تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

ميناء عصب في الحسابات الإثيوبية الإريترية: بين ضرورات الجغرافيا واحتمالات المواجهة

22 سبتمبر, 2025
الصورة
ميناء عصب في الحسابات الإثيوبية الإريترية: بين ضرورات الجغرافيا واحتمالات المواجهة
Share

يبدو أن افتتاح رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد" لسد النهضة، الذي شيدته أديس أبابا على النيل الأزرق، في 9 سبتمبر/أيلول الجاري، قد عزز من طموحاته في الوصول إلى سواحل البحر الأحمر، باعتبار أن بلاده صارت قادره على حل كافة معضلاتها، حتى لو تطلب الأمر الدخول في حرب مسلحة، غير آبه بأي اعتبارات سياسية وإقليمية أخرى.

يستعد رئيس الوزراء الإثيوبي للانتخابات البرلمانية 2026، ويسعى لاستكمال مشروعه السياسي، حيث يربط اكتمال السد بحق بلاده في استعادة منفذها على البحر الأحمر، بعدما فقدت ميناء عصب قبل ثلاثة عقود، بعد استقلال إريتريا عن إثيوبيا عام 1991، باعتباره "خطأً تاريخيًا" حان وقت تصحيحه.

لم تكن تصريحات آبي أحمد "شطحة سياسية" أو زلة لسان، بل إعلان نوايا واضح عن الدخول في صدام مع إريتريا، وهو الأمر الذي قوبل برد إريتري غاضب اعتبره دعوة صريحة للحرب، بما يعيد إلى الأذهان ذكريات الحرب التي دارت رحاها بين البلدين في الفترة من 1998 و2000.

عن أصول الصراع الإثيوبي الإريتري

اتسم الصراع بين إثيوبيا وإريتريا بجذور تاريخية متشابكة، تمتد من حق تقرير المصير والاستقلال، مرورًا بالنزاعات الحدودية، وصولًا إلى الصراع على المنافذ البحرية، وهو صراع تطور في بعض مراحله لحرب استمرت لعامين، وانتهت في عام 2000.

اندلعت الشرارة الأولى للخلاف عام 1960، حين قررت الأمم المتحدة منح إريتريا الحكم الذاتي في إطار حكم فيدرالي مع إثيوبيا، الأمر الذي أشعل صراعًا مسلحًا عام 1961 بين قوات الجيش الإثيوبي وحركات التحرر الإريترية، التي سيطرت بقيادة أسياس أفورقي، على العاصمة أسمرا في 24 مايو /أيار 1991، فأصرت على تنظيم استفتاء، وذلك ما تحقق لها عمليا في أغسطس /آب 1993.

بعد سنوات من الهدوء المتوقد، اندلعت حرب واسعة بين البلدين عام 1998، بسبب تصاعد الخلاف حول السيادة على مناطق حدودية، وإعلان إريتريا – آنذاك - سيطرتها على بعض الأراضي الإثيوبية، الأمر الذي اعتبرته أديس أبابا اعتداء على السيادة. ما أشعل فتيل حرب أودت بحياة نحو 100 ألف شخص من الجانبين، وانتهى النزاع بتوقيع "اتفاق الجزائر" عام 2000، الذي نصّ على وقف إطلاق النار، وتشكيل لجنة لترسيم الحدود بين البلدين.

لم يفلح اتفاق الجزائر في معالجة مسببات النزاع، فقد رفضت إثيوبيا الالتزام بقرار لجنة ترسيم الحدود الذي منح بلدة "بادمي" لإريتريا، وظلّت العلاقة بين البلدين متوترة على مدى نحو عقدين، حتى عام 2018 الذي شهد تحوّلًا بارزًا تمثل في توقيع اتفاق سلام بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي في المملكة السعودية "اتفاق جدة"، والذي أنهى بشكل رسمي حالة الحرب المستمرة منذ عام 1998، وأعاد العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية، لكنه لم ينجح في حل جميع القضايا الخلافية بين الطرفين، وبقيت مسألة ترسيم الحدود والوصول الإثيوبي إلى البحر الأحمر عبر الموانئ الإريترية، وتحديداً ميناء عصب، دون حل.

رغم أن فترات التهدئة كانت تمنح الجانبين فسحة للتعاون، وصلت حد التنسيق العسكري والتعاون في حرب إقليم تيغراي (2020- 2022)، لكن ذلك لم يستمر، فسرعان ما توترت العلاقات بين آبي أحمد وأفورقي، بعد توقيع الأول "اتفاق بريتوريا" في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، الذي أنهى الحرب الإثيوبية في الإقليم، والذي اعتبره أفورقي انقلابا على التفاهمات مع أديس أبابا، دون أخذ موقف أسمرة الرافض لأي تفاهمات مع "تيغراي" في الاعتبار.

لغة الحرب تعود للواجهة

تصريحات أبي أحمد بشأن الحق الإثيوبي في الوصول إلى البحر الأحمر ليست جديدة، بل ظهرت صراحة في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حين ألقى رئيس الوزراء الإثيوبي خطابًا أمام البرلمان تحدث فيه عن الضرورة الوجودية للوصول إلى المياه الدافئة، عبر ميناء سيادي على ضفاف البحر الأحمر عن طريق إريتريا أو الصومال أو جيبوتي.

حاول آبي أحمد إضفاء صبغة "وطنية" على حديثه، فاستشهد بمقولة القائد العسكري الإثيوبي في القرن التاسع عشر "علولا أنغيدا" الذي أكد أن "البحر الأحمر هو الحدود الطبيعية لإثيوبيا"، وهو ما كشف عن خطته لإعادة إحياء الطموحات التاريخية للهيمنة الإثيوبية على موانئ البحر الأحمر.

إثيوبيا كانت تتمتع حتى عام 1993 بمنفذ بحري مستدام عبر ميناءي "عَصَب" و"مصوَّع"، قبل أن تفقدهما باستقلال إريتريا لتصبح بعدها رهينة لميناء جيبوتي الذي تمر عبره أكثر من 95٪ من تجارتها الخارجية

أثارت تصريحات آبي أحمد حالة واسعة من الغضب في الإقليم، فقد وصفها أفورقي بإعلان حرب يهدد السيادة الإريترية، فيما أكد الرئيس الجيبوتي أن بلاده "ليست جزيرة القرم"، رافضًا أي محاولة إثيوبية لفرض نفوذها البحري على جيبوتي، لتدخل بعدها المنطقة في أجواء من "الهدوء المحموم"، حيث استمر التراشق الإعلامي والدبلوماسي بين أديس أبابا وأسمرة، وسط تعبئة سياسية وإعلامية مكثفة داخل إثيوبيا لتسويغ فكرة "استعادة الموانئ".

نشرت وكالة الأنباء الإثيوبية، في يوليو/ تموز 2024، تقريراً تحت عنوان "السلوكيات العدائية لإريتريا في القرن الأفريقي"، وهو ما يعد تصعيدًا رسميًا في نبرة الخطاب الإعلامي الإثيوبي تجاه أسمرة، حيث اعتبرت أن "إريتريا تمثل عامل زعزعة استقرار المنطقة". وزاد التقرير "وبصفته عامل زعزعة استقرار منطقة القرن الأفريقي، دبر أسياس أفورقي مؤامرات في الدول المجاورة لتفاقم حالة عدم الاستقرار الإقليمي. أما الدولة في أسمرة، فهي كيان إرهابي عازم على التحريض على زعزعة الاستقرار الإقليمي".

وأخذ هذا الخطاب بعدًا أكثر حدة، خصوصًا مع مقالة للرئيس الإثيوبي الأسبق مولاتو تيشومي في فبراير/ شباط 2025، التي اتهم فيها أسمرة بالسعي لإشعال صراع جديد في شمال إثيوبيا، ودعا إلى تحرك دولي ضدها، وهو ما رد عليه وزير الإعلام الإريتري يماني غبريمسقل، معتبرًا أن هذه الاتهامات ليست سوى "ستار لتبرير أجندة الحرب".

كما استضافت أديس أبابا مؤتمراً لمعارضين للنظام الحاكم في أسمرة مجموعة "برقيد نحمدو"، بشكل علني في فبراير/شباط الماضي، وهي المرة الأولى بحضور مئات الشباب المقيمين وعشرات الناشطين من كل من أوروبا وكندا وأمريكا، مما يشير إلى وصول العلاقة بين أسمرة وأديس أبابا إلى مرحلة متقدمة من الخلاف.

حذّر نائب حاكم إقليم تيغراي، الفريق أول تسادكان غبريتنساي، نائب رئيس الإدارة المؤقتة لتيغراي ورئيس أركان قوات الدفاع الوطني الإثيوبية سابقاً، من أن حرباً بين البلدين تلوح في الأفق، الأمر الذي زاد من تأجيج التوترات حينما كتب تعليقاً لمجلة "أفريكا ريبورت" بتاريخ 10 مارس/ آذار قال فيه: "يمكن أن تندلع الحرب بين إثيوبيا وإريتريا في أي لحظة.. وأوشكت الاستعدادات أن تنتهي، ومن طبيعة الاستعدادات للحرب إنه يصبح من الصعب جدا كبح الحرب بعد مرحلة معينة من العملية".

في مايو/ أيار الماضي، هاجم الرئيس الإريتري، أديس أبابا، متهماً إياها بـ "السعي إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي تحت شعارات تتعلق بمنفذ على البحر الأحمر"، بالتزامن مع موجة تصريحات عدائية من الجانب الإثيوبي، نقلها التلفزيون الرسمي في 25 من الشهر نفسه - صادفت يوم احتفال إريتريا بعيد استقلالها – عن مسؤولين كبار، من بينهم مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء الإثيوبي، قنا يدتا، شدد فيها على ضرورة حصول بلاده على منفذ بحري، معتبراً أن وصول بلاده للبحر الأحمر "ليس موضع مساومة، وإنما مطلب وجودي تفرضه التطورات، إذ لا يمكن أن تستمر إثيوبيا دون منفذ بحري في بلد يقطنه أكثر من 130 مليون نسمة"، مضيفاً أنهم يقتربون من تحقيق هذا الهدف قريباً دون أن يحدد المنفذ البحري الذي يستهدفون الوصول إليه.

كانت ذروة التحذير الإريتري من الحرب، في يوليو/ تموز الماضي، على لسان رئيس الدولة، والذي وصف طموحات أديس أبابا بالوصول إلى البحر بأنها "متهورة"، قائلًا مقابلة مع القناة الرسمية "إري-تي في": "إذا اعتقدت إثيوبيا أنها قادرة على إغراق القوات الإريترية بهجوم بموجات بشرية، فهي مخطئة"، فيما بلغ التصعيد من الجانب الإثيوبي في سبتمبر/ أيلول 2025، بإعلان آبي أحمد صراحةً عن عزم بلاده "استعادة" ميناء عَصَب بوصفه "تصحيحًا لخطأ تاريخي"، في خطاب أثار غضبًا إريتريًا غير مسبوق، اعتُبر بمثابة دعوة صريحة للحرب.

المؤشرات الميدانية: حشود وتحركات على جانبي الحدود

تتجاوز الأزمة الحالية حدود التصريحات الإعلامية، نحو التحشيد العسكري على الحدود منذ عدة أشهر، ورفع درجة الاستعداد القتالي لدى الجيشين، وذلك بحسب تقارير استخباراتية وتحليلات ميدانية، مصحوبة بخطاب عدائي من قيادات عسكرية عليا.

تحدث رئيس أركان حرب الجيش الإثيوبي برهانو جولا، صراحة عن النوايا الإثيوبية للوصول إلى البحر الأحمر، وذلك أثناء احتفالات عيد أريتشا الخاص بقومية الأورومو، التي ينحدر منها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، قائلاً: "إن الاحتفال القادم سيتم على ضفاف البحر الأحمر"، في توافق مع تصريح لمدير دائرة التعاون الخارجي بوزارة الدفاع الاثيوبية اللواء تشومي جوميتشوا، عرض خلالها رؤية وزارته للعودة إلى البحر الأحمر، مشيراً إلى أن ثمة خطة واضحة لتحقيق هذا الحلم، وذلك سواء بالطرق السلمية أو عبر استخدام القوة العسكرية اللازمة، لتأكيد أحقية إثيوبيا بإيجاد منفذ بحري سيادي.

ترى إثيوبيا وجود أطراف إقليمية تحول دون وصولها إلى البحر الأحمر سواء عبر الصومال أو إريتريا وجيبوتي، ففي يونيو/ حزيران الماضي، حذر برهانو جولا، خلال اجتماع مغلق لقيادات حكومية وبرلمانيين وأعضاء بالمجلس الفيدرالي؛ لبحث أهمية حصول إثيوبيا على منفذ بحري استراتيجي، من وجود قوى – لم يسمها – تسعى إلى عرقلة طموحات بلاده في الوصول إلى سواحل البحر الأحمر، مستطردًا: "هذا النمط ليس جديداً، بل يمتد جذوره إلى أكثر من ستة عقود، حيث تتخوف بعض القوى من ظهور إثيوبيا على السواحل البحرية الإقليمية، رغم قدرتنا على الإسهام في حماية أمن البحر الأحمر".

تتجاوز الأزمة الحالية حدود التصريحات الإعلامية، نحو التحشيد العسكري على الحدود منذ عدة أشهر، ورفع درجة الاستعداد القتالي لدى الجيشين، وذلك بحسب تقارير استخباراتية وتحليلات ميدانية، مصحوبة بخطاب عدائي من قيادات عسكرية عليا

تمادى القادة العسكريون في إثيوبيا في تصريحاتهم بشأن ميناء عصب الإريتري، بحجة أن القانون الدولي لا يحول دون وجودهم على الشاطئ، يقول اللواء تشومي جوميتشوا إن التاريخ يربط بلاده والبحر الأحمر وعصب التي "كانت جزءاً من أراضينا.. والشاطئ أُعطي إلى كيان آخر"، من حكومة انتقالية تخلت عن المنفذ البحري، في حين أنها من وجهة نظر الشرعية لم تكن تمتلك التفويض ولا السلطة لفعل ذلك فهي حكومة غير منتخبة من الشعب.

الانعكاسات الإقليمية: زعزعة استقرار منطقة مضطربة

يدفع التصعيد المتنامي بين إثيوبيا وإريتريا نحو توترات إقليمية، تفتح سلسلة من المخاطر المتراكمة التي تهدد استقرار القرن الأفريقي، وتعيد تشكيل معادلات الأمن البحري والتوازنات الإقليمية والاقتصادية، وهناك مجموعة من الانعكاسات، نستعرضها فيما يلي:

أ. أثر إنساني مباشر: نزوح وتهجير

يتسبب أي صدام عسكري، في موجات نزوح واسعة سواء إلى الداخل أو الخارج هربًا من وقع الحرب، ناهيك عن ضحايا ومصابين بين المدنيين، وتدمير للبنى التحتية، خصوصا أن منطقة القرن الأفريقي تشهد بالأساس عجزاً في بنى الإيواء والإغاثة، وبها عشرات الملايين من النازحين داخليًا ولاجئين، ما يجعل أنظمة الاستجابة الإقليمية ضعيفة أمام صدمة جديدة.

ب. أمن الملاحة والتجارة: مضيق قد يتصدّع

تقع المنطقة البحرية المقابلة لسواحل إريتريا وإثيوبيا على شريان ملاحي دولي حيوي، يمر عبر البحر الأحمر وقناة السويس المصرية؛ وبالتالي فإن المواجهة المسلحة ستزيد من إعانات الحوادث والهجمات البحرية، وتقوّض أمن الملاحة والمرور التجاري، مما يدفع شركات رفع تكاليف النقل والتأمين، ناهيك عن إمكانية الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، ويدلل على ذلك ما تسببت به هجمات على السفن في البحر الأحمر من أقساط التأمين، وتسببت في تحويل رحلات وارتفاع الأسعار وسلاسل توريد مضطربة.

ج. دول الجوار: تحالفات متوترة وردّود فعل حاسمة

ستجد دول الجوار نفسها مضطرة إلى بلورة مواقف تتراوح بين الرمزي والعملي في مواجهة الطموحات الإثيوبية المتزايدة، فجيبوتي التي تمثل شريان التجارة الخارجي لإثيوبيا لن تسمح بسهولة بوجود يهدد سيادتها أو يخل بتوازن علاقتها الاقتصادية مع أديس أبابا. أما الصومال، التي تعاني أصلًا من تعقيدات داخلية مرتبطة بملف "صوماليلاند"، وترفض التقاربات الإثيوبية مع حكومة الإقليم، فإنها ستكون أمام معادلة أكثر هشاشة كلما واصلت إثيوبيا خطواتها باتجاه اتفاقات أو تفاهمات موازية مع هرجيسا.

في السياق ذاته، يبقى السودان الغارق في أزماته الداخلية عرضة لتلقي ارتدادات مباشرة عند حدوده الشرقية في حال انفجار صراع جديد، وإجمالًا، فإن اعتماد إثيوبيا شبه الكامل على الممر التجاري نحو جيبوتي، والذي ينقل ما يقرب من 95٪ من تجارتها الخارجية، يجعل أي خلل في هذا المسار بمثابة ورقة ضغط إقليمية عالية الكلفة، تتجاوز الاقتصاد إلى إعادة صياغة شبكة العلاقات السياسية في القرن الأفريقي.

د. توسع النزاع

يفتح التصعيد بين البلدين الباب أمام احتمالات واقعية لانتشار النزاع إلى ما يتجاوز الحدود الثنائية، وذلك بالنظر لطبيعة الجغرافيا السياسية للقرن الأفريقي، والتي تجعل أي اشتباك عرضي أو عملية عسكرية محدودة مرشحة لأن تتوسع، سواء عبر تدخل مباشر من أطراف إقليمية أو عبر استدعاء وكلاء محليين ينشطون في المناطق الحدودية الهشّة.

يزداد هذا السيناريو تعقيداً مع تراكم الأزمات الداخلية في إثيوبيا، خصوصاً بقايا حرب تيغراي، حيث يمكن لأي شرارة أن تدمج خطوط التوتر القديمة بالجديدة وتحوّل النزاع إلى شبكة مترابطة من الجبهات المتداخلة يصعب التحكم في مساراتها، كما أن تداخل الحسابات الإقليمية والدولية يعزز من احتمالات التصعيد المتدرج؛ إذ أن أي دعم عسكري أو سياسي يقدَّم لطرف على حساب آخر سيُقابل برد فعل موازٍ، بما يعيد إنتاج دوائر التحالفات والخصومات في المنطقة.

السيناريوهات المستقبلية: بين المواجهة العسكرية واستراتيجيات الاحتواء

في ظل التصعيد المتزايد بين إثيوبيا وإريتريا، يمكن تحديد أربعة مسارات مستقبلية رئيسية بناءً على المعطيات الحالية، تتراوح بين التصعيد المباشر والمخاطر غير المباشرة، وصولاً إلى محاولات احتواء الأزمة، بما تفاعل العوامل العسكرية والسياسية والدولية التي ستحدد طبيعة تطور الأزمة.

يعد سيناريو الحرب المفتوحة أسوأ الاحتمالات، حيث تتحول التهديدات الإثيوبية بشأن "القضية الوجودية" المتعلقة بالوصول إلى البحر إلى هجوم عسكري مباشر لاستهداف ميناء عصب، وقد تتخذ العملية شكل هجوم تقليدي على طول الحدود أو عملية محدودة ذات أهداف تكتيكية؛ إلا أن دروس حرب الحدود (1998–2000) تشير إلى أن أي تصعيد عسكري - مهما بدا محدودًا - يحمل في طياته احتمالية التوسع إلى حرب شاملة، مما يؤدي إلى استنزاف موارد البلدين، ويفتح الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية تزيد من تعقيد الموقف.

أما ثاني السيناريوهات فهو الحرب بالوكالة، في حالة تجنب كلا الطرفين المواجهة المباشرة، فقد يلجأن إلى أساليب غير تقليدية لزعزعة استقرار الآخر، كأن تقوم إريتريا بدعم جماعات معارضة داخل إثيوبيا (مثل التيغراي أو العفر أو الأورومو)، فيما تستخدم إثيوبيا أدوات الضغط الاقتصادي والدبلوماسي لعزل إريتريا دولياً، وهذا السيناريو يمثل نموذجاً "للحرب الرمادية" التي تتجنب المواجهة العلنية، لكنها تزيد من حدة التوتر وتعمق الانقسامات الداخلية في كلا البلدين، مما يطيل أمد الأزمة ويرفع تكلفتها البشرية والاقتصادية.

ثالث السيناريوهات هو الاحتواء الدبلوماسي رغم حدة الخطاب، لا يزال هناك مجال للتدخل الدبلوماسي، حيث يمكن للاتحاد الأفريقي - بدعم من فاعلين دوليين أن يعيد تفعيل آليات الوساطة، وقد يؤدي ذلك إلى تحقيق تسويات مؤقتة، مثل منح إثيوبيا امتيازات لوجستية وتجارية في الموانئ الإريترية دون المس بالسيادة الإقليمية الرسمية؛ إلا أن نجاح هذا المسار يعتمد على عاملين رئيسيين: مستوى الضغط الدولي الفعال، وطبيعة التوازنات السياسية الداخلية في كل من أديس أبابا وأسمرة.

يبقى سيناريو الاستقرار الهش الأكثر ترجيحاً على المدى القصير، حيث يستمر التوتر عند مستويات عالية دون انفجار شامل. في هذه الحالة، تبقى الحدود منطقة مناوشات متقطعة، وتواصل إثيوبيا استخدام ورقة الضغط من أجل الموانئ في مفاوضاتها الإقليمية تارة والتلويح بالتدخل تارة أخرى، بينما ترفع إريتريا من درجة التأهب العسكري، وهو ما يُنتج حالة من "الاستقرار الهش"، حيث يبدو السطح هادئاً نسبياً، بينما تتراكم عوامل عدم الاستقرار وكامن الصراع، مما يجعله عرضة للانفجار في أي لحظة نتيجة لأي حادث عابر أو قرار غير محسوب.