تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
رأي

مولد البدوي والعقل المستقيل: طقوس بلا أسئلة

24 أكتوبر, 2025
الصورة
مولد البدوي والعقل المستقيل: طقوس بلا أسئلة
Share

تهتز مدينة طنطا هذه الأيام على وقع الاحتفال السنوي بمولد السيد أحمد البدوي، أحد أشهر الأولياء في الذاكرة الروحية المصرية. تتقاطع الطرق المؤدية إلى قلب المدينة كما لو كانت أوعية دموية تضخ الحياة في موسم يتجاوز الطقس الاحتفالي إلى فعل انتماء جماعي متجذر في وجدان الناس. تتزاحم الخيام التي تنصبها الطرق الصوفية والتجار والحرفيون، وتنتشر روائح البخور ومواقد الشاي، وتختلط أصوات الأذكار بالمدائح النبوية والأناشيد الشعبية، في مشهد يعكس عمق الحضور الصوفي في الثقافة المصرية.

يأتي هذا الاحتفال في ظل الجدل الإعلامي الذي أثارته بعض الأصوات حول مشروعية الموالد، وهو ما دفع المجلس الأعلى للطرق الصوفية إلى إصدار بيان رسمي مؤكدًا أن هذا الجدل "مصطنع ومفتعل" ولا يستند إلى علم أو نية صالحة، بل يسعى لافتعال ضجيج إعلامي على حساب التراث الروحي والثقافي للأمة. وشدد البيان على أن الاحتفال بموالد آل البيت وأولياء الله الصالحين شعيرة مشروعة وموروث أصيل، أقره العلماء ودار الإفتاء المصرية في فتاويها المتواترة، وأن الطعن في نسب السيد البدوي أو ولايته محرّم شرعًا ومنافٍ لأدب العلم والدين.

وبغض النظر عن الدخول في مناقشة البيان سالف الذكر، فإن ظاهرة المواسم الصوفية تكاد تجد لها نظائر في بلدان أفريقية كثيرة؛ ففي السنغال مثلًا، يحتشد مئات الآلاف سنويًا في مدينة كولخ للاحتفال بمولد الشيخ إبراهيم انياس، أحد أبرز رموز الطريقة التيجانية. يتوافد المريدون من السنغال ونيجيريا ومالي وغامبيا، ويُعاد إنتاج المشهد نفسه: حلقات ذكر ضخمة وتمجيد للشيخ وسرديات كرامية، وتداخل واضح بين الطقس الديني، والاقتصاد المحلي والرمزية السياسية.

وفي السودان، لا سيما في أم درمان، يُقام المولد النبوي في مشهد يطغى عليه الحضور الصوفي بمختلف طرقه، وعلى رأسها القادرية. تنتشر الخيام، وتُقام حلقات الذكر على مدار أيام، ويتجمهر عشرات الآلاف في طقس جماعي يغيب فيه التفكير لصالح الانغماس في الإيقاع الروحي والاحتفال الشعبي.

الطقس حين يفقد أسئلته، يتحوّل من تجربة روحية إلى فرجة جماهيرية بلا روح

أما في المغرب، فتحتل مواسم الزوايا الكبرى مكانة مركزية في الحياة الدينية والاجتماعية، مثل: موسم مولاي عبد السلام بن مشيش أو موسم الشيخ الكامل بمكناس أو موسم سيدي أحمد أوموسى السملالي بتازروالت في سوس، حيث تتوافد الحشود من مختلف المناطق، وتُقام مواكب الزوايا وأهازيجها، في مشهد يكرّس فكرة "الوليّ الحاضر" والبركة الموروثة.

وفي النيجر ومالي، تتكرر الظاهرة نفسها في مواسم الطرق القادرية والتيجانية التي تحوّلت إلى مواسم عابرة للحدود، تربط بين الزوايا المركزية في أفريقيا الشمالية والغربية.

من المهم التأكيد هنا أن النقاش لا يتطرق إلى ذوات الأولياء أو مكانتهم الروحية أو حقيقتهم الإيمانية، ولا يشكك في عمق التجارب الصوفية الأصيلة التي عرفها العالم الإسلامي في فترات ازدهاره. إنما محل النظر هو السلوكيات الصوفية، كما تنعكس في ممارسات المريدين والجماهير، وكيف تتحوّل هذه الممارسات مع الزمن إلى طقوس مغلقة تكرّس سلطة رمزية صلبة، تُقصي التفكير النقدي، وتحول التصوف من تجربة روحية فردية إلى فرجة جماهيرية بلا أسئلة.

العقل المستقيل: لحظة الجابري الحاضرة

حين صاغ المفكر المغربي محمد عابد الجابري مفهوم "العقل المستقيل"، لم يكن يصف حالة ذهنية فردية، بل بنية حضارية أصابها نوع من التكلس الداخلي، حيث ينسحب العقل النقدي من الفعل التاريخي، ويُترك المجال للطقس والرمز والخيال الجمعي كي يحددوا مسار الجماعة.

العقل المستقيل ليس عقلًا غائبًا بالمعنى البيولوجي، بل عقلٌ حيّ اختار أن يصمت. عقلٌ يعلّق أدواته التحليلية، ويستسلم للسلطة الرمزية، ويُفسح المجال أمام اللاوعي الجمعي ليعيد صياغة العالم كما يشاء. في هذه الحالة، تصبح الكرامة أقوى من الحجة، والطقس أبلغ من الفكرة، والرمز الديني أمتن من السؤال. كل شيء يصبح مبررًا لا لشيء سوى أنه موروث، والموروث لا يُسأل.

التصوف الأصيل سؤال مفتوح، أما التصوف الجماهيري فهتافٌ جماعي بلا سؤال

في هذا السياق، يشكّل مولد السيد البدوي نموذجًا صارخًا لهذه الحالة: كل شيء يسير بدقة محفوظة، كأن الزمن لم يتغير. حلقات الذكر تتكرر بذات الإيقاع، مواكب الطرق الصوفية تسير وفق نفس المراسيم، المقامات تُزار، والكرامات تُروى كما كانت قبل قرون. وكأن المجتمع يحتفل لا بإحياء السؤال، بل بعجزه عن إنتاج سؤال جديد. وهذه الحالة لا تقتصر على مصر، بل تمتد إلى رقعة واسعة من القارة الأفريقية التي تعيش تحولات عميقة - سياسية واقتصادية وثقافية - لكنها تفوّت على نفسها ما يمكن تسميته "لحظة الإدراك ضائعة".

يرى الجابري في مشروعه النقدي الكبير أن العقل العربي - والإسلامي عامة - عاش أزمات متتالية بسبب تغييبه لصالح الرمز المغلق والسلطة الميتافيزيقية. وما نشهده اليوم في أفريقيا ليس إلا امتدادًا لهذه الحالة: مجتمعات تحتفي بالطقس، وتُقدّس الموروث، وتُهمّش العقل… في الوقت الذي كان يمكن فيه لـما أسميناه بلحظة الإدراك الضائعة أن تتحول إلى قوة بناء معرفي وثقافي.

طقوس بلا أسئلة… ومجتمع بلا حوار

ولعلنا نصرح بما لا حاجة للبيان فيه، إلى الطقس في ذاته ليس مشكلة؛ فهو – شئنا أم أبينا - جزء أصيل من الذاكرة الرمزية للمجتمعات، ووعاء للتجربة الدينية كما تُعاش في الحياة اليومية. فمن خلال الطقوس تتجسد العواطف الجمعية، وتُبنى الروابط الاجتماعية، ويتشكل الانتماء. لكن الخطورة الكبرى تبدأ حين يتحول الطقس من فضاء مفتوح للتعبير إلى أفق مغلق يحظر السؤال.

فالاحتفال لا يرافقه حوار فكري، ولا تُفتح فيه مساحات للنقاش الحر حول رمزية الوليّ في الزمن الراهن، ولا يُطرح سؤال عن علاقة هذا الشكل من التدين بالتحولات الاجتماعية والسياسية الحديثة، ولا يُراجع مسار التصوف الشعبي في علاقته بتاريخ السلطة والمعرفة. تصبح الموالد والمواسم في هذه الحالة طقوسًا صامتة؛ يتكلم فيها الجسد الجماعي لا العقل الفردي، ويهتف الجمع بينما يسكت السؤال.

الاحتفال الحقيقي لا يكون بتكرار الماضي، بل بقدر ما نمنح الماضي قدرة على محاورتنا

وعندما يغيب السؤال، يغيب الحوار بدوره. فلا أحد يناقش دور الزوايا اليوم في المجتمع المدني، ولا مكانة الأولياء في المجال العام الحديث، ولا علاقة التصوف الشعبي بمسارات التعليم والاقتصاد والسياسة. تتحول الطقوس إلى جزر مغلقة في الزمن، تعيش خارج التاريخ، وتتكرر كما لو أنها ثابتة أبدًا.

إن أخطر ما في هذه الظاهرة ليس فقط جمودها، بل قدرتها على إعادة إنتاج ذاتها جيلاً بعد جيل. فالأب الذي يصطحب ابنه إلى المولد لا يورثه طقسًا وحسب، بل يورثه أيضًا طريقة في التفكير، قائمة على الإيمان الموروث لا المكتسب، على التلقي لا النقد، وعلى التسليم لا الحوار. ومع كل دورة زمنية، يتكرّس هذا الصمت الجمعي، ويصير الطقس إطارًا عامًا يحدد حدود الوعي الممكن.

الروح في مواجهة اللاعقل

ليست الدعوة هنا إلى إلغاء التصوف أو محو الموالد من الذاكرة الجماعية. فهذه الطقوس، في أصلها، جزء من تاريخ طويل من التجارب الروحية التي شكّلت الوجدان الإسلامي. بل إن كثيرًا من أعظم لحظات الفكر الديني والإبداع الأدبي والفلسفي في الحضارة الإسلامية خرجت من رحم التجربة الصوفية.

لكن ما ندعو إليه هو استعادة الروح النقدية والعمق الوجودي للتصوف كما وُلد في بداياته: تجربة فردية حارقة، وسؤال مفتوح لا يهدأ. لقد كان تصوف رابعة العدوية مقاومة داخلية عميقة ضد التعلق بالدنيا والمظاهر، وكان تصوف الجنيد مدرسة فكرية تقوم على التمييز بين الإيمان الأصيل والتقليد الأجوف، بينما كان الحارث المحاسبي يشتبك مع النفس في معركة نقدية لا تهدأ، يسائلها ويعريها ويواجهها بالمسؤولية. هؤلاء لم يصنعوا حلقات فرجة، بل أسسوا فضاءات للسؤال الوجودي المفتوح: من أنا؟ ما معنى القرب من الله؟ وما الطريق إلى المعرفة الحقّة؟

أما التصوف الذي نراه اليوم في الموالد، فهو تصوف فقد روحه وبقي له جسده الطقسي فقط. لا سؤال فيه ولا تأمل. تحوّل الذكر من سلوك معرفي عميق إلى إيقاع جماعي رتيب، وتحول الولي من رمز روحي إلى تمثال رمزي يُزار ولا يُسائل. يرقص الناس حوله، ويغنون، لكنهم لا يسألون، لا عن معنى الطقس، ولا عن راهنيته، ولا عن علاقته بالحياة المعاصرة.

التصوف الروحي الأصيل كان يُربّي على الوعي الذاتي، أما التصوف الجماهيري الحالي في كثير من البلدان الإفريقية والعربية فيعمل على تفكيك الوعي وتحويله إلى انفعال جمعي. الأول يُنتج أفرادًا أحرارًا يسائلون ذواتهم، والثاني يُنتج جماعات صامتة تهتف وتصفق وتستسلم للماضي.