تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 17 مارس 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

مستقبل روسيا في أفريقيا بعد سقوط نظام الأسد

21 ديسمبر, 2024
الصورة
Geeska cover
وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف (الثاني من اليسار) يحضر اجتماعًا مع وزير الخارجية السنغالي ياسين فال (الثاني من اليمين) في موسكو في 29 أغسطس 2024. (تصوير Evgenia Novozhenina / POOL / AFP)
Share

فاجأ انهيار نظام بشار الأسد السريع جلّ الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، فتسارعت الأحداث بسوريا مربكة للجميع. يشكل هذا الحدث الذي ستعقبه تداعيات، فرصة لإعادة ترتيب خريطة الرابحين والخاسرين من نهاية نظام البعث. يظهر وسط هذه الأحداث المتسارعة، بأن موسكو فقدت حليفا استراتيجيا بسقوط دمشق، وتفاجأت من انهياره؛ وبدا ذلك واضحا في الانسحاب السريع لقواتها من بعض قواعدها، وترحيل جزء من عتادها وأنظمتها الدفاعية. لكنها، وبالرغم من ذلك، تُسارع إلى إعادة ترتيب أوراق وجودها، وتعزيز مصالحها بالمنطقة.

لئن كان من المبكر التكهن بمستقبل الوجود الروسي بسوريا بعد الأحداث الأخيرة، فالظاهر أنها تستعد لكل السيناريوهات، كما تدرس مختلف الخيارات الممكنة مع السلطة الجديدة. ويراهن قادة الكرملين على قدرتهم على تجاوز أسوء الاحتمالات، وتكثيف حضور بلدهم في أصعب اللحظات، فهل سيتأثر حضورها الأفريقي بسقوط نظام الأسد؟

سوريا في قلب الحضور الروسي بأفريقيا

استند الوجود الوجود في أفريقيا على العلاقات التاريخية الممتدة منذ زمن الاتحاد السوفياتي من جهة. واستند من جهة ثانية، على الامتدادات الروسية الجديدة، وفق رؤية فلاديمير بوتين لاستعادة روسيا الاتحادية للمكانة الدولية التي كان يتمتع بها الاتحاد السوفياتي. تتأسس هذه العودة على نهج سياسة خارجية متعددة الأوجه، تراهن على تعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية؛ لضمان سيادتها ومساعدتها، وتعميق التعاون معها بكافة المجالات.

ارتكزت الخارجية الروسية على تعدد دوائر تحركاتها، مراهنة على أوراسيا والشرق الأوسط لإعادة ترتيب تحركاتها، وفك العزلة عنها، وتصاعدت محورية أفريقيا في هذا السياق. داخليا، ارتبطت بالحرب الأوكرانية باعتبارها نقطة محورية لتزايد الاهتمام بأفريقيا، لكسب حلفاء في الملتقيات الدولية، وتوفير أسواق للتعاون المشترك لتجاوز الحصار الغربي لها. فيما شكلت الانقلابات العسكرية على المستوى الإقليمي محطة محورية لتعزيز موسكو لوجودها بالمنطقة، مستثمرة دعم الأنظمة المنقلبة، بالرهان على الدعم العسكري والدبلوماسي لها.

تنطلق الاستراتيجية الروسية من الشرق الأوسط، لاسيما بسوريا، كمحدد لتحركاتها الخارجية، لذلك سارعت لدعم نظام بشار الأسد بعد انطلاق الاحتجاجات بسوريا، وتعدى الدعم حدود المساندة السياسية والدبلوماسية إلى تدخل مباشر بضربات جوية وقوات ومستشارين ومعدات روسية.

كانت قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية محور انتشار هذه القوات الروسية، ومعداتها الدفاعية والعسكرية، وتتجاوز أهميتهما الاستراتيجية من منظور موسكو دعم النظام إلى استخدامها قاعدة للمناورات البحرية، ومحطة لرصد التحركات الغربية.

يُعد ميناء طرطوس الوحيد في المياه الدافئة، ويلعب دورا استراتيجيا، فهو صلة الوصل بين روسيا ومناطق نفوذها الخارجية، خصوصا الأفريقية، كما أن القاعدة الجوية حميميم، التي كانت توصف بأنها مركز للعمليات الروسية خارج حدودها، تطورت إلى مركز لوجستي لعملياتها في ليبيا وأفريقيا الوسطى والسودان، ثم ارتقت منصة لوجيستية ومحطة عبور إلى مراكز نفوذها بأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

تعتبر أفريقيا محطة أساسية لموسكو، راهنت على التحولات الدولية كما الإقليمية بالمنطقة، لإعادة تشكيل نفوذها هناك. كانت ليبيا محطة أساسية للوجود الروسي بشمال القارة، تعود العلاقات بينهما إلى زمن النظام السابق، لكن بعد انهياره، انتبهت إلى فقدان حليفها بالمنطقة، فسارعت لانتقاد دور حلف الناتو في القضاء عليه. كما حاولت استعادة تمركزها بالمنطقة، فكانت تركز على تكثيف علاقاتها مع الجنرال خليفة حفتر، بإرسال قوات فاغنر لدعم الجيش الوطني الليبي، وساهمت في تقديم معدات عسكرية راهنت عليها قواته في معركة طرابلس.

ومرة أخرى، لم تكن سوريا بعيدة عن هذا الحضور؛ ففي ذروة الحرب الأهلية برزت تقارير تتحدث عن استعانة روسيا بمقاتلين من ليبيا في الحرب السورية، وبالمقابل تسفير مقاتلين سورين للمشاركة في الحرب الليبية. لقد ساهم الحضور التركي بالمنطقة في إرساء توازن بين طرفي النزاع الليبي، لكن دون أن ينهي وجود القوات الروسية بعد وقف إطلاق النار بين الجانبين، فساهمت في إنشاء قواعد عسكرية بحرية تعتبر بمثابة همزة وصل بين القوات الروسية بسوريا وبمحاور حضورها بأفريقيا.

غير بعيد، كان السودان نقطة محورية للوجود الروسي بأفريقيا، فقد تأسست العلاقات على الروابط التاريخية الممتدة بين البلدين، كما استندت على دعم نظام البشير بعد العقوبات الغربية عقب انتهاكات حقوق الانسان بدارفور، ومع اندلاع الاحتجاجات على نظام البشير.

حافظت موسكو بعد انهيار النظام على حضورها، فتوطدت العلاقات بين مجموعة فاغنر وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وغيرت الحرب بين قوات الدعم السريع شبه العسكرية والجيش السوداني المشهد الداخلي، والتي تحولت إلى مواجهات ممتدة، وصراع على السلطة، وتغيرت توجهات الفرقاء وعلاقاتهم بموسكو، وسعت لتعزيز حضورها وحماية مصالحها، فاستغل عبد الفتاح برهان هذه العلاقات لتعزيز مراكز نفوذه في الحرب المستمرة.

وإلى وسط القارة، بجمهورية أفريقيا الوسطى استثمرت العلاقات المتوترة مع فرنسا لترسيخ وجودها، ودعم النظام والاستقرار بالمنطقة. وبغرب القارة، تعزز التقارب الروسي مع دول الساحل عقب الانقلابات العسكرية المتتالية، من مالي إلى بوركينافاسو والنيجر، وبخروج القوات الفرنسية والدولية اتجهت الأنظمة المنقلبة نحو تعزيز التقارب مع موسكو. هناك حديث عن التقارب مع التشاد بعد الانتخابات الأخيرة، لكن الأمر يتجاوز توظيف التحديات الأمنية لتعزيز تحركاتها، فقد حافظت على علاقات بدول أخرى؛ مثل مصر والجزائر ومدغشقر وإثيوبيا وغيرها.

يعد التعاون العسكري أساس الأدوات الروسية في القارة، ويجسده حضور قوات فاغنر التي عوضت بإنشاء الفيلق الأفريقي بعد مراجعة حضورها، ومستوى العلاقات الدفاعية والشراكات الأمنية وحجم المبادلات. حاولت موسكو تعزيز هذه الارتباطات بآليات اقتصادية تعاونية، وشكلت القمة الروسية الأفريقية فرصة للتأكيد على مثانة هذا الوجود، بالإضافة إلى الزيارات العالية المستوى والاتفاقيات المتبادلة بين موسكو وهؤلاء الشركاء الأفارقة.

يتعدى الحضور الروسي الجديد بأفريقيا تجاوز معضلة انهيار الاتحاد السوفياتي، وتراجع نفوذه إلى البحث عن مناطق نفوذ جديدة. لكن ورغم ذلك يبقى وجودها هشا أمام حجم التحديات التي تعترضه، مما يرجح بأن الأحداث الأخيرة بسوريا لن تكن في صالح موسكو، بل ستساهم في التأثير على مستوى تحركاتها بالمنطقة.

إعادة ترتيب الوجود الروسي

شكل انهيار نظام الأسد مفاجأة لكل المراقبين، وتكمن خطورته في كونه قد يشكل نقلة نوعية للوجود الروسي، فعدم قدرة موسكو على الدفاع عنه يبعث رسالة سيئة لشركائها الأفارقة، لأنه يعكس ضعف قدراتها على دعم وحماية حلفائها. ويتجاوز الأمر فشلها في حماية حليفها إلى عدم قدرتها على التكهن بمستقبل وجودها، واضطرارها إلى تقليص وجودها العسكري بقواعدها بالمنطقة، غير أنه في الآن ذاته يؤكد قدرتها على إيجاد حلول بديلة في أفريقيا، كما في المنطقة بما يمكنها من إعادة ترتيب وجودها، وهو الأمر الذي تتقنه موسكو، وتراهن عليه لمقاربة التحولات المفاجئة.

تبحث موسكو عن خيارات لتعويض الخسائر المحتملة لانهيار نظام الأسد، وإعادة ترتيب مراكز تحركاتها ودعمها بالقارة الأفريقية، وعادت ليبيا إلى الواجهة باعتبارها محطة محتملة للمنطلق الروسي إلى مناطق نفوذها الأفريقية. فقد تنطلق من وجودها بالمنطقة، ونجاحاتها هناك، من أجل تشكيل نقطة مركزية، بالنظر لمثانة العلاقات الممتدة مع الخليفة حفتر، واستطاعت أن تؤسس لوجودها بالارتكاز على القواعد العسكرية الجوية في ليبيا.

قد تشكل هذه القواعد الجوية التي تسيطر عليها في ليبيا، وهي على التوالي؛ الخادم والجفرة والقرضابية وبرك الشاطئ، منصة لتحركاتها نحو محاور أخرى؛ فقد كشفت بيانات الرحلات الجوية في الساعات القليلة للإطاحة بالأسد عن تنقلات مكثفة إلى ليبيا، اعتبرت محاولة لنقل المواد الدفاعية والتعزيزات العسكرية من أجل تأهيلها قاعدة روسية نحو القارة، بهدف تعويض خسارة الحليف السوري.

تكهنت بعض المصادر بإمكانية إنشاء قاعدة بحرية في ليبيا لذات الهدف، فهناك حديث بأن موسكو قد تحوّل ميناء طبرق إلى منصتها بالبحر المتوسط، لتعويض فقدانها قاعدة طرطوس بالساحل السوري، وللاستفادة من الإمكانات الاستراتيجية التي توفرها المنطقة.

يرجح أيضا أن تتطلع روسيا إلى السودان كمحطة مفترضة لقواعدها، إذ استعادت المفاوضات التي انطلقت من أجل إنشاء موسكو قاعدة بحرية في البحر الأحمر؛ فعادت للواجهة اتفاقية التفاوض حول تحويل بورتسودان قاعدة روسية، وكان الرهان على نظام البشير قبل سقوطه، لكنها فشلت في استكمال المشاورات، غير أن ذات الأسئلة حولها عادت مع مجلس السيادة، وقد عجلت الأحداث الأخيرة بإعادة التفاوض والنقاش حولها كمحطة مفترضة لروسيا بالمنطقة. كما تسربت معلومات عن مفاوضات سابقة حول التعاون العسكري الروسي الإريتري، فيحضر ميناء مصوع الإرتيري قاعدة عسكرية محتملة، تربط موسكو بالشرق والغرب الأفريقيين.

يرسم سقوط الأسد سيناريوهات كثيرة على الوجود الروسي، ويحتم عليها المسارعة من أجل تفكيك معادلة إعادة ترتيب مناطق ارتكازها بالقارة، لمواجهة مختلف التحديات التي فرضتها هذه المتغيرات الجديدة.

التحديات القادمة على النفوذ بأفريقيا

سيساهم سقوط نظام بشار في إضعاف عمليات موسكو بالمنطقة، وأن كانت ستستدرك الأمر في المستقبل، على أن نجاحها مرتبط بمرونة تحركاتها المستقبلية؛ إذ سترتهن بالتحولات الإقليمية، فالصورة حتى الآن غير واضحة، وما يزكي ذلك حديث عن تنسيق لإجلاء قواتها، دون أن تلغي هذا الإجراءات إمكانية إعادة تشغيلها القواعد العسكرية بتوافقات مع الحكام الجدد في سوريا، إذ تسربت معلومات عن محاولتها لإعادة التفاوض حول مستقبل وجودها ومصير قواعدها.

كما يمكن أن تعيد هذه الأحداث تشكيل خريطة النفوذ الروسي بالمنطقة مستقبلا، لكنها في المنظور القريب تحتم عليها المسارعة لعدم خسارة هذه القواعد، فحدوث الأمر ستنعكس على ديمومة عمليات الدعم والمساندة للدول الأفريقية، وسيشل الجسر الداعم لنفوذها في المنطقة، كما سينعكس على مستويات حضورها.

وقد يضاعف هذا الانسحاب من سوريا، وإمكانية التخلي عن قواعدها وخسارتها موطئ قدمها بالمتوسط من تحدياتها على الصعيد الدولي، وحتما ستنعكس سلبا على وجودها الخارجي لاسيما بأفريقيا. فتتعدى خطورة هذه المتغيرات تراجع النفوذ الروسي بكافة المحاور، نتيجة للتحولات المتسارعة بأوكرانيا، وتقاطعها مع هذه المتغيرات الجديدة بالشرق الأوسط، وستتعقد مساراتها مع وصول دونالد ترامب المرتقب للبيت الأبيض، والذي يبشر بإعادة ترتيب المشهد العالمي. لذلك، تسارع موسكو لتحصين مكاسبها بأقصى سرعة ممكنة. 
قد تنعكس هذه المتغيرات على استراتيجية الوجود الروسي بالقارة، حيث تتكهن تقديرات بأنها ستقلص مشاركتها أفريقيا، وستتجاوز مقتضى التقليص إلى المسارعة بإعادة ترتيب معادلة نفوذها وخريطة حلفائها.

يرجح إذن أن الملف الليبي قد يشهد تحولات مفاجئة في أعقاب هذا السقوط المفاجئ، ويتوقع أن تكون عواقبها شديدة على ليبيا، فمن الممكن أن ينخفض الدعم الروسي لحلفائها هناك، ما قد يخل بالتوازنات العسكرية القائمة، وقد ينذر بالعودة للمواجهات المسلحة لحسم نهائي للأزمة. ينطبق الأمر ذاته على السودان، فاختلال الدعم الروسي قد يقوي رصيد الطرف الآخر، ويعيد ترتيب "معادلة التوازن الهش" بين القوى المتصارعة، مما سيعيد رسم معالم المواجهات بينهما.

وقد تمتد تداعياته إلى دول الساحل والصحراء؛ فتنعكس هذه المتغيرات على حلفائها بغرب أفريقيا، وقد برزت بوادر هذه التحديات بمالي قبل أشهر ماضية، ففي محاولة لإعادة ترتيب الأوراق الداخلية، أعادت الحركات الأزوادية ترتيب تحالفاتها بعد معاركها الحاسمة مع الجيش المالي وقوات الفاغنر، والتي أسفرت عن مقتل وإصابة عشرات المقاتلين من الأخيرة، كما تسربت تسجيلات توثق اعتداءاتهم على المدنيين.

مما يعيد للواجهة تهديد هذه الحركات للنظام القائم المستند على الدعم الروسي، إلى جانب التحدي المتزايد للحركات المتطرفة، التي حافظت ووسعت نطاق عملياتها بالمنطقة، وقد يسري الأمر ذاته على دول الجوار مثل بوركينافاسو والنيجر.

في سياق متصل، قد يتم إعادة تفعيل سياسة "فك الارتباط بروسيا" بالمنطقة، وقد استعدت الولايات المتحدة لمواجهة النفوذ الروسي، كما أنها فرصة سانحة أمام أوكرانيا لاستعادة زمام المبادرة، واستكمال مشروعها لمواجهة موسكو بهذه المناطق. وقد تعتبرها القوى الأخرى المنافسة؛ مثل فرنسا، فرصة مواتية لاستعادة نفوذها السابق، وإعادة ترتيب علاقاتها بشركائها.

طبعا، يتأثر حدود النفوذ الروسي بالمنطقة بكل المتغيرات، فقد انعكست الحرب الأوكرانية على مستوياته وحدوده، كما أن أحداث تمرد عناصر فاغنر ساهمت في تراجعه، ومن المؤكد أن تؤثر الأحداث الجارية بسوريا على حضورها، وقد تنعكس على ألياتها واستراتيجياتها. لكن بالمقابل، يتأكد في كل محطة بأن موسكو أظهرت قدرتها على التكيف مع مثل هذه الأوضاع، وتستطيع أن تتجاوزها، ولن تكون المتغيرات الأخيرة استثناء، لكنها قد تتطلب وقتا، وهذا ما ليس في صالح موسكو إقليميا ودوليا.

بالمحصلة، لا يزال حضور روسيا قائما، ولن تنتهي تحركاتها، كما أنه من غير الواضح انحسار مستوى نفوذها بخسارتها لحلفائها، واحتمالية إغلاق قواعدها بالمنطقة، فقد أظهرت الحرب الأوكرانية وأحداث كثيرة قبلها، قدرة روسيا على التكييف مع هذه المتغيرات، وإصرارها على كسر الحصار الغربي والتضييق على مناطق نفوذها، وستؤكد التحولات الراهنة مدى قدرتها على التفاعل والتكييف معها.