الخميس 15 مايو 2025
يعد كتاب "كيف تلتئم: الأمومة وأشباحها"، للكاتبة إيمان مرسال عملا أدبيا فكريا للكاتبة والشاعرة المصرية إيمان مرسال، حيث تتناول تلك التجربة بأبعادها النفسية والاجتماعية والفلسفية، وبأسلوب يجمع بين الذاتي والبحثي، متجاوزة التصورات المثالية والرومانسية الشائعة حول الموضوع، فهي تنطلق من حالتها الشخصية، وفي الوقت نفسه تسعى لفهم تمثلات دور الأم في الأدب والثقافة، وكيف تتكون هذه الهوية ضمن سياقات الحياة الإنسانية المعقدة.
الكتاب رغم قصره، مليء بالأفكار التي تتناول قضايا كبرى، مثل: الهوية والحب والمسؤولية والفقد. نجح في خلق مساحة للحوار بين تجربة الكاتبة والنصوص الأدبية الأخرى، بالإضافة إلى النظريات النفسية، وقد أثارت إهتمامي تلك النظرية التي تعود إلى دونالد وينيكوت الذي يطرح الذي يرى أن الأمومة ليست فطرة تولد عليه المرأة، بل مهارة يمكن اكتسابها.
تقول الكاتبة: "لكن، ماذا لو أن الأمومة ليست غريزة ولا اختيارًا، وإنما شيئا نتعلمه بمرور الوقت، مثل اللغة، مثل القراءة والكتابة؟ هذه الفكرة التي يطرحها المحلل النفسي وطبيب الأطفال دونالد وينيكوت تجعلني أتأمل كيف تشكلت علاقتي بابني: كيف بدأت غير متأكدة مما أفعل، كيف كنت أقرأ الكتب لأتعلم كيف أكون أمًّا، وكيف أنني كنت أخطئ وأتعلم، مثلما يفعل أي شخص يحاول اكتساب مهارة جديدة".
في البداية عرضت إيمان منظورًا نقدياً للصور النمطية المرتبطة بالأم، من خلال تقسيمها إلى نموذجين: أحدهما عن أمومة المتن التي تمثل التصور الثقافي العام للأم المثالية التي يجب أن تتحلى بكل خصائص القدسية والتفاني والتضحية، والتي يتوقع منها أن تكون بلا عيوب. لكنها لا تعكس بالضرورة التجربة الواقعية. والأخر عن أمومة الهامش التي تخرج عن المثالية المزعومة، مثل التي تعبرعن نفسها ايروتيكيًا أو تفضل الانفصال المؤقت عن أبنائها في عمل، أو حتى تعبرعن نفسها كامرأة قبل أن تكون أمًا، فيشعرها المجتمع قسرًا بالذنب، وفي العموم يأتي الشعور بالذنب جزء لا يتجزأ من تلك العملية.
ثم تحدثت عن صورة الأم الفوتوغرافية على مر العصور، وكيف أن الطريقة التي يتم تصويرهن قد تغيرت، حيث غالبًا ما كانت تختفي تحت قطعة قماش، وهو ما يعكس نوعًا من الحجب_القداسة، وكأن الهدف هو إبرازها كحاضنة ومقدمة للرعاية فقط، وإسقاط هويتها الفردية.
تصاب الهوية بالتفكك في تلك التجربة، حيث يصبح جسد المرأة ووقتها وطاقتها مكرسين لطفلها، وقد حاولت إيمان التطرق إلى تلك الجزئية المغيبة من الخطابات السائدة، فتقول: "أن تصبحي أماً يعني أن تتحولي إلى مرآة، يرى فيها طفلك العالم، وترين فيها أنت نفسك من جديد". وفي هذا تلميح إلى أن الأم تعيد اكتشاف ذاتها من خلال طفلها، لكنها في الوقت ذاته يلازمها الشعور بأنها مجرد انعكاس لحاجاته.
تستحضر الكاتبة تجربة فقدان والدتها، وتتأمل كيف ترك هذا الغياب أثراً عميقاً في علاقتها بابنها، فالعناية بالطفل، في أحد أوجهها تمثل امتدادًا أو محاولة لاستعادة العلاقة بالأم الأولى، مهما كانت هذه العلاقة سعيدة أو معقدة، كما يتكرر في النص هاجس الفقد، ليس فقط في صورته النهائية كالموت أو المرض، بل أيضًا في صورته اليومية: الشعور بالعجز عن حماية الطفل من العالم، أو الخوف من فقدان التواصل والسيطرة مع مرور الوقت.
قد يلاحظ القارئ أن إحدى الأفكار المركزية في الكتاب هي أن الأمومة ليست فعل حب أو رعاية فحسب، بل هي كذلك ساحة صراع بين الذات ومتطلبات الآخرين، وقد تحدثت عن صعوبة التوفيق بين الطموح الشخصي والالتزامات الأسرية، وعن القلق الدائم من عدم القيام "بالدور" كما يجب، هذه الإشكاليات تظهر بشكل خاص لدى النساء العاملات أو المبدعات اللواتي يجدن أنفسهن ممزقات بين أدوار متعددة، تقول: أن تكوني أماً هو أن تعيشي مع الأشباح، أن تحاولي التعايش مع تلك الكائنات التي تستوطن مخاوفك، وتعيد تشكيل علاقتك بالعالم.
هذا الاقتباس يعكس رؤية إيمان مرسال كحالة نفسية معقدة، تتجاوز مجرد الرعاية الجسدية والبيولوجية للطفل، إلى تجربة مليئة بالأشباح والمخاوف العميقة التي قد تكون ناتجة عن تجارب شخصية، أو تراكمات اجتماعية، أو حتى إرث نفسي غير واعٍ، واستخدام كلمة "الأشباح" يرمز إلى المخاوف والقلق الذي يرافق العملية بشكل عام، فالأم لا تواجه فقط مسؤولية تربية طفلها، بل تصارع أيضًا هواجسها الداخلية المتعلقة بالنجاح والفشل وفقدان الذات، أو حتى إعادة مواجهة ذكرياتها الشخصية.
وفي فصل آخر تلفت الانتباه إلى أن التجربة مشبعة بالإرث النفسي والاجتماعي الذي تحمله كل أمرأة من ماضيها، ومن تجارب نساء سبقنها، وتعبرعن ذلك: "كأنّ الأمومة ليست بداية جديدة، بل استكمال لصراعات أقدم"، وهي جملة تلخّص الرؤية الفلسفية للكتاب بأكمله، حيث يتحول الحدث إلى مرايا تعكس أعماق الذات وتاريخها.
كيف تلتئم: الأمومة وأشباحها هو كتاب استثنائي في طرحه، حيث يتناول الموضوع من زاوية جديدة، تخلّصه من القوالب النمطية، وتعيد قراءته كجزء من تجربة الحياة بكل تعقيداتها، إنه كتاب جدير بالقراءة لكل من يهتم بالأدب، والدراسات الثقافية، والنسائية، والنقد الاجتماعي.