الأربعاء 9 أكتوبر 2024
"ستلقاهم في محطات الحافلات يتظاهرون بقراءة الصحف، يتفحّصون ساعاتهم، أو يمسحون على أنوفهم، وعندما يدلفون إلى مقهى، فإنّ طلبهم يكون إمّا الشاي أو القهوة، ثمّ يتخافتون بينهم. أمّا مظهرهم فرثٌّ: فتيات بتسريحةِ أفرو [تسريحة ذات أصولٍ إفريقيّة] ونيتيلا [تشبه الشّال وترتديه النساء في إثيوبيا وإرتيريا] وأحذية رياضية، وصبيانٌ يلبسون جينزاً وأحذيّة باليّةً" - مسؤول حكوميّ يصف أعضاء حزب الشعب الثوريّ الإثيوبي.
أطاحت ثورةُ 1974 بنظام الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، وكان للحركات الطّلابية اليسارية دور كبير في تلك الثورة من خلال حزب الشعب الثوريّ الإثيوبي. لكن اللّجنة العسكرية - درْغ، بالأمهريّة؛ وتعني كلمة "اللّجنة" - خطفت السلطة بعد فترةٍ قصيرة من الثورة، وحين أدان الحزب الثوري اللّجنة العسكرية بإعاقة التحوّل الديمقراطي، خيّم على المشهد شبحُ عنفٍ دموي. ذلك أنّ اللّجنة العسكرية ستشن حرباً شرسةً ضده بعد محاولةٍ فاشلة لاغتيال زعيم اللّجنة، منغستو هيلا مريم، في عام 1976. ونتج عن ذلك سجنُ واختفاء وتعذيب وقتل الآلاف من أطرِ الحزب، في حملة عُرفت باسم "الإرهاب الأحمر".
كانت إيوت تيفيرا طالبةً في عمر الـ 18 عاما حين جُنِّدَت في صفوف حزب الشعب الثوريّ الإثيوبي. وجاء كتابها "برج في السماء" مذكّرات عن هذا التاريخ. تسافِرُ بالقارئ ليشهدَ النشاطات السياسيّة الصّاخبة للطلاب في أديس أبابا عام 1974، والنشوة العارمة التي صاحبت الإطاحة بهيلي سيلاسي، وليعايشَ حلم حزب الشعب الثوريّ الإثيوبي في بناء مجتمع حر ومتساوٍ (ويرمز عنوان الكتاب إلى ذلك الحلم: "برج في السماء")، وتحوّله التدريجي إلى ماركسيّة لينينيّة دوغمائيّة، في وجه عنفِ اللّجنة العسكريّة، ومواصلته للأنشطة الثورية في ظل القمع الشديد، ويأخذ القارئ أخيراً ليعاين قبض اللّجنة العسكرية على المؤلفة، وتعذيبها وسجنها لمدة تسع سنواتٍ بعد أن دوّختهم بالهروب. تخطر في بالي أحياناً عند قراءة هذا الكتاب رواية إبراهيم عبد المجيد "الإسكندرية في غيمة" - وهي رواية خيالية عن حركة الطلاب المصرية عام 1973- التي تتّبع مصيراً مماثلاً، وإن كان الفرق، بطبيعة الحال، هو أن "برجٌ في السماء" روايةٌ عن قصةٍ حقيقيةٍ.
ليست إيوت هي وحدها الشخصيّة الرئيسة في جزء كبيرٍ من الكتاب، إذ أنّ گيتاتشو مارو يحتلّ مركزية أيضاً، ومارو هو زعيم طلابي في حزب الشعب الثوريّ الإثيوبي، وهو نفسه الذي جنّد إيوت في الحزب من خلال حلقة قرائيّة ماركسية، وكان مرشدها، ثمّ أصبح حبيبها.
إنّ رواية "برج في السماء" قصةٌ، على نحوٍ ما، عن گيتاتشو مارو، وقصة گيتاتشو مارو هي قصة الثورة الإثيوبية المُجهضة، بل قصة كلّ الثورات اليسارية المُنتكسة. يُقدّم گيتاتشو مارو باعتباره شخصا تقدّميا حر الإرادة، وهي صفاتٌ كانت مطلوبةً في الأيام الأولى من الثورة. لكن مع تكثيف الصراع مع اللّجنة العسكرية، تحوّلت هذه الصفات إلى إزعاجٍ مستمرٍ للمكتب السياسي للحزب. إذ وضع امتعاضه العلني من سياسة الحزب الحربيّةِ في المدن ضدّ اللّجنة نهاية لمسيرته مع الحزب: فقد احتجز واستجوب، وأخيراً قتل بالرصاص، وكلّ ذلك في ظروف غامضة حتّى الآن. وتماماً كالشاعر الثوري السلفادوري العظيم روكي دالتون، لم يلق مارو حتفه على أيدي النظام الاستبدادي الذي كان يحاربه، وإنّما على أيدي رفاقه.
هذه قصة محزنة مألوفةٌ: قصّةٌ عن حزب بدأ ثورياً مثالياً، ثمّ ابتلعته الاستبدادية شيئاً فشيئاً، ليتورّط في سلسلة من الأخطاء والزّلات ستسحبه إلى المزيد من الاستبداد (حلقة مفرغة) حتّى بدأ يأكل نفسَه. ولكن ما يجعل "برج في السماء" مؤثراً على نحوٍ خاص، هو أنه اجتمعت كلّ تلك المصائرِ لتحطّم حباً حقيقياً بين شخصين حقيقيين - إيّوت وگيتاتشو. إنّ مشاعر إيّوت لم تخفت على مر هذه السنين، وإنّ اختيارها لعنوانِ الكتاب لدليلٌ على ذلك؛ ذلك العنوان المستلّ من أبياتٍ لجبران خليل جبران:
“إذا جمعنا شفق الذكرى مرة أخرى،
فإننا حينئذٍ نتكلم معاً،
وحينئذٍ تنشدون لي أنشودة أوقع في النفس من أنشودة اليوم.
وإن اجتمعت أيدينا في حلم ثانٍ فهنالك سنبني برجاً آخر في السماء.”
يخترق هذا الحزن المُمزِّق كلّ صفحات كتاب "برج في السماء"، ليصيّر الحوادث والأرقام والإحصاءات إيقاعاتٍ من الفرح والألم. فنحن نضحك مع إيّوت عندما تصف لنا كيف أنّ الطلاب الثوريين رأوا الرومانسية مسعى تافهاً (وكان گيتاتشو، قبل التعرّف عليها، واحداً منهم)، فدفع ذلك المتاحبّين في الجامعة إلى البحث عن ملاذ بجوار ما اسموه بخفةٍ "حوض التقبيل". ونحن نشاركها أيضاً تحمّسها للانضمام لحزب الشعب الثوري الإثيوبي، والانخراط في أنشطته السرية. ونحن نبتسم بخباثةٍ عندما تكشف لنا كيف أنها لم تجد لينين مثيراً للاهتمام مقارنةً بماركس، بيد أنها ما تجرأت على قول ذلك لگيتاتشو (الذي خسر حياته، يا للسخرية، بسبب الأطروحة اللينينيّة عن المركزيّة الديمقراطية). ولا نكتم الاعتراف حينما تكتب عن أنّ گيتاشيو "شحذ حسّاسيتي"؛ وإننا لنحبس أنفاسنا في خضم الحرق البطيء الطويل الذي يحيط بقصّتهما العاطفية؛ تلك التي قاطعها إرسال الحزب لهما إلى مكانين مختلفين من البلاد للنشاط الثوري، وقاطعتها مراقبةُ وقمع اللّجنة ("… كان حبنا سرّياً تماماً كالتنظيم الذي انتمينا إليه")؛ ليأتي البترُ الوحشي - وفي وقت غير مناسبٍ - لعلاقتهما عند قتل گيتاشيو بمثابةِ صدمة مخدّرة، وشيءٍ يصعب التخلّص منه ولو رميت الكتاب. إن شخصية گيتاشيو في "برج في السماء" جليةٌ وحادةٌ وحقيقيةٌ، لدرجةٍ تجعل خسارته خسارةً شخصيّةً.
إن ثقل رواية "برج في السماء" يزداد حِدّة من خلال وعي إيّوت الواضح بمسارها الفكري والعاطفي. تكتب إيوت، في ذروة الحركة الثورية، أنّ روحها الهائمة وجدت لها أخيراً سكناً، وأنّ النضال حاضرها ومستقبلها وحياتها. وفي خضّم كلّ هذا، تحمل ولاء للحزب، ففي أكثر من مناسبة، تقارن حبها لگيتاتشو بحبها للحزب، حتّى أنّه بعد طرد گيتاتشو - ثم قتله في النهاية - ظل، للمفارقة، إيمان إيّوت بالحزب متّقداً، وإن خالطه قلقٌ. تسائل إيّوت نفسها أكثر من مرة، ما إذا كان من الممكن أساساً أن يرتكب الحزب خطأ؛ وتكشف للقارئ كيف عقلنت الحادثة ("المشكلة ليست في الحزب، بل في زمرة داخله") في محاولةٍ لرفض الاعتراف بحقيقةٍ قد تهدّ كلّ تصوراتها عن العالم من حولها.
غير أنّه في عزلة السجن ووحشته - حيث تسمع يومياً أنباء إعدام ومذابح للرفاق، الفضل لمثالب الحزب - ستفرّغ إيّوت قلبها من الحزب والماركسية اللينينية الدوغمائية، فتكتب في واحدة من أكثر المقاطع المؤثرة في الكتاب: "ها قد تآمر عقلي ضد حزبي العزيز…. إنّني أمزّق ببطءٍ الحجاب المقدس الذي يغطي عيني: فبدون الأوهام والأساطير والتابوهات المقدسة المحيطة به، يتحول، يا لدهشتي، إلى مجرد جماعةٍ عادية من الناس يتحسّسون طريقهم في الظلام". لكن هذا لا يدفعها إلى التبرؤ من ماضيها أو إدانته: إذ تحافظ إيّوت على علاقة طيبة مع ذلك الماضي، وتتفهم حلم "برج في السماء". إنّها لتحتفظ للماضي بالاحترام والإعجاب، ولكنّها الآن قادرة على النظر إلى الحزب "دون حنين أو ندم".
تبدو أجزاءٌ من هذا الكتاب كما لو أنّها استلّت من رواية تشويقٍ: تنجوا إيّوت من الموت والسّجن عدة مرات؛ أحياناً بسبب تيقظها (تتظاهر بأنها أرملة حديثاً لتتجنب الاحتجاز)، وأحياناً بضربةِ حظٍ (تتوارى عن دورية شرطة في غضونِ ثوانٍ). يحتشد الكتاب بكلّ هذه الأشياء: هويات مزيفة وأوراق مزورة وتنكّرات وعملاءُ للشرطة والحب والإخلاص في أتون أكثر الظروف قسوةً حياة السجن. نعيش لحظات شفقةٍ، ولكن أيضاً لحظات فكاهةٍ (المرأة العجوز السجينة التي تجلس تحت شبكة الكرة الطائرة بينما يلعب السجناء، وترفض التحرك، فتضربُ الكرة في كل مرة تهبط عليها).
يمكن للتاريخ في النهاية، كما يقول أودن، أن يتأسّفَ، لكنه لا يستطيع المساعدة أو العفو. غالباً ما يُطلق على جيل السبعينيات اسم الجيل الذهبي والجيل الضائع، وفي ثنايا هذا الكتاب، سترى السبب: هاهنا شخصياتٌ هائمة على المسرح (وهائمة بعيداً عنه)، تتشكّل من أفرادٍ فريدين؛ أذكياءُ بشدةٍ ومتعاطفون ومراعون، ضحى معظمهم بكل شيء (بما في ذلك، في النهاية، حياتهم) بحثاً عن "برجٍ في السماء" لا يسلّم نفسه على هيّنٍ. وإنّه ليقذف في قلبك عند نهاية هذا الكتاب شعورٌ بالفراغ، وحِسٌّ بالعبث على الطريقة التي أهدرت بها هذه الأرواح. وتصف إيّوت شعور المنفى بالقول: "أينما حلّوا، تتلبس العديد منهم غربةً أبديةً إزاء العالم وإزاء أنفسهم، ولأنّهم حرموا الحُلم والمُثل، فقدوا معنى الحاضر والمستقبل. إنّهم يطاردون ماضي متفلّتٍ".
ليس كتاب "برج في السماء" عن لحظة حرجةٍ من التاريخ الإثيوبي الحديث فحسب، ولكنّه واحدٌ من أجمل القصص التي تناولت الحب والخسارة والثورة.
المادة مُترجمة عن هذا المصدر