الاثنين 24 مارس 2025
شهدت تشاد الدولة الواقعة وسط أفريقيا انتخابات تشريعية ومحلية، تعد الأخيرة في طريق عودة البلاد إلى النظام الدستوري، وقد حقق حزب الحركة الوطنية للإنقاذ (الحزب الحاكم) فوزاً ساحقاً في تلك الانتخابات، بعد حصوله، بقيادة الرئيس محمد إدريس ديبي إتنو، على124 مقعداً من أصل 188 مقعدا في الجمعية الوطنية، فضلا على استحواذ شبه كامل على المجالس البلدية والإقليمية، في انتخابات سجلت نسبة مشاركة ضعيفة جداً مقارنة بالانتخابات السابقة.
لم تسلم هذه الانتخابات التي نظمت نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2024 من الطعن في صحتها، فقد قاطعتها أحزاب المعارضة؛ بما في ذلك تحالف "جيكاب" المعارض، وتحالف "معاً للتغيير" بقيادة الوزير الأسبق أحمد حسب الله صبيان، وحزب "المحولون" الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق سيكسيه مسارا. هذا، وتعتقد كتلة المعارضة أن النظام الحاكم امتلك كل الأوراق المهمة للتأثير في نتائج الانتخابات، وبلغ بها الأمر درجة وصف الانتخابات بالتمثيلية.
لم يكن فوز الحزب الحاكم في تلك الانتخابات مفاجئا، بل كان متوقعاً ومضموناً منذ البداية، وذلك بعد مقاطعة المعارضة الحقيقة للانتخابات، وتشكيكها في صحة العملية، وهيمنة النظام الحاكم على الوكالة الوطنية لإدارة الانتخابات التي يزعم أن أعضاءها مستقلين، فيما الحقيقة أنهم ينتمون إلى الحزب الحاكم؛ فقد كان رئيس الوكالة مثلا عضواً في حزب الحركة الوطنية للإنقاذ، قبل توليه منصب رئاسة الوكالة، وبالمثل رئيس المجلس الدستوري؛ الهيئة المكلفة باعتماد النتائج النهائية للانتخابات، الذي ينتمي أيضا للحزب الحاكم، وكان قبل ذلك متحدثاً رسمياً باسم الحزب.
كما أن القانون الانتخابي الذي يحكم العملية الانتخابية قد أثيرت ضده تحفظات من قبل الأحزاب، لأنه لا يمنحها حق امتلاك مناديبها في مراكز الاقتراع نسخا من محاضر نتائج الفرز، كما يحظر كذلك تصوير المحاضر. كل تلك الأسباب كانت كفيلة بفوز الحزب في الانتخابات البرلمانية والبلدية والإقليمية، بغض النظر عن تصويت المواطنين.
تداركاً لإخفاقات ما قبل الانتخابات، والتي دفعت المعارضة إلى المقاطعة وعدم الاعتراف بالنتائج، واستجابة للتحديات المحتملة، والتي قد تثير القلاقل للسلطة في تشاد، سعى النظام إلى استقطاب شخصيات معارضة نافذة، بشكل فردي، لتقوية صفه، وإضعاف المعارضة على حساب الإصلاحات والتغيير الشامل الذي طالب به الجميع.
تمكنت بذلك من إحداث اختراق كبير في صف المعارضة الداخلية، باستقطاب أحد أشرس رموز المعارضة؛ رئيس الوزراء السابق زعيم حزب "المحولون"، الدكتور سيكسيه مسارا الذي ادعى سابقاً فوزه في الانتخابات الرئاسية، ورفض الاعتراف بنتائج الرئاسيات، بل وقاطع الانتخابات الأخيرة، ورفض الاعتراف بنتائجها، داعيا إلى فترة انتقالية جديدة، لكن وعلى حين غرة تفاجأ الجميع بإعلان الرجل استعداده دعم الرئيس محمد إدريس ديبي إتنو، والاعتراف بالهيئات المنتخبة.
كان ذلك بمثابة تحول كبير تشهده البلاد، فالرجل كان يمثل تهديداً حقيقياً للنظام في الداخل، قبل أن يدخل في مفاوضات مع الحكومة، وصولا إلى تفاهمات، وربما حصوله على وعود، يحتمل أن تضم اتفاقا بإعادته إلى رئاسة الوزراء، وتعيين بعض من أنصاره في مناصب المسؤولية. ولا يستبعد وجود أطراف خارجية لعبت دوراً مهماً في هذا التقارب الحاصل بين محمد إدريس ديبي، وسيكسيه مسارا تداركاً للوضع الملتهب الذي تعيشه المنطقة، وحفاظاً على مصالح تلك القوى، خصوصا وأنه يحظى بدعم تيارات في الولايات المتحدة الأمريكية، وصاحب علاقات واسعة في أوروبا ساهمت في صعوده السريع في الساحة السياسية التشادية.
تتنوع التحديات المحتملة التي قد تسفر عن العملية الانتخابية المثيرة للجدل، في ظل رفض أحزاب المعارضة قبول النتائج المعلنة، والاعتراف بالمؤسسات المنتخبة، وفي ضوء الأحداث الإقليمية المتسارعة، وتدهور العلاقة مع فرنسا، وذلك ما نسرده تباعا.
في ظل عدم تقبل مجموعات كبيرة من المعارضة لنتائج الانتخابات، ووصول المجتمع لحالة من اليأس بسبب عدم نجاح عملية التداول السلمي عبر صناديق الاقتراع، مع استمرار هيمنة الحزب الحاكم على مقاليد السلطة في الدولة، قد يتعمق الانقسام الداخلي، مما يولد ردة فعل غير متوقعة تعصف باستقرار المجتمع. فعقب إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية والمحلية، سارعت العديد من الأحزاب السياسية، سواء التي شاركت في الانتخابات أو تلك التي قاطعتها، بإصدار بيانات وتصريحات تشكك في صحة النتائج، وترفض قبولها أو الاعتراف بها، كما وجهت اتهامات بالتلاعب إلى الوكالة الوطنية لإدارة الانتخابات والنظام الحاكم.
وصف تحالف "معا للتغيير" الذي قاطع العملية الانتخابية، على سبيل المثال، النتائج بالمزيفة وغير الشرعية، واعتبرها بمثابة التعيينات، وأوضح في بيانه الذي أعقب النتائج مباشرة، بأن "تعسف النظام قد بلغ ذروته، وما زال يستمر في تدمير الديمقراطية التي وصفها بالناشئة". واعتبر أن النظام الحاكم اعتمد على آلة الغش في إدارته للدولة، وختم بيانه بالدعوة إلى الصحوة الشعبية من أجل إنقاذ البلاد. وبالمثل رفضت المجموعة الاستشارية للفاعلين السياسيين المعروفة اختصاراً ب"جيكاب"، وهو تحالف يضم عددا من الأحزاب المعارضة، نتائج الانتخابات البرلمانية والمحلية والإقليمية، واصفا إياها بالمفبركة، وكشف التحالف خلال مؤتمر صحفي، بتاريخ22 من يناير/ كانون الثاني الماضي، "أن المعارضة الحقيقية ستعيد هيكلتها خلال أسبوعيين من خلال اجتماعات عامة، الأمر الذي سيؤدي إلى اتخاذ قرارات وصفا بالحاسمة لمستقبل النضال السياسي في تشاد".
ما تزال العديد من الحركات المسلحة المتواجدة في الخارج ترفض اعترافها بشرعية النظام الحاكم، فضلاً عن رفضها لنتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية التي أجريت مؤخراً. وقد توعدت تلك الحركات بمواصلة نضالها لإحداث التغيير في البلاد، ومن أبرزها: "جبهة الوفاق من أجل التغير" التي تسببت في مقتل الرئيس السابق إدريس ديبي إتنو في أبريل/نيسان2021، وتتمركز الحركة في شمال البلاد على الحدود مع ليبيا، التي لا تزال، رغم تكبدها خسائر كبيرة في هجومها الأخير، تؤكد صمودها ضد النظام الحاكم في تشاد. وقد اتهمت في بيان لها بمناسبة العام الجديد، النظام الحاكم في تشاد بارتكاب جرائم ضد المعارضين، لا سيما اغتيال رئيس الحزب الاشتراكي بلا حدود يحي ديلو الذي قتل قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية، وأكدت أن تلك الجرائم لن تمر بلا حساب، وحملت فرنسا مسؤولية دعم نظام الرئيس محمد ديبي وعشيرته على حساب الشعب التشادي، وكشفت أنها تعمل مع القوى الوطنية لتوحيد الصف لتحرير البلاد من النظام الحاكم، داعية الشباب إلى الانخراط في صفوف المقاومة لبناء دولة القانون.
طوال ثلاثة عقود من حكم حركة الإنقاذ عُرفت فرنسا بوقوفها الدائم إلى جانب النظام التشادي، في وجه كل التحديات الأمنية التي يخلقها المتمردون، فحتى بعد وفاة الرئيس السابق إدريس ديبي إتنو، دعمت فرنسا ابنه محمد إدريس ديبي لمواصلة الحكم. وكان الظهور الأبرز لرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وسط مراسم تشييع الرئيس السابق إدريس ديبي بالعاصمة أنجمينا، وإطلاقه التهديدات للحركات المسلحة بأن بلاده "لن تسمح لأحد بتهديد استقرار تشاد ووحدة أراضيها" بمثابة الطلقة التحذيرية ضد المعارضة المسلحة.
لكن سرعان ما أخذت العلاقات تسوء بين البلدين، خاصة عندما أظهر ديبي رغبته في الترشح للانتخابات الرئاسية، ضارباً بالعهد الذي قطعه، وقطعته فرنسا للمجمع الدولي بعدم ترشحه في الانتخابات. هنا شعرت فرنسا، على ما يبدو، بالخيانة من قادة المرحلة الانتقالية التي وقفت بجانبهم، وأكسبتهم الشرعية الدولية، في حين واصل محمد ديبي سعيه، وانتخب رئيساً لتشاد في الانتخابات التي جرت في مايو/آيار 2024.
أعلنت تشاد نهاية العام الماضي إنهاء اتفاقياتها العسكرية والأمنية مع فرنسا، وبالرغم من أن هذا القرار يمثل استجابة لمطالب وطنية وشعبية، إلا أن العديد من المراقبين يرون فيه تحدياً صعباً للبلاد في ظل الانقسامات الداخلية. وقد تحاول فرنسا استغلال الانقسامات الداخلية والاستقرار السياسي الهش الذي تعيشه البلاد، للعودة مجدداً عبر بوابة نظام جديد، تدعمه للوصول إلى السلطة.
يعزز هذه الفرضية تصريح الرئيس محمد إدريس ديبي بمناسبة دخول العام الجديد الذي حذر فيه من مغبة زعزعة استقرار بلاده باستخدام المواطنين، وذلك بعد إنهاء الاتفاقيات العسكرية والأمنية مع فرنسا، حيث أعرب عن وعيه الكامل بالعواقب المحتملة، إذ قال إن بلاده "قد تواجه معارضة داخلية وخارجية"، موضحا أنه يمكن التلاعب ببعض مواطنيه لزعزعة استقرار البلاد.
في ذات السياق تساءل وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان ليكورنيو، في تصريح له، عقب إحاطة بلاده علماً بقرار حكومة تشاد بوضع حد للاتفاقيات العسكرية والأمنية، "ما إن كانت بلاده ستعود إلى تشاد إذا ما طلب منها نظام جديد العودة". وقد عرفت فرنسا تاريخيا بدعمها للمعارضة، وأحياناً استخدام الحركات المسلحة ورقة ابتزاز ضد السلطة، لتنفيذ أجندتها والانقلاب عليها، واستبدالها بأنظمة موالية.
قد تلعب حرب الأشقاء السودانيين دوراً محورياً لعودة الحركات المسلحة التشادية إلى الشرق، وتحديداً إقليم دارفور المجاور لتشاد، من أجل ممارسة نشاطها العسكري ضد الحكومة، وقد توفر تلك الحرب للحركات فرصة الوصول للسلاح والتحرك بسهولة، وستستفيد كثيراً من توتر العلاقات بين الحكومة التشادية والحكومة السودانية، بسبب اتهام الأخيرة للنظام في تشاد بالوقوف مع الدعم السريع في حربه ضدها، ما قد يفتح الباب للسودان بتقديم الدعم للحركات التشادية للانقضاض على السلطة في تشاد.
يبدو مستقبل الأوضاع في تشاد أكثر غموضاً من أي وقت مضى، فمن ناحية تطالب مجموعة من قوى المعارضة بشقيها المدني والعسكري بإجراء حوار وطني حقيقي، وتنظيم انتخابات حرة وشفافة، تسمح للمواطنين باختيار قادتهم بجانب وضع حد لعمليات الفساد، وسرقة أموال الدولة. في المقابل يظل النظام مستمراً في تجاهل تلك المطالب، ويرفض أي تنازل أو حتى إشراك للقوى الوطنية الأخرى في السلطة، حيث يفضل الانفراد بالسلطة إلى أطول وقت ممكن.