تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

السبت 8 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

مواقف السودان من سد النهضة: ما بين أزمة التشغيل والمصلحة المشتركة

24 سبتمبر, 2025
الصورة
مواقف السودان من سد النهضة: ما بين أزمة التشغيل والمصلحة المشتركة
Share

يُعد سد النهضة الإثيوبي الكبير (GERD) المشروع المائي العملاق الواقع على مجرى النيل الأزرق، نقطة تحول حاسمة في الجغرافيا السياسية لمنطقة حوض النيل. فالسد بالنسبة لإثيوبيا حلم قومي وإنجاز تاريخي يرمز للتنمية والسيادة، ويتطلع إليه أكثر من نصف سكان البلاد الذين يفتقرون إلى الكهرباء. كما يمثل المشروع "إنجازا أفريقيا" بتعبير رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، وبداية نهاية قصة الاحتياج.

تاريخيا، تعود أولى الدراسات التي حددت موقع سد النهضة للفترة ما بين عامي 1956 و1964، والتي قام بها مكتب الاستصلاح الأمريكي (USBR) كجزء من عملية مسح واسعة لحوض النيل الأزرق. لم تتضمن هذه الدراسات الرجوع إلى مصر، ما يعني أن فكرة المشروع ليست وليدة اللحظة السياسية الحديثة، بل هي جزء من تخطيط قديم لإدارة موارد النهر.

تمنح هذه الخلفية التاريخية النزاع طبقة إضافية من التعقيد، حيث تتأثر المواقف الحالية بسرديات تاريخية طويلة الأمد حول إدارة مياه النيل. فهذا التاريخ يربط المشروع بجهود أمريكية قديمة لتخطيط الموارد المائية في المنطقة، ما يجعل الخلافات الحالية تبدو وكأنها مجرد استمرار لصراع جيوسياسي قديم على التحكم في الموارد.

نرصد في هذا التقرير تحولات الموقف السوداني من المشروع، ونحلل خلفياته السياسية والفنية، وصولًا إلى لحظة الإعلان عن افتتاح السد عام 2025، في ظل غياب اتفاق قانوني ملزم، وتزايد المخاوف من تداعياته على الأمن.

قلق إقليمي مشروع

أعلنت إثيوبيا في فبراير/ شباط 2011، وبشكل رسمي، عزمها بناء السد، ومطلع شهر أبريل/ نيسان من نفسه العام، قام رئيس الوزراء الإثيوبي السابق، ملس زيناوي، بوضع حجر الأساس للمشروع. جاء هذا القرار في توقيت وصفته بعض التحليلات بأنه "نافذة فرصة" استغلتها أديس أبابا، حيث كانت مصر آنذاك غارقة في الاضطرابات السياسية التي تلت ثورة يناير.

في ظل التحديات التي تواجه الأمن المائي في دول حوض النيل، والذي يعد قضية معقدة ومحورية، يصبح القلق مشروعا، حيث تواجه هذه الدول مشاكل كبيرة بسبب النمو السكاني من ناحية، والتغيرات المناخية من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة تباين مصالح دول المنبع والمصب. فحوض النيل يضم 11 دولة أفريقية، تبقى كل من مصر والسودان دولتي المصب الأكثر اعتماداً على مياه النهر، بينما تسعى دول المنبع مثل إثيوبيا لتحقيق التنمية الاقتصادية من خلال مشروعات مائية.

بدا أن السودان يراهن على فوائد السد أكثر من مخاطره، لا سيما في ظل التوترات السياسية مع مصر، ورغبة الخرطوم في تعزيز علاقاتها مع أديس أبابا

تتمثل التحديات الرئيسية في تزايد أعداد السكان في جميع دول الحوض، مما يزيد من الطلب على المياه لأغراض الشرب والزراعة والصناعة. كما تؤثر التغيرات المناخية على معدلات هطول الأمطار وتدفق المياه في النهر، ما يسبب حالات من الجفاف والفيضانات التي تزيد من صعوبة إدارة الموارد المائية.

شهدت أزمة سد النهضة جولات مفاوضات عديدة فقد انطلق مسلسل المفاوضات عام 2011، وتوج في 23 مارس/آذار 2015، باتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم وقعت عليه الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا). لكنه فشل طيلة 13 عامًا في التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، ما دفع مصر إلى إعلان نهاية المفاوضات "دون جدوى".

لم تفلح جهود الوساطة الدولية التي قامت بها الولايات المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأفريقي وروسيا والإمارات العربية المتحدة في حل الخلاف. ويعزى ذلك إلى تعارض الأجندات السيادية أكثر من الخلافات الفنية. فقد استخدمت إثيوبيا المفاوضات كأداة لكسب الوقت وإضفاء الشرعية على إجراءاتها الأحادية، في استراتيجية "التفاوض أثناء البناء".

تطورات الموقف السوداني

اتسم الموقف السوداني، وتحديدًا تحت حكم نظام الإنقاذ، بالحذر الفني والدعم السياسي غير المعلن. فلم تعترض الخرطوم على المشروع، بل شاركت في اللجنة الثلاثية الفنية مع مصر وإثيوبيا لتقييم آثار السد. ورغم التحفظات المصرية، كان الموقف السوداني أقرب إلى الحياد الإيجابي، حيث رأى بعض المسؤولين أن السد قد يساعد في تنظيم تدفق المياه وتقليل الفيضانات، فضلًا عن إمكانية الاستفادة من الكهرباء الرخيصة التي قد ينتجها.

لكن هذا الحذر لم يكن خاليًا من القلق. فالسد يقع على بعد أقل من 20 كلم من الحدود السودانية، وأي خلل في بنيته قد يؤدي إلى كارثة مائية وإنسانية في الأراضي السودانية. ومع ذلك، لم يكن هناك موقف رسمي يعكس هذه المخاوف بشكل واضح، بل طغى على الخطاب الرسمي السوداني طابع التهدئة والتفاؤل.

في مارس/آذار 2015، استضافت الخرطوم توقيع إعلان المبادئ بين السودان ومصر وإثيوبيا، والذي كان بمثابة اعتراف رسمي بالسد من قبل الدول الثلاث. نص الإعلان على احترام مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول لمياه النيل، وعدم إحداث ضرر جسيم لأي طرف، والتعاون في الملء والتشغيل.

ورغم أن السودان لعب دورًا محوريًا في استضافة التوقيع، إلا أن الإعلان قيد خياراته المستقبلية في الاعتراض على المشروع، خصوصا مع غياب ضمانات قانونية ملزمة بشأن التشغيل والملء. فقد تم الاكتفاء بمبادئ عامة دون آليات تنفيذ واضحة، مما فتح الباب أمام إثيوبيا للمضي قدمًا في تشييد السد دون الرجوع إلى الأطراف الأخرى.

في هذه المرحلة، بدا أن السودان يراهن على فوائد السد أكثر من مخاطره، لا سيما في ظل التوترات السياسية مع مصر، ورغبة الخرطوم في تعزيز علاقاتها مع أديس أبابا. لكن هذا الرهان سرعان ما واجه تحديات كبيرة مع بدء إثيوبيا في تنفيذ الملء الأول دون أي تنسيق مسبق.

مع سقوط نظام البشير في أبريل/نيسان 2019، وصعود الحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك، بدأ السودان في إعادة تقييم موقفه من سد النهضة، حيث طالب باتفاق قانوني ملزم بشأن الملء والتشغيل، خصوصا بعد الملء الأول للسد في يوليو/ تموز 2020 بإرادة منفردة من جانب إثيوبيا.

كما طالب السودان بتغيير منهجية التفاوض، واقترح إشراك خبراء دوليين لتسهيل الوصول إلى اتفاق. وبدأت الخرطوم في التنسيق مع القاهرة بشكل أكبر، خاصة في المحافل الدولية، حيث قدم البلدان مذكرة مشتركة إلى مجلس الأمن الدولي تطالب بوقف الملء الأحادي، والعودة إلى طاولة المفاوضات. لكن هذه التحركات، لم يؤت أي نتيجة، حيث فشلت السودان في فرض شروطه، وظلت إثيوبيا متمسكة بحقها في الملء والتشغيل دون اتفاق ملزم، مستندة إلى إعلان المبادئ الذي تم توقيعه في السودان عام 2015.

سد النهضة الإثيوبي مخالفا للقانون الدولي، حيث يترتب عليه "آثار جسيمة" على دولتي المصب، ويمثل "تهديدا مستمرا" لاستقرار الوضع في حوض النيل

بعد الإطاحة بالحكومة المدنية، دخل السودان مرحلة من الانقسام السياسي الحاد، انعكس بشكل مباشر على موقفه من سد النهضة. فقد تباينت مواقف السلطة من الأمر، وكان حميدتي أقرب إلى الموقف الأثيوبي، وعززت استثماراته في أديس أبابا ذلك، ما أضعف قدرة البلاد على تبني موقف موحد في المفاوضات. في المقابل، كانت مواقف الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان أكثر تقاربًا مع الموقف المصري، خصوصا في ظل التنسيق الأمني والعسكري بين البلدين.

أدى هذا التباين في المواقف إلى ارتباك في الخطاب الرسمي السوداني، فقد صدرت تصريحات متناقضة من وزارات مختلفة، بعضها يؤكد دعم السودان للسد، والبعض الآخر يحذر من مخاطره. كما تراجعت وتيرة المشاركة السودانية في المفاوضات، وبدأت إثيوبيا في تنفيذ الملء الثاني والثالث دون أي تنسيق مع الخرطوم.

على الرغم من التوقف الذي دام أكثر من 3 سنوات، استؤنفت جولات المفاوضات بين مصر والسودان وإثيوبيا في أواخر عام 2023. لكن هذه المفاوضات لم تكن سعيًا حقيقيًا للحل بل كانت مجرد محاولة مصرية "لاحتواء أي تصرفات أحادية"، وتقويض مساعي إثيوبيا لفرض الأمر الواقع في ظل الغياب السوداني الفاعل.

من جانبها، استغلت إثيوبيا الوضع لتصوير محاولات الجامعة العربية دعم مصر والسودان على أنها "تؤثر على العلاقات العربية – الأفريقية"، ما أظهر قدرتها على المراوغة الدبلوماسية. في يوليو/ تموز 2024 استقبل عبد الفتاح البرهان رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد كأول رئيس أفريقي، ومن دول الجوار يأتي في زيارة رسمية إلى السودان، بعد اندلاع الحرب، وفقا لعدد من المصادر فإن أبي أحمد ناقش مع البرهان عددا من الملفات من بينها الملف الحدودي وملف سد النهضة، ما جعل البرهان يرسل تطمينات لأبي أن السودان لن يكون حجر عثرة أمام أي تقدم إثيوبي في الملف، خصوصا وأن أبي وعد البرهان بتقديم الكهرباء بشكل شبه مجاني للعاصمة الخرطوم إلى حين معالجة آثار الحرب والدمار في البنى التحتية.

أدت الحرب الدائرة في السودان إلى شلل سياسي ومؤسسي تام، جعل الخرطوم غير قادرة على اتخاذ أي قرار أو المشاركة بفاعلية في المفاوضات. وأصبحت الدولة السودانية، بمؤسساتها المدنية والعسكرية، "خارج اللعبة" تمامًا

إلا أنه وقبيل إعلان إثيوبيا افتتاح السد بشكل كامل عقد كل من وزير الزراعة والري السوداني عصمت قرشي ووزير الموارد المائية والري المصري هاني سويلم اجتماعا في القاهرة، في 4 سبتمبر/أيلول، وشددا فيه على ضرورة الالتزام التام بقواعد القانون الدولي للمياه فيما يخص سد النهضة. أتى اجتماع الوزيرين بعد ساعات من اجتماع رباعي بمقر وزارة الخارجية المصرية، حضره معهما وزير الخارجية والهجرة المصري بدر عبدالعاطي، ووزير الدولة بوزارة الخارجية والتعاون الدولي السوداني عمر صديق. وشدد البيان المشترك على ارتباط الأمن المائي السوداني والمصري والعمل بشكل مشترك للحفاظ على حقوق واستخدامات البلدين المائية كاملة، وفقا للنظام القانوني الحاكم لنهر النيل، وطبقا للقانون الدولي، واتفاقية عام 1959 المُبرمة بين البلدين. وعدّ البيان سد النهضة الإثيوبي مخالفا للقانون الدولي، حيث يترتب عليه "آثار جسيمة" على دولتي المصب، ويمثل "تهديدا مستمرا" لاستقرار الوضع في حوض النيل.

أدت الحرب الدائرة في السودان إلى شلل سياسي ومؤسسي تام، جعل الخرطوم غير قادرة على اتخاذ أي قرار أو المشاركة بفاعلية في المفاوضات. وأصبحت الدولة السودانية، بمؤسساتها المدنية والعسكرية، "خارج اللعبة" تمامًا. كان لهذا "الارتباك السياسي" تداعيات أضعفت الموقف التفاوضي، وإزالة أي تحفظات سودانية محتملة على الملء الرابع للسد، مما ألقى بـ"مزيد من الأعباء على الجانب المصري، وتحركاته الدولية والأممية في الملف".

تتجاوز آثار الصراع السوداني الملف الدبلوماسي لتشمل الأمن القومي والسيادة الإقليمية للسودان نفسه. كانت المنطقة الحدودية، خاصة منطقة الفشقة، تاريخيًا مسرحًا للتوترات بين السودان وإثيوبيا. وقد ساهم الارتباك الأمني الناتج عن الحرب في إضعاف سيطرة الجيش على الحدود، مما يتيح لإثيوبيا فرصة نادرة لفرض أمر الواقع ليس فقط على المياه، بل أيضًا على الحدود، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي في المنطقة.

يعكس الموقف السوداني من سد النهضة تعقيدات السياسة الداخلية، وتوازنات العلاقات الإقليمية. وبينما يظل السد حقيقة جغرافية لا يمكن تجاهلها، فإن غياب اتفاق قانوني ملزم يضع السودان أمام تحديات استراتيجية تتطلب إعادة صياغة موقفه بما يضمن مصالحه المائية، بالإضافة إلى بناء موقف متجاوز للمخاوف، ومحاولة صياغة خطوات إيجابية نحو ضمانات إثيوبية تمكنه من الاستفادة القصوى من سد النهضة، ومحاولة نقل موقف مصر إلى نقطة يمكن أن تغلب مصالح الشعوب والحكومات في بناء استقرار دول حوض النيل برؤية مشتركة تضمن مصالح الجميع.