السبت 8 نوفمبر 2025
قلة قليلة تلك التي تعرف أن اسمه ألكسندر بييدي "Alexandre Biyidi"، وأنه في بداية رحلته الإبداعية- كتب تحت اسم إيزا بوتو "Eza Boto"، قبل أن يستقر على اسم مونقو بيتي "Mongo Beti"، الذي عرف به في عالم الإبداع.
يعد مونغو بيتي الكاميروني (1932- 2001)، الذي ولد ولقي ربه في بلاده، وعاش حياة المنافي- أحد أبرز الروائيين الناطقين بالفرنسية من أفريقيا. وقد عرف عنه، وهو يتبى مسار أفريقيا المستقبل- صبغ رواياته، المكتوبة بالفرنسية، بنكهة الفكاهة والسخرية ابتغاء انتقاد النظام الاستعماري الفرنسي، وتأثيره على الهوية، والمجتمع الأفريقي. كما عرف عنه توظيف تلك الروايات من أجل تعرية دولة من بعد الاستعمار في بلاده، القائمة على الاستعمار الجديد، الذي تقف خلفه نخبة، خلفت الاستعمار الفرنسي في الحكم.
هناك محطات بارزة تحكي نشأة وتكوين وتطور مونقو بيتي حتى وصوله إلى العالمية، بوصفه مبدعا فرانكوفونيا لا يشق له غبار. وُلد بيتي في 30 يونيو/ حزيران 1932 في قرية تقع في إقليم الكاميرون الخاضع للسيطرة الفرنسية، وكان اسمه الحقيقي ألكسندر بييدي، وتلقى تعليمه في مدارس تبشيرية فرنسية محلية حتى طُرد لأسباب مجهولة في سن الرابعة عشرة. ثم التحق بالمدرسة الثانوية في ياوندي.
عام 1951، غادر إلى فرنسا لمتابعة دراساته العليا، فدرس الأدب الكلاسيكي في جامعة آكس أون بروفانس، ثم في جامعة السوربون بباريس. وفي فرنسا، بدأ بيتي مسيرته الأدبية مبكرًا، ناشرًا رواياته الأولى تحت اسم مستعار لحماية نفسه من ردود الفعل الاستعمارية. وأثناء دراسته في جامعة آكس، كتب بيتي ونشر روايته الأولى "المدينة القاسية" تحت اسم مستعار هو إيزا بوتو. وأتبعها بروايات أخرى مهدت لشهرته في عالم الرواية.
عاد بيتي إلى الكاميرون عام 1959؛ لينخرط في حركة الاستقلال، وألف كتبا دعا فيها إلى إزالة الاستعمار. وعندما استقلت بلاده عن فرنسا بعد عام من عودته- سلك طريق المعارضة لأول حكومة في بلاده؛ حيث كان معارضًا شرسًا لأحمدو أهيدجو، الذي حكم الكاميرون من عام 1960 حتى عام 1982. وقد انتهى به المطاف في السجن، وبعد ذلك غادر إلى فرنسا.
ينتقد بيتي الآفات الاجتماعية الثلاث في مجتمعه، وهي: الديكتاتورية وإدمان الكحول واللغة الفرنسية التي يرى أنها تعيق أي تطور حقيقي وحرية في المجتمع الكاميروني
عام 1972، بدأ نشر بيتي روايات حشد فيها نقدا مباشرا ولاذعا للحكومة الكاميرونية آنذاك، متهما إياها بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، وغياب العدالة الاجتماعية. وكتب غيرها من الروايات في هذا السياق. وفي عام 1991- عاد بيتي من المنفى المتواصل، حيث بدأ استعادة شبابه في مجال الإبداع.
توفي بيتي عام 2001، تاركا وراءه عملاً فنيًا ضخمًا، تنوع بين الخيال والواقع؛ يُظهره كاتبا ووطنيا. ويعد إرثا ثقافيا متنوعا، يُصوَّر من خلاله صورة مواطن كاميروني حقيقي متعطش للحرية والتغيير، أراد أن يرى الأمور تتغير. يتأتّى ذلك في ظل مشروع تحرري كان يحلم به، ليس على مستوى الكاميرون بلاده فقط، وإنما على مستوى أفريقيا، التي كان يرى أنها تستحق واقعا أفضل، ومستقبلا أكثر إشراقا. وقد دفع ثمن ذلك تشريدا وسجنا وغيابا قسريا عن بلاده.
لمونقو بيتي العديد من الروايات، التي كرّسها للحديث عن الاستعمار، وما فعله ببلاده وشعبه، منها: "بلا كراهية وبلا حب" (1953)، و"مدينة قاسية" (1954)، و"المسيح الفقير في بومبا" (1956)، و"المهمة اكتملت" (1957)، و"الملك المعجزة" (1958). وبما أن نقد الاستعمار وهجاءه قد أخذ حيزا كبيرا في إبداع بيتي- فلا سبيل غير اختيار روايتين نقف من خلالهما، باختصار، على الكيفية التي عمل بها لتعرية الاستعمار الفرنسي، وقد وقع الاختيار على رواية "المسيح الفقير في بومبا" (1956)، و"المهمة اكتملت" (1957).
أول ما يقال إن رواية "المسيح الفقير في بومبا" (1956)- تعد أولى روايات بيتي المهة. وأنها تميزت بنقدها الساخر اللاذع للاستعمار الفرنسي، ودوره في تدمير الثقافة الأفريقية، والمؤسسات التقليدية. ويكشف بيتي فيها ببراعة كيف قامت الإدارة الاستعمارية، بالتعاون مع الكنيسة التبشيرية، بإخضاع الشعوب الأفريقية، وتشويه قيمها، وسلبها أراضيها. إذ في هذه الرواية- يقدم صورة نقدية للمبشرين المسيحيين، الذين فرضوا إيمانهم بالقوة على السكان المحليين، ودمروا نسيجهم الاجتماعي باسم الحضارة.
يرى بيتي أن نظام التعليم الأوروبي كان عاملًا مُحفزًا مهمًا للإبادة التدريجية للتدين في السياق الأفريقي
تناولت رواية "المسيح الفقير في بومبا"- موضوعات عديدة، حاول من خلالها بيتي تركيز نقده للاستعمار، فكان حديثه عما أسماه بالتدين "المستورد". فالرواية هي تمثيل سردي أدبي للإنسان الأفريقي المتدين "سيئ السمعة". وبالنظر إلى أهم الشخصيات في الرواية- يمكن اعتبار الأب درومون ممثلاً للنموذج الديني المسيحي والفلسفي الغربي في جوهره، والذي كان غزوه المنهجي للعقول الأفريقية فعالاً بشكل مدمر، بينما يمثل دينيس المشهد الديني الفلسفي الأفريقي. وفي الرواية- تُعدّ مدرسة التبشير سمةً مميزةً للمجتمع. وفي هذا السياق يرى بيتي أن نظام التعليم الأوروبي كان عاملًا مُحفزًا مهمًا للإبادة التدريجية للتدين في السياق الأفريقي.
أما رواية "المهمة اكتملت" (1957)- فتهاجم السياسة الاستعمارية الفرنسية من خلال شاب يعود إلى قريته بتردد؛ لأنه رسب في امتحانات كليته، ويكتشف أنه ليس فقط موضع تبجيل من قبل القرويين لإنجازاته؛ ولكن أيضًا غريب عن أسلوب حياتهم. في هذه الرواية لا يتردد بيتي في تقديم بطلها ميدزا مثالا على فشل التعليم الاستعماري في خضم المجتمع الكاميروني التقليدي المُستعمَر؛ بل يسخر من الأيديولوجية الفرنسية القائلة بأن الشخص المتعلم، أو من يتمتع بقدر كبير من الكفاءة الأكاديمية هو الأقوى، لأن الشخص الذي يُوصف بالقوة هنا قد رسب للتو في امتحانه. وفي هذا السياق يبدو بيتي منبها مواطنيه إلى أن ثقافتهم أفضل من التعليم الفرنسي؛ ومنبها أيضا إلى خطورة ما يقوم به المستعمر في هذا المجال.
إظهارا لرغبة بيتي في إبراز مدى ظلم المستعمر لشعبه- تركز الرواية على موضوعات: التقليد في مواجهة الحداثة والانحلال الجنسي والتحيز والاستغلال والطاعة والزواج والطلاق؛ يقدمها باعتبارها حقائق اجتماعية تسبب فيها الاستعمار. إضافة إلى ذلك- يُعدّ المشهد الريفي في هذه الرواية جزءًا لا يتجزأ من استكشافها الموضوعي، إذ يُشكّل خلفيةً لتفاعلات الشخصيات وصراعاتها. فالمشهد الريفي في الرواية ليس مجرد رمز للتخلف أو الجهل، كما يُصوّر غالبًا في السرديات الاستعمارية، بل هو مساحة معقدة تتكشف فيها الممارسات الثقافية، والمعتقدات التقليدية، ومقاومة النفوذ الأجنبي؛ حيث تُمثّل البيئة الريفية في "كالا" مساحةً للمقاومة ضد الحداثة الاستعمارية، وفيها يُحافظ على القيم الأصلية، على الرغم من قوى التحضر والتعليم الاستعماري المُزعزعة..
كما أشرنا من قبل إلى أن لمونقو بيتي روايات نقد فيها الاستعمار، فإن له أيضا روايات تناول فيها نقده للحكومات، التي أعقبت استقلال بلاده عن فرنسا، والتي كان يرى أن حالها لا يختلف عن حال الاستعمار. ولتوضيح ذلك سنختار من تلك الروايات روايتين، هما: "بيربيتوا وعادة التعاسة" (1974) و"كثرة الشمس تقتل الحب" (1999).
شهد عام 1974، نشر مونقو بيتي لرواية "بيربيتوا وعادة التعاسة"، وقد أكد فيها فساد السياسة الوطنية. كما كشف من خلالها ظروف العبودية، التي تعيشها المرأة الحديثة في أفريقيا المعاصرة. وبصورة أكثر شمولا انتقد فيها الفساد، الذي شهده في الكاميرون خلال سنوات الاستقلال. وفي منحى مشابه- نلحظ أن بيتي في هذه الرواية- يستخدم الأسماء لإيصال رسالته السياسية الصاخبة والمتفجرة؛ إذ من خلال بحث "إيسولا" عن سبب وفاة "بيربيتوا" - يكتشف القاريء أن البحث يهدف في جوهره إلى اكتشاف سبب عدم وجود فرق كبير بين الحكم الاستعماري السابق والحكم الجديد، الذي أرساه الكاميرونيون أنفسهم. ومن خلال تحقيقات إيسولا، يكتشف القاريء أيضا الآفات الاجتماعية الثلاث، التي ينتقدها بيتي في مجتمعه، وهي: الديكتاتورية وإدمان الكحول واللغة الفرنسية التي يرى أنها تعيق أي تطور حقيقي وحرية في المجتمع الكاميروني.
المشهد الريفي في الرواية ليس مجرد رمز للتخلف أو الجهل، كما يُصوّر غالبًا في السرديات الاستعمارية، بل هو مساحة معقدة تتكشف فيها الممارسات الثقافية، والمعتقدات التقليدية، ومقاومة النفوذ الأجنبي
أما رواية "كثرة الشمس تقتل الحب"- فتدور أحداثها حول حبكة جريمة، وتُصوّر المجتمع الكاميروني الحديث في أعقاب الاستعمار. وتتناول الرواية عددًا من الموضوعات الجادة، كالفساد، والتعذيب، وإدمان الكحول، والاعتداء الجنسي، والديكتاتورية، والمحسوبية. ويبرز فيها أن زام، بطل الرواية، صحفيا يُغرق أحزانه بانتظام في الكحول، ويُخاطر بحياته في التحقيق في الظلم السياسي. ويتبنى بيتي في هذه الرواية نهجًا ساخرًا في عمله.
وبصورة أكثر تركيزا، وفقا لدراسة في هذا السياق- تدور أحداث الرواية في عاصمة بلدٍ لا يساوي فيه أي شيء شيئًا، وفيها مزيليكازي، وهو رجل من الطبقة المتوسطة، يسعى جاهدًا، كغيره من مواطنيه، لأداء عمله اليومي بتواضع. وللأسف، اختار "زام" العمل كصحفي، والأسوأ من ذلك، الاهتمام بالسياسة. وتُجسِّد الرواية، وفقا لتلك الدراسة- النهج الذي بدأه بيتي في كتاباته الأولى، نقدٌ لا هوادة فيه لتجسيدات "جمهورية الموز" ما بعد الاستعمار في أفريقيا الاستوائية. وتبدأ الرواية، منذ الصفحات الأولى، باغتيال عالم بارز، وهو موريس مزيليكازي، الذي يعلم أنه على خط المواجهة منذ أن بدأ يندد بسلب أراضي القرى لصالح كبار رجال النظام، أو شركات قطع الأشجار الأجنبية، التي تحميها الحكومة. ومن خلال مزيليكازي، يصوّر بيتي بلدًا يعجّ بالفساد، الذي يفضي إلى أسوأ الفظائع. ويشير إلى استخدام التعذيب، وتزوير الانتخابات، وإضفاء الصبغة العرقية على أبسط المشكلات، وبغاء الأطفال.
لقد سعى الروائي الكاميروني مونقو بيتي من خلال رواياته العديدة، في قالب من الفكاهة والسخرية، إلى تعرية الاستعمار، الذي يرى أنه دمر الثقافة الأفريقية والمؤسسات التقليدية، وأخضع الشعوب الأفريقية وشوه قيمها، وسلب أراضيها، ونشر تعليما أوروبيا كان محفزا للإبادة التدريجية للتدين في السياق الأفريقي. إضافة إلى ذلك عمل على تفشي الانحلال الجنسي والتحيز والاستغلال، وغيرها من القيم السالبة.
أما تعريته للاستعمار الجديد، ونخبه في بلاده- فشملت كشفه فساد السياسة الوطنية. وأوضح أنه لا فرق بين الحكم الاستعماري وحكم الاستعمار الجديد. ولم يكتف بذلك إذ أشار إلى الآفات الثلاث التي أقعدت بلاده، وهي: الديكتاتورية وإدمان الكحول واللغة الفرنسية. وفي منحى مشابه تحدث عن الفساد والتعذيب والاعتداء الجنسي والمحسوبية وتزوير الانتخابات.. إلخ. فما من صفة ذميمة توصم بها حكومة إلا وجدت طريقها إلى روايات بيتي لنقد الاستعمار الجديد!