تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الثلاثاء 11 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

مصطفى عمر.. امتحان السلطة

23 سبتمبر, 2025
الصورة
Geeska Cover
Share

قبل وقتٍ طويل من تولّي مصطفى عمر -المعروف بلقبه الصومالي (Cagjar)- رئاسة إقليم الصومال الإثيوبي، وقبل أن يغدو من أبرز منتقدي سلفه عبدي إيلي، كان شوكةً في خاصرة النخب الفكرية الإثيوبية، يُربك سردياتها عن الهوية الصومالية وتاريخ الإقليم. ويتجلّى ذلك بوضوح في مقالةٍ نشرها عام 2010 باسمٍ مستعار "مختار م. عمر"، فنّد فيها مباشرةً ادعاءاتِ الأستاذ الإثيوبي سيوم غلاي الذي شكّك في طرح جبهة تحرير أوغادين الوطنية (ONLF) القائل إن سيطرة إثيوبيا على أوغادين جاءت عبر الضمّ والغزو أواخرَ القرن التاسع عشر، بل ذهب أبعد من ذلك زاعمًا أنّ أوغادين -بل والصومال بأسره- "كان في وقتٍ ما جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الإثيوبية".

فنّد مصطفى تلك المزاعم ونعَتها بأنها "مفعمة بالخيال وأنصاف الحقائق والحنين إلى الماضي والتمنّيات وسرديات تاريخية مشكوك فيها". وفي ردٍّ لاذع كتب: "لا نسمع هذا إلا من بعض النخب الإثيوبية التي تُمعِن في تخمير أوهامٍ لذيذةٍ لملذّاتٍ يسيرة. إن تقديم ادعاءات غير موثّقة للملك يوحنّس -الذي لم يكن يعرف حتى أين تقع شَوا، فضلًا عن أوغادين- بوصفها دليلًا على امتداد حدود إثيوبيا إلى الصومال، لهو ضربٌ من الحماقة".

ومضى ساخرًا مستحضرًا أنّ سياد برّي، رئيس الصومال الأسبق، ادّعى يومًا أنّ مدينة أداما (نازريت) الحالية تتبع الصومال ومنحها اسمًا صوماليًا ((Haadaame ثم تساءل مصطفى، على نحوٍ بلاغي: "أفنقابل إذن ادعاء الملك يوحنس بادعاء سياد برّي ونعدّ الكفّتين متكافئتين؟"، وأضاف لمزيدٍ من الدراما: "وعلى أيّ حال، كانت معرفة سياد برّي بالجغرافيا أرقى بكثير من معرفة الملك"، ليخلص في النهاية إلى أنّ الأستاذ قد خلط الفولكلور بالتاريخ.

يمكن، من باب الإنصاف، وصف مصطفى في تلك المرحلة بأنه «محاربٌ بالقلم» (Pen Tadaaqi): مثقّفٌ جسور يشهر القلم سيفاً. وبلغة الشاعر الصومالي هدراوي، اتّخذ قلمه «صديقاً لا يَخذل» (saaxiib kal furan)ليواجه القوالب النمطية والسرديات الحبشية المهيمنة عن الهوية الصومالية. وفي مقالةٍ لاحقةٍ صعّد مصطفى من حدّة نقده، فوسم الأستاذ سيوم ومَن على شاكلته من نخب إثيوبيا بـ«الجبناء فكرياً». كتب يقول: "سمّيتُ كلَّ الذين يواصلون رفض النظر إلى تاريخ إثيوبيا الحكاياتي بعقليةٍ جديدة، جبناءَ فكريين محرومين".

من «أواري» إلى المنفى

تبلور وعيُ مصطفى السياسي قبل تلك المقالات بسنوات، خلال دراسته للاقتصاد في جامعة أديس أبابا. هناك عُرف بفصاحته وحدّة نقده وهو يواجه أسئلة الهوية والانتماء. وبينما كان يزعزع مسلّمات القومية الإثيوبية، كان كثيرٌ من زملائه يعدّونه «إثيوبياً صالحاً» بفضل طلاقته في الأمهرية، وأُلفته بقلب البلاد وثقافتها.

تضيء تلك المواجهات المبكرة مسار رجلٍ انطلق من «أواري» شمال الإقليم الصومالي إلى المنفى، قبل أن يعود إلى جيغجيغا رئيساً. وُلد في مطلع سبعينيات القرن الماضي بالمنطقة الصومالية، وأكمل الابتدائية والمتوسطة في «أواري»، ثم الثانوية في «دجحبور». نال إجازةً في الاقتصاد من جامعة أديس أبابا، ثم ماجستير في «الاقتصاد الزراعي» من «كلية إمبريال» في لندن.

"صحيح أنّ بعض الإصلاحات أُطلقت في أيامه الأولى، لكن المنحنى مال لاحقًا نحو التقييد لا التوسيع… الناس يتحدّثون بحرية أقل، ينظّمون أنفسهم علنًا أقل، ويمنحون ثقتهم بعمقٍ أقل"

بدأ مسيرته المهنية مُدرّساً في كلية تدريب المعلّمين بجيغجيغا (TTC)، ثمّ ترقّى إلى منصب نائب العميد. بعدها تولّى منصب نائب مدير «مكتب التعليم» في الإقليم الصومالي، في فترة كان فيها عبدي إيلي (الرئيس السابق للإقليم) يصعد إلى رئاسة جهاز أمن الإقليم. ويُرجَّح أن التوتّرات بين الرجلين أسهمت في مغادرته الإدارة الإقليمية، وتحوله إلى العمل الإنساني مع «إنقاذ الطفولة» و«أوكسفام» ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا).

بحلول منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، وضعت صراحته ونشاطه السياسي في مرمى القيادة الإقليمية والحزب الحاكم آنذاك؛ جبهة تحرير شعب تغراي(TPLF)،وفي عام 2007، وتحت وطأة تهديدٍ متصاعد، اضطرّ إلى مغادرة البلاد والعيش في المنفى.

المقارَعة من بعيد

من منفاه، واصل مصطفى مقارعة «جبهة تحرير شعب تغراي» بلا هوادة. ولفهم حدّة موقفه، يلزم النظر إلى تاريخ إثيوبيا القريب جنبًا إلى جنب مع الواقع المعيشي للصوماليين.

في عام 1991 قادت «جبهة تحرير شعب تغراي» ائتلافاً حاكماً جديداً أشرف على إسقاط نظام «الدرغ» العسكري في إثيوبيا. وما إن وصلت إلى السلطة حتى أقرّت دستوراً جديداً كرّس «الفيدرالية الإثنية»، ووعد بمنح «الأمم والقوميات والشعوب» قدراً أكبر من الحكم الذاتي وحق تقرير المصير. غير أنّ الإقليم الصومالي ظلّ، رغم تلك الوعود، يرزح تحت التهميش والحملات القمعية العنيفة، ولا سيما خلال عمليات مكافحة التمرّد ضد «جبهة تحرير أوغادين الوطنية».

في نظر مصطفى، جسّدت «جبهة تحرير شعب تغراي» استبدادًا متنكرًا في خطاب شمولٍ إثنيٍّ رقيق؛ فالفيدرالية، كما يراها، لم تكن التزامًا حقيقيًا بقدر ما كانت أداةً للضبط والسيطرة. وقد غذّى هذا التناقض خيبته، فكتب في مقالاته واصفًا الجبهة بأنها أكبرَ مصدرٍ لمعاناة الصوماليين في التاريخ الحديث: "إنّ إثيوبيا التي كانت، وما تزال، الأداة الأبرز في العبث بأمر الصومال خلال العقدين الماضيين هي إثيوبيا جبهة تحرير شعب تغراي. ما من حاكمٍ إثيوبي ألحق بالصوماليين ألماً أكثر من ميليس زيناوي. وما من حاكمٍ إثيوبي قتل من الصوماليين في الإقليم الصومالي بإثيوبيا أكثر من زيناوي. وما من حاكمٍ في تاريخ إثيوبيا أعطبَ نفس الصوماليين وروحهم السياسية أكثر من جبهة تحرير شعب تغراي".

ولم يكن ذلك، في تقديره، موقفًا نظريًا: فقد تحوّلت «الفيدرالية الإثنية» إلى حقوقٍ شكلية للأقاليم، فيما جرى التغاضي عن انتهاكات واسعة وإهمالٍ بنيوي في الهوامش. لذا لم يكن غريبًا أن تُصنِّفه السلطة «تهديدًا للأمن القومي». وقد دفع ثمن نشاطه باهظًا: تعرّض شقيقه للتعذيب وقُتل، واختفى عمّه، وتعرّضت أسرته لترهيبٍ دائم.

مخاض الهوية

على الرغم من نفوره من انتهاكات «جبهة تحرير شعب تغراي»، تكشف كتاباته المبكّرة عن رجل تمزّقه أسئلة الهوية والقومية والانتماء. كان يُكنّ تقديرًا عميقًا لمقاومة «جبهة تحرير أوغادين الوطنية»، ويصفها بأنها «فخرُ أغلب الصوماليين»، لكنه لم يتبنَّ أهدافها الانفصالية كاملة؛ إذ رأى أن نضالها ينبغي أن يفضي في النهاية إلى صيغة تفاوضية تعيد وصلها بـ«الوطن الأم» الصومال. وفي تعبير لافت، وصف الجبهة بأنها «مرحلة، نصف فاصلة-لا نقطة ختام».

وفي الوقت نفسه، تخيّل مستقبلًا سياسيًا ممكنًا للصوماليين داخل إثيوبيا. رفض ما سمّاه «الهوسَ بالتخليط التاريخي» -ذلك الجدل الذي لا ينتهي حول الخرائط والأساطير- معتبرًا أن الأولوية هي لبناء تحالفات بين المجموعات المقهورة في إثيوبيا، بصرف النظر عن الإثنية، وفتحُ حوارٍ مستقبلي عن سُبل التعايش. وفي محادثاتٍ خاصةٍ أجراها معي، كما في مقالاته العلنية، كان مصطفى يدعو مراراً إلى تحالفاتٍ عابرة للإثنية، ولا سيما بين الصوماليين والأمهرا والأورومو، يراها قادرةً على تفكيك نظام «جبهة تحرير شعب تغراي» وبناء إثيوبيا جديدة تتعايش فيها أممٌ متعدّدة.

هذه الأفكار المتحوِّلة - حول «جبهة تحرير أوغادين الوطنية»، والدولة التي قادتها «جبهة تحرير شعب تغراي»، والسرديات المتنازع عليها للهوية الصومالية، ومعنى المواطنة الإثيوبية - هي التي صاغت لاحقًا خياراته السياسية عندما تولّى الرئاسة.

الصعود إلى السلطة

انتقل مصطفى من مقعد المعارض إلى قمة هرم إقليم الصومال الإثيوبي في أغسطس/آب 2018. كان ذلك صيف ذروة الأزمة السياسية في إثيوبيا؛ احتجاجات واضطراب أفضيا إلى استقالة الرئيس المخضرم للإقليم عبدي إيلي. وسط هذا الارتباك واللايقين، اجتمع الشيوخ والفاعلون المدنيون والناشطون الصوماليون في أديس أبابا للمطالبة ببداية مسار جديد. وقع اختيارهم على مصطفى، فاستجاب رئيس الوزراء القادم حديثًا إلى السلطة، آبي أحمد. ولم يكن تعيينه رئيسًا بالوكالة مجرد تبدّل في الوجوه؛ بل تتويجًا لعقودٍ من النضال.

رجل وُسِم يومًا بـ«تهديدٍ للأمن القومي» طُلب منه فجأةً أن يؤمّن إقليمًا. لكن الحُكم ليس بمثابة كتابة مقالة؛ والسلطة، حين تؤول إليك، نادرًا ما تُبقي لقناعاتك صفاءها الأول

في «دولقابو»، وهي فيلا تعلو سفح جبلٍ يطلّ على جيغجيغا، عاصمة الإقليم، تسلّم مصطفى إقليماً أنهكته الانقسامات والاضطراب والقمع. لم تعد «جبهة تحرير شعب تغراي» ممسكةً بالمقاليد، والرجل الذي كان يُلقي الرعب في النفوس صار خلف القضبان في أديس أبابا.

كان مصطفى رجلاً دُفع إلى المنفى، وقاوم الاستبداد بالكلمة، ودفع ثمناً شخصياً باهظاً لقناعاته. وتمنحنا رحلته لمحةً نادرة عن كيف تصوغ القناعة والعقل والصلابة مصيرَ رجلٍ ومصيرَ إقليمٍ بأسره. ومع ذلك، وبعد سبع سنواتٍ في السلطة، يبرز السؤال: كيف يخدم القلم -الذي شقّ الأساطير وعرّى سرديات الاستبداد- في ميدان الحكم بما فيه من تعقيد واضطراب؟ هل ليّنته السلطة أم حافظ على مبادئه الجوهرية؟ كيف يراه مؤيدوه وخصومه، وماذا يكشف أسلوبه القيادي عنه؟

محارب القلم في دهاليز الحكم

كان انتقالُ مصطفى من معارضٍ منفيّ إلى رئاسة الإقليم، في نظر كثيرين، تجسيدًا لتغييرٍ طال انتظاره: رجل وُسِم يومًا بـ«تهديدٍ للأمن القومي» طُلب منه فجأةً أن يؤمّن إقليمًا. لكن الحُكم ليس بمثابة كتابة مقالة؛ والسلطة، حين تؤول إليك، نادرًا ما تُبقي لقناعاتك صفاءها الأول. فالنظام الذي وصفه مصطفى يومًا بـ«الفيدرالية الزائفة» و«الاستبداد المتلحّف بخطاب الشمول» أصبح الإطار الذي يُملي عليه كيف يحكم. لم يعد مجرد «محاربٍ بالقلم»، بل فاعلًا سياسيًا مقيّدًا بميزانيات وبيروقراطية وتكتلات وبناء تحالفاتٍ وما يلازمها من مساومات. وحتى «صديقه الذي لا يَخذل» -القلم- غدا يخدم غايةً مختلفة: اختبار طبعه وقيادته.

يرسم حلفاؤه صورةَ قائدٍ متواضعٍ قليل التكلّف، قريبٍ من الناس ومبدئيّ، لا يستسيغ استعراضات «الرجل القوي». يقول أحد المقرّبين: «مصطفى معروف بتواضعه… شخص، للمفارقة، غير رئاسي». ويؤكد أنصاره أن حقبته شكّلت قطيعةً واضحة مع قمع سلفه: تراجعت الاعتقالات، اتّسع هامش التعبير، واستعاد المجتمع المدني بعض أنفاسه. وتغدو لازمتهم الافتتاحية شبه الدائمة عبارة- «Isbaddelka ka hor»؛ أي «قبل التغيير»، بما تحمله ضمنًا من «قبل وصولنا إلى السلطة». لكن تلك، في نهاية المطاف، نصفُ الحكاية فقط.

انتقادات وتناقضات

يرسم منتقدوه صورةً مغايرة: سياسيٌّ حسابيّ يمركز صناعة القرار في دائرةٍ ضيّقة، ويعتمد على حلقةٍ داخلية صغيرة. لخّص أحد خصومه ذلك بحدة: "جسّد مصطفى روح التحدّي للاستبداد، وقال الحق للسلطة بشجاعة لافتة، لكنه في الحكم كرّر أحيانًا الأنماط ذاتها التي ندد بها سابقًا. حيث كان يناصر الشمولية، صار يشرف على عمليات إعادة هيكلة إقصائية تثير الضغائن".

ويتهمه آخرون بصناعة الانقسامات لتكريس السلطة. "يحكم عبر إدارة الصراع"، يقول أحد المحلّلين. ويأسف آخر: "أضاع فرصة تاريخية لبناء مؤسسات مستدامة". ويبلغ بعض النقاد حدّ القول إن "الحكم، بدلًا من أن يكون منصة للوحدة، يُستخدم كثيرًا أداةً للضبط والسيطرة".

تتجلّى حالةٌ كاشفة في تعاطيه مع «جبهة تحرير أوغادين الوطنية». فبعد تولّيه المنصب عام 2018، وقّعت الحركة وقفَ إطلاق النار وسعت إلى إدماج مقاتليها في السياسة المدنية، غير أنّ الجبهة لا تزال اليوم منقسمة. ففي مايو/أيار 2025 عُقد مؤتمرٌ مثير للجدل -اعترف به المجلس الوطني للانتخابات الإثيوبي- انتهى إلى تعيين عبد الكريم شيخ موسى Qalbidhagax)) قائدًا، ورأى كثيرون أنّ ما حدث جرى بترتيبٍ من إدارة مصطفى عبر استثمار تنافساتٍ عشائرية لإضعاف الجبهة.

"جسّد مصطفى روح التحدّي للاستبداد، وقال الحق للسلطة بشجاعة لافتة، لكنه في الحكم كرّر أحيانًا الأنماط ذاتها التي ندد بها سابقًا. حيث كان يناصر الشمولية، صار يشرف على عمليات إعادة هيكلة إقصائية تثير الضغائن"

يكشف هذا الملفّ نمطًا أوسع في سياسة مصطفى: بدلًا من استئصال الخصوم، يفضّل تفتيتهم واحتواءهم وإدارتهم. أُدخِل مقاتلون سابقون إلى الجهاز البيروقراطي -غالبًا في مواقع رمزية- فيما أُضعِفت القوة التنظيمية لمن بقي خارج السلطة. واتّهم عبد الرحمن مهدي Maaday))، زعيم الفصيل المنافس، مصطفى والحكومة الفدرالية بتقويض اتفاق 2018، قائلًا: "يدعمون من يدّعي أنه أزاحنا، ثم يطالبون الطرفين بالمصالحة". أمّا مصطفى فرفض تلك المزاعم وعدّها بلا أساس، ورأى أنّ أيَّ تظلّماتٍ ينبغي أن تُعالَج عبر القنوات الفدرالية.

بالنسبة إلى مصطفى، لم تكن هذه المناورات خيانةً بل «سياسة الواقع»: ضرورية وملتبسة في آنٍ معًا. والحركة التي وصفها يومًا بأنها «فخرُ أغلب الصوماليين» انتهت إلى فصائل متنازعة. ومع ذلك ظلّ يرى، وفق تصوّره القديم، أن الجبهة «مرحلةٌ»-«نصف فاصلة» لا «نقطة ختام». من هنا يرى خصومه أن نهج «فرّق ثم احتوِ» يعطّل نشوء بدائل سياسية قوية، ويُبقي الإقليم معلّقًا على براعة موازنةٍ شخصية؛ فيما يردّ أنصاره بأن تفكيك إرث التمرّد كان شرطًا للاستقرار، وأن «ONLF» المفككة أقلّ خطرًا من «ONLF» موحّدة ذات نزعاتٍ انفصالية.

لكنّ تعاطيه مع «ONLF» يكشف تحدّيًا أوسع: رسوخ العشائرية. فعلى الرغم من إدانته العلنية لها بوصفها قوّةً سامة، أعادت سياساته في كثير من الأحيان إنتاجها. مثالٌ لافت شهِده الصيف الماضي مع إعادة هيكلةٍ مثيرةٍ للجدل، حين أُنشئت مقاطعات (وورِدا) وبلديات جديدة في الإقليم. ورغم التبرير الرسمي القائل بتحسين الخدمات أو تصحيح اختلالات تاريخية، رأى معظم المراقبين أن «الحساب العشائرية» كان العامل الحاسم. وفي بعض المناطق لم تُقَرّ المقاطعات الجديدة إلا بعد تعبئة الشيوخ وفق اعتبارات النَّسَب والانتماء العشائري.

وجاءت التداعيات فورية؛ فحيثما ظفرت عشائر بمجالس جديدة عمّت الاحتفالات، وحيث لم تحظَ اندلعت الاحتجاجات. ففي مقاطعة Dhanaan (وورِدا) بمنطقة شبيلي مثلًا، انزلقت التوترات إلى عنفٍ دامٍ عقب تسمية مجلس «بورقايَر»، وأسفر ذلك عن مقتل امرأةٍ حامل برصاص قوات الأمن.

تكشف هذه المنازعات مأزقًا مزدوجًا يواجهه مصطفى: علنًا يُدين العشائرية، ويعدّها مُفسدة للسياسة الصومالية، وعمليًا تتكئ عليها إدارته لتثبيت السلطة. والمفارقة فاقعة؛ إذ يُعلن رفض سياسة العشيرة، ثم يعيد -بحكم الممارسة- إنتاج شبكات المحسوبية والإقصاء التي تعهّد بتجاوزها، فيُرسِّخ الانقسامات نفسها التي وعد بمداواتها.

كما تضيّق «الحسابات العشائرية» خياراته داخليًا، تُقيِّد تبعيته لأديس أبابا هامش حركته على المستوى الفدرالي. وأشدّ ما يوجَّه إليه من اتهامات أنه بات لصيقًا بالمركز أكثر مما ينبغي. يتساءل منتقدوه: إذا كان إصلاحيًا متجذّرًا في الهوية الصومالية، فلماذا يلوذ بالصمت حين تمسّ السياسات الفدرالية مصالح الصوماليين؟ ويشيرون إلى ردود باهتة خلال اشتباكاتٍ مع إقليمي عفر وأورومو دليلًا على حذرٍ مفرط -إن لم يكن تبعية.

لكن الأمر أعقد من ذلك. فإقليم الصومال يعتمد اعتمادًا كبيرًا على التحويلات الفدرالية في الميزانية والأمن والشرعية. وأيّ مواجهةٍ مفتوحة مع المركز قد تهدّد لا رئاسة مصطفى وحدها، بل هشاشة الاستقرار في الإقليم أيضًا. يرى منتقدوه صمتًا، ويرى مؤيدوه براغماتية؛ ولعلّ الحق بين الموقفين: إذ يبدو أنّ مصطفى آثر التعايش على المواجهة، مُراهِنًا على مكاسب صغيرة تُنتزع برضا المركز بدلًا من مجازفة صدامٍ مباشر.

علنًا يُدين العشائرية، ويعدّها مُفسدة للسياسة الصومالية، وعمليًا تتكئ عليها إدارته لتثبيت السلطة. والمفارقة فاقعة؛ إذ يُعلن رفض سياسة العشيرة، ثم يعيد إنتاج شبكات المحسوبية والإقصاء التي تعهّد بتجاوزها

يجسّد هذا الخيار بدوره مفارقة «الفيدرالية الإثنية» في إثيوبيا: نظامٌ يعد بالحكم الذاتي، لكنه يشدّ الأقاليم إلى المركز عبر المال والأمن وشبكات المحسوبية. من ثمّ يغدو اقتراب مصطفى من أديس أبابا ليس ضعفًا شخصيًا فحسب، بل عرضًا لبنيةٍ مُقيِّدة. وهكذا لا تخصّ قصته الإقليم الصومالي وحده، بل تكشف أيضًا حدود التجربة السياسية الإثيوبية نفسها. ومع ذلك، تلوح بارقة أمل في مستجداتٍ أخيرة: للمرة الأولى استطاعت الإدارة توليد معظم ميزانيتها عبر الضرائب المحلية وآلياتٍ داخلية؛ فإن قاد ذلك إلى استقلالٍ ماليٍّ حقيقي خفّت قبضة المركز.

يبقى أسلوبه القيادي موضع تبرّم لدى بعضهم. يراه مؤيّدوه «قلقاً معرفياً» محموداً، فيما يصفه خصومه بـ«فرط التحليل» والميل إلى الجدل في كل تفصيل. وما كان ميزةً في زمن المعارضة -بلاغةٌ حادّة ونقدٌ لا يهدأ- قد يحدّ أحياناً من البراغماتية التي يتطلّبها الحكم. وفي إقليمٍ تفرض ظروفه قراراتٍ سريعةً وواضحة، يمكن لهذا الطبع الفكري أن يكون، بقدر ما يمدّه بالقوة، سببَ ضعفٍ أيضاً.

تحسّنٌ نسبي في حقوق الإنسان

برغم الانتقادات، ثمة نقطة يلتقي عندها أنصار مصطفى وخصومه: سجله في حقوق الإنسان وحرية التعبير تحسّن خلال عهده، والوضع اليوم أفضل إجمالًا مما كان عليه سابقًا. لكن الهواجس لم تغب؛ كما لخّصها أحد المحللين: "صحيح أنّ بعض الإصلاحات أُطلقت في أيامه الأولى، لكن المنحنى مال لاحقًا نحو التقييد لا التوسيع… الناس يتحدّثون بحرية أقل، ينظّمون أنفسهم علنًا أقل، ويمنحون ثقتهم بعمقٍ أقل".

ويشي الانطباع العام بأن الناس باتوا أقدر على تسيير شؤونهم ما لم يقتربوا من «شؤون الحكومة». غير أن الاعتقالات التعسفية -تتبعها غالبًا إفراجات- لناشطين وصحفيين مثل: عبدي بارود، وإبراهيم عبد القادر، وأحمد أوغا، والشيخ محمد آدم حسن (Aar Banaan Dagey)، تقوّض هذه السردية، وكذلك القيود التي يواجهها كثير من الشباب مع مصادرة كاميراتهم ومعداتهم.

أما الحكومة فترى أن المعارضة القائمة اليوم ليست مدفوعة ببرنامج وسياسات، ولا تقودها قضايا واضحة، ما يصعّب بلورة استجابة متماسكة. ويقول أحد المطلعين من داخلها: "السخط العام ومعظم وجوه المعارضة ذئاب منفردة تدفعها مصالح فردية؛ وهذا يجعل ردّ الحكومة عليها متعثرًا بدوره… فإذا لم تكن لدى المعارضين أجندة أو سياسة موضوعية يواجهون بها السلطة، فإن الحكومة، بالقدر نفسه، لا تملك الكثير لصوغ نقدهم أو احتوائه".

إرث لم يُحسم بعد

يبقى إرث مصطفى معلّقًا بين سرديتين واضحتين: عند فريقٍ هو المعارض الذي تجرّأ على إعادة تخيّل إثيوبيا، وأثبت أنّ الصوماليين قادرون على الجمع بين الكرامة والمواطنة؛ وعند آخرين ليس سوى سياسيٍّ ساوم أكثر مما غيّر حين واجه آلة الدولة. في الحالتين، تبدو صورته أقرب إلى مصلحٍ تعمل عليه ضغوط المركز الفدرالي، واضطراب الإقليم، وحسابات البقاء السياسي. مع ذلك، يعترف حتى أشدّ منتقديه بأن الرجل عصيٌّ على التصنيف. يظلّ غير متوقَّع، ويرفض الاستسلام التامّ لمنطق السلطة-وذلك نادر في حدّ ذاته.

قراءة منصفة تجمع بين ما يجسّده من تطلعات وما خلّفته سياساته من آثار تقود إلى خلاصة بسيطة: إصلاحيٌّ مقيدٌ ببنيةٍ مركزية وبواقعٍ إقليميٍّ مقلق وبميزان قوى لا يرحم. ولمَن عرفوه قبل الرئاسة، فإن جذوة التمرّد ما تزال تتّقد فيه. لا يزال «محارب القلم» كما يصفه رفاقه أقلّ رومانتيكيةً وأكثر تروّيًا، لكنه لا يقلّ تحدّيًا. وحين يُسأل عنه من صحبوه قديمًا يكتفون بالنصيحة: "جادِله على مسؤوليتك".

لم تكن أكبر تحدياته مجرّد إزاحةِ مستبدّ، بل إثبات أن الأفكار -بتعقيدها وإرباكها ونزوعها إلى العصيان- قادرةٌ على الصمود في ميدان الحكم. وهل يستطيع «محارب القلم» أن يظلّ يشهر سيفه وهو يرتدي تاج السلطة؟ ذاك هو السؤال الفاصل الذي سيحسم تقييم رئاسته.