعونى قديم، بدأ في بلاد النوبة، حيث جرت العادة في النوبة القديمة على أن يوم وليلة الحناء مميزان، فيبدأ العريس يومه في الصباح الباكر بتقديم «ذبيحة» قد تكون من الماشية على أن يحضرها كل أهل القرية.
هذا الطقس الذي يُعد من الطقوس الأساسية في الأعراس السودانية، انتقل لاحقًا إلى جنوب السودان، خاصة في المدن الكبرى، مثل جوبا، بفعل الهجرة والاحتكاك الثقافي والتعليم والإعلام والزواج المختلط، ليصبح تقليدًا محببًا تتبناه الكثير من الأسر الجنوبية، وإن اختلفت بعض تفاصيله.
بدأت حفلات الحناء بالانتشار في الآونة الأخيرة، بشكل واضح في مناسبات الزواج ببلاد جنوب السودان، لا سيما في العاصمة جوبا، حيث تشهد الأعراس طقوسًا مستلهمة من "ليلة الحنة" السودانية و"الجرتق" معًا، وفق ما توضحه المحامية أدوت أنوان، التي أقامت حفلة مماثلة في زفافها.
تُقام هذه الحفلات بحضور العروسين معًا، إلا أن الحناء لا تُوضع على الأيادي كما هو معتاد في الأعراس السودانية، بل تُستخدم لأغراض رمزية فقط، حيث توضع صينية الحناء والبخور والعطور أمام العروسين، بينما ترتدي العروس "ثوب الجرتق الأحمر" مع الزينة التقليدية، مثل "القدلة" على الرأس و"الخويشات" الذهبية في اليد.
تقدَّم خلال الحفل المكسرات السودانية وفي مقدمتها الفول السوداني، بالإضافة إلى الأرز باللبن والمشروبات، بينما يُطلق على الأصدقاء المقربين من العروسين اسم "الوزراء" أو "الشبائن"، وهم يرافقون العروسين طوال الحفل.
الثقافة تُكتسب من البيئة، وأن الهجرات الداخلية والخارجية الناتجة عن الحروب أسهمت في تشكيل هويات متداخلة لسكان الجنوب، خاصة في المناطق الحدودية، التي ساهمت التفاعلات التجارية والاجتماعية مع الشمال في تبني بعض الطقوس الثقافية
تُعد هذه المراسم مزيجًا ثقافيًا يجمع بين تقاليد سودانية وافدة، وعناصر محلية تُضفي عليها لمسة من هويتهم الأصلية. ورغم تزايد شعبية هذه الحفلات، إلا أنها لا تزال تثير الجدل في المجتمع الجنوبي، إذ يرى فيها البعض طقوسًا دخيلة على الثقافة الأصلية. ففي العام الماضي، أصدر ملك (رث) قبيلة الشلك قرارًا بمنع حفلات الحناء، معتبرًا أنها من العادات الوافدة التي ترفع من تكاليف الزواج، وتتعارض مع تقاليد مملكة الشلك التي يجب الحفاظ عليها.
تُعلّق الناشطة الاجتماعية والدبلوماسية أبوك أشويل بلبك على هذا التداخل الثقافي بقولها: "إن المرأة الجنوبية تنظر إلى الحناء بشكل مختلف، فهي ليست مجرد زينة بل رمزا اجتماعيا يدل على دخولها مرحلة الزواج. فظهور الفتاة بالحناء يُفهم ضمنيًا على أنها باتت زوجة، وهذا ما يجعل استخدام الحناء محصورًا غالبًا في مناسبات الزواج تحديدًا، حفاظًا على هذه الدلالة الرمزية".
تشير بلبك إلى أن العديد من العرائس الجنوبيات، رغم ارتباطهن بثقافتهن المحلية، يخترن ارتداء "الثوب السوداني" خلال حفلات الزفاف، خصوصًا اللواتي نشأن في الخرطوم أو تأثرن بالثقافة الشمالية، في حين تفضل أخريات ارتداء الزي التقليدي المعروف بـ"اللاوه"، وهو زي ملون يعكس الهوية الثقافية المحلية.
أما بشأن الأغاني، ففي السودان تُغنّى أغاني البنات الخاصة بالحنّة باستخدام "الدلوكة" والزغاريد، بينما في جنوب السودان تُدمج الأغاني المحلية باللغات المختلفة مع الرقصات التقليدية.
تُعد أفريقيا من أكثر قارات العالم تنوعًا ثقافيًا، حيث تتعدد فيها اللغات والأديان والأعراق والأنماط الثقافية. وقد تأثرت هذه التعددية بالفتوحات الإسلامية والعربية، ثم بالاستعمار الأوروبي، مما زادها تعقيدًا، وأنتج تداخلًا مستمرًا بين الثقافات. ونتيجة للهجرة، نجد قبائل مثل: الهوسا في غرب أفريقيا، والأمازيغ والطوارق في شمال القارة، واللو في كينيا، يحملون هويات متداخلة ومتعددة الجذور.
في هذا السياق، وعن جنوب السودان، تعتبر الباحثة رحمة محمد نور أوجوه أن الثقافة تُكتسب من البيئة، وأن الهجرات الداخلية والخارجية الناتجة عن الحروب أسهمت في تشكيل هويات متداخلة لسكان الجنوب، خاصة في المناطق الحدودية، مثل "الرنك" بأعالي النيل، التي ساهمت التفاعلات التجارية والاجتماعية مع الشمال في تبني بعض الطقوس الثقافية مثل حفلات الحناء.
تُعد هذه المراسم مزيجًا ثقافيًا يجمع بين تقاليد سودانية وافدة، وعناصر محلية تُضفي عليها لمسة من هويتهم الأصلية. ورغم تزايد شعبية هذه الحفلات، إلا أنها لا تزال تثير الجدل في المجتمع الجنوبي، إذ يرى فيها البعض طقوسًا دخيلة على الثقافة الأصلية
يعكس هذا الواقع مقولة المفكر إدوارد سعيد بأن الهويات الثقافية ليست كيانات ثابتة تُورث، بل هي نتاج اجتماعي وثقافي يتشكل من خلال التفاعل مع الآخر، سواء عبر الهيمنة أو المقاومة. وتبقى الهويات الثقافية في المجتمعات المتأثرة بالاستعمار هويات هجينة ومركبة، تدخل في حالة إعادة تشكيل دائمة مع تغير الظروف السياسية والاجتماعية.
عليه، فإن التداخل الثقافي بين السودان وجنوب السودان ليس مجرد إرث تاريخي، بل هو حالة حيوية من التفاعل والتأثير المتبادل، تجلت بشكل واضح في طقوس الزواج، مثل: حفلات الحناء وفي اللباس واللغة والموسيقى. وهو ما يعكس ديناميكية الثقافة الجنوب سودانية في إعادة تشكيل ذاتها باستمرار، في مشهد غني بالتنوع والانفتاح، يعكس جوهر الهوية الأفريقية العابرة للحدود.