تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 20 أبريل 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

معركة وادي حوسين في مذكرات العقيد "ولش"

28 فبراير, 2025
الصورة
kjh
Share

انتهجت بريطانيا منذ وصولها إلى ساحل الصومال سياسة ترويض القبائل الصومالية؛ لكسب ولائها، وتسخيرها للأجندة الاستعمارية، من خلال عقد معاهدات مع زعماء القبائل ومنحهم مكافآت ورواتب شهرية. 

لكن هذه السياسة فشلت في تحقيق أهدافها، حيث كانت الروح العدائية تجاه المستعمرة طاغية لدى القبائل، وتجلت في كثافة الهجمات المتكررة على المصالح البريطانية، خصوصا القوافل التجارية التي كانت شريانًا اقتصاديًا حيويًا للمستعمرة.

تكشف الوثائق البريطانية استياء الإدارة الاستعمارية، وعجزها عن وقف هذه الهجمات، التي تسببت في خسائر مادية وبشرية كبيرة، وباتت ظاهرة تورق كبار مسؤولي المستعمرة.

لم تكن الأعمال العدائية ضد المصالح البريطانية في الصومال تنطلق من فراغ، فقد كانت مدفوعة بأسباب منطقية، إلا أن العقلية الاستعمارية المبرمجة على دونية الإنسان الأفريقي كانت تتمسك بتفسير واحد لهذه الأعمال، وهو توحش الإنسان الأفريقي ورغبته على الاستحواذ؛ لإشباع غرائزه، مما دفعها إلى الاعتماد على الحلول الأمنية والعنف بدلاً من الحوار.

يُعتبر العقيد "ولش" (Langton Prendergast Walsh) أحد أبرز المسؤولين البريطانيين في الصومال، حيث لعب دورًا رئيسياً في قمع القبائل وإخضاعها بالقوة. تفاخر الرجل في مذكراته أنه قام بحملات عنيفة ضد القبائل المتمردة، فدمر الآبار وصادر مواشيها التي باعها بالمزاد في بربرة وعدن، وخطف زوجة السلطان نور؛ سلطان قبائل جرحجس، لإجباره على التسوية.

يبدو أن العقيد "والش" كان راضياً عن كل الحملات والعمليات الأمنية التي قام بها ضد القبائل الصومالية المتمردة، ما عدا عمليته العسكرية ضد قبائل عيسى البيض (مماسن) في موقعة وادي حوسين في يناير/ كانون الثاني عام 1890.

فقد كانت موقعة وادي حوسين أكثر الحملات العسكرية إيلامًا للإدارة البريطانية، ما جعل "ولش" يفرد مساحة كبيرة للحديث عنها. وتناولها كحدث أمني مفصولاً عن سياقه التاريخي والاقتصادي.

والملفت للنظر في سرديته الخاصة بمعركة وادي حوسين استخدامه لمصطلح عيسى البيض للإشارة إلى قبائل عيسى الصومالية القاطنة في ساحل الصومال الشمالي، حيث كانت المحمية البريطانية، وهي القبائل التي حارب جزءاً منها في موقعة وادي حوسين

يهدف هذا المقال إلى توثيق هذه الواقعة التاريخية، مستعينًا بمصادر بريطانية أخرى لإعادة رسم تفاصيلها وسياقها العام، كجزء من جهود إحياء الذاكرة القومية للشعب الصومالي.

دوافع معركة وادي حوسين

تناول العقيد "ولش" معركة وادي حوسين في مذكراته التي طبعت تحت عنوان "Under the flag: and Somali coast stories" في سياق حديثه عن الحملات التأديبية التي قام بها، ضد القبائل في شمال الصومال. والملفت للنظر في سرديته الخاصة بمعركة وادي حوسين استخدامه لمصطلح عيسى البيض (White Issa) للإشارة إلى قبائل عيسى الصومالية القاطنة في ساحل الصومال الشمالي، حيث كانت المحمية البريطانية، وهي القبائل التي حارب جزءاً منها في موقعة وادي حوسين. كما استخدم مصطلح عيسى السود (Black Issa) في سياقات أخرى، للإشارة إلى الجزء الآخر من القبيلة الذي كان خاضعاً للاحتلال الحبشي في المناطق الداخلية.

تكمن أهمية هذين المصطلحين في سياق ترميم ذاكرة الشعب الصومالي، أن استعمالهما لم يعد موجوداً في الوقت الراهن. كما لا توجد مصادر مكتوبة توثق هذين المصطلحين غير المصادر البريطانية، وعلى رأسها مذكرات العقيد "ولش".

يقع وادي حوسين في الخريطة الجغرافية لشمال الصومال في جنوب غرب زيلع، على مسافة 90 كلم تقريبا قرب بلدة جيرسا (Geerissa)، وبه حالياً قرية صغيرة تحمل اسم حوسين. وكان الموقع فيما مضى مورداً مائياً، يحتوي على آبار يرتادها السكان البدو لسقي الماشية؛ لذا أراد الإنجليز في عمليتهم تلك احتلال هذه الآبار، ومباغتة قبائل عيسى البيض في حروب مفاجئة لم يستعدوا لها، ومنعهم من ارتياد المورد.

أما دوافع معركة وادي حوسين وفق رؤية العقيد "ولش" فهي رغبة الإدارة البريطانية في ساحل الصومال؛ لمعاقبة قبائل عيسى البيض، لاستهدافها مصالح بريطانيا الاقتصادية في ساحل الصومال، ولتعرضها للقوافل التجارية المتجهة إلى مينائي زيلع وبلهار، مع الإفلات من العقاب والتهرب من دفع التعويضات.

لكن إذا وضعنا ملابسات هذه المعركة في سياق الأحداث التي شهدها ساحل الصومال في تلك الفترة، مستندين إلى المصادر البريطانية الأخرى، فسنجد أن الأمر أكثر تعقيداً مما تصوّره سرديات العقيد "ولش"؛ إذ نجد صراعاً على النفوذ محتدماً بين قبائل عيسى البيض، وتحديداً قبيلة مماسان، وقبائل هبرأول فرع بني يونس، ونجد في ذات الوقت دخول المصالح البريطانية في معادلة هذا الصراع القبلي المعقد.

فقد ذكر الرحالة البريطاني "رتشارد بيرتون" خلال رحلته الشهير في ساحل الصومال الشمالي وهرر عام 1854، تفاصيل مهمة وقصصاً مشوقة عن ساحل الصومال الشمالي أثناء رحلته.

مما ذكره بخصوص ميناء بلهار، أن هذا الميناء كان ينشط للتبادل التجاري في أربعة أشهر فقط، وتحديدا تلك التي يعتدل فيها الجو. وكانت حركة التجارة تزدهر في هذه الشهور على شكل مهرجان عروض، بينما يبقى بقية السنة معطلاً بسبب ارتفاع درجات الحرارة في تلك المنطقة.

كانت القبائل المختلفة تعرض منتجاتها للتجار العرب والفرس والهنود الذين كانوا يأتون إلى الميناء في هذا الموسم، ويشترون منهم ما يحتاجون إليه، دون أن يكون للميناء سلطة قبلية تفرض سيطرتها عليه.

تصاعد الصراع بين عيسى البيض وبين هبروأول حول ميناء بلهار، واستمر بعد الاحتلال البريطاني؛ لأن دخول المصالح الاقتصادية البريطانية في معادلة الصراع قد فاقم الأزمة، وعقد بوادر الحل.

تحدث "رتشارد" عن خلاف نشب بين قبائل هبرأول عام 1847 في ميناء بربرة، وأدى إلى طرد فرع بني يونس من الميناء؛ مما دفعها إلى اللجوء إلى بلهار، واستيلائها على الميناء مع فرض رسوم جمركية على البضائع الواردة. الأمر الذي أثار حفيظة قبيلة مماسان من قبائل عيسى البيض التي أغارت على الميناء، في ذات هذه السنة، وأحرقته بالكامل، وقتلت ما يصل لحوالي 250 شخص من السكان والتجار الأجانب.

تصاعد الصراع بين عيسى البيض وبين هبروأول حول ميناء بلهار، واستمر بعد الاحتلال البريطاني؛ لأن دخول المصالح الاقتصادية البريطانية في معادلة الصراع قد فاقم الأزمة، وعقد بوادر الحل. لهذا استمرت قبيلة مماسان في استهداف اقتصاد بلهار، والتعرض للقوافل التجارية القادمة من هرر باتجاه بلهار.

في عام 1889؛ أي قبل سنة من معركة وادي حوسين، هاجمت قبيلة مماسان ميناء بلهار، وقتلت 67 شخصاً فيها، وغنمت العديد من الغنائم. وكان هذا هو السبب المباشر الذي دفع الإدارة البريطانية للقيام بحملة ضد مماسان، لوضع حد لتهديداتها المتواصلة ضد المصالح البريطانية، وهذا ما أشار إليه تقرير للإدارة البريطانية، حيث ورد فيه:

"في عام 1889 شنت قبيلة عيسى مماسان التي كانت في حالة حرب مع هبر أول، هجومًا مباغتًا على بلهار ليلًا، ما أسفر عن مقتل 67 شخصًا، وإصابة أعداد أخرى بالجروح. وردًا على ذلك، تم إنزال قوة عسكرية صغيرة في زيلع، ثم تقدمت لغزو أراضي عيسى مماسان، حيث اندلعت مواجهات محدودة. وعلى الرغم من ذلك، تم طرد عيسى من المنطقة، وتكبدوا خسائر فادحة في مواشيهم".

رغم أن هذا التقرير يقلل من أهمية معركة وادي حوسين، ويصفها بأنها مجرد مواجهة محدودة، مستندًا إلى مقاربة تُبرز نجاح الإدارة في حملتها ضد عيسى، فإن رواية العقيد "ولش" لتفاصيل المعركة تكشف عن صورة مغايرة لهذا التوصيف.

وادي حوسين برواية "ولش"

يذكر العقيد "ولش"في حديثه عن تفاصيل موقعة وادي حوسين التي خصص لها قرابة عشرة صفحات من مذكراته، أن قبيلة مماسان من قبائل عيسى البيض قامت بغارات عديدة لنهب المواشي، ومنعت القوافل من دخول مينائي زيلع وبلهار، مما استدعى اتخاذ إجراء عسكري ضدها.

ذكر أنه تم تجميع قوة عسكرية كبيرة بقيادة الكابتن (دومفيل) والكولونيل (ستيس)، وأن القوات المحتشدة تضمنت قوات نظامية ومحلية، ووحدات من البحرية الملكية، وسلاح الفرسان، وشرطة السواحل الصومالية، وأنه تم التخطيط لمهاجمة عيسى البيض بشكل مفاجئ قبل غروب الشمس، لأن الوقت المفضل للقبائل الصومالية للإغارة، هو بعد حلول الظلام. لكن المشكلة التي واجهت القوات الغازية كانت حول صعوبات في تحصين موقعها بشكل مناسب.

قال بأن عيسى البيض فاجأوا القوات البريطانية بهجوم مفاجئ في الليل من نقطة قريبة، لم يكن البريطانيون يتوقعونها، حيث خططوا لاستراتيجية تتيح لهم تفادي ضربات الرصاص والمدافع التي كانت تشكل نقطة تفوق للقوات البريطانية. ونتيجة لذلك، دارت معركة شرسة اضطر فيها الجنود البريطانيون للقتال باستخدام السيوف والمسدسات لتجنب إصابة جنودهم بنيران صديقة.

يذكر أن قواته تراجعت بعد الجولة الأولى من الحرب، وانسحبت من الموقع لتكبدها خسائر فادحة، حيث قتل منها 34 جندياً من مختلف الرتب من أصل 400 جندي تم حشدهم للمعركة، مما أجبرها على الانسحاب نحو الساحل، وطلب تعزيزات من بلهار وبربرة.

لكن الوضع ازداد سوءاً عندما أصر الكابتن "دومفيل" على مواصلة القتال رغم التعليمات، مما أدى إلى مزيد من الخسائر البشرية في صفوف البريطانيين وحلفائهم، حيث قتل وأسر نصف قواته؛ لأنها وقعت في كمين محكم، وهربت فلولها المتبقية إلى زيلع طلباً للنجدة.

قال إن عيسى البيض فاجأوا القوات البريطانية بهجوم مفاجئ في الليل من نقطة قريبة، لم يكن البريطانيون يتوقعونها، حيث خططوا لاستراتيجية تتيح لهم تفادي ضربات الرصاص والمدافع التي كانت تشكل نقطة تفوق للقوات البريطانية.

يظهر أن العقيد "والش" لم يستوعب الهزيمة المدوية التي منيت بها حملته؛ ولذلك ألقى باللائمة على الكولونيل "ستييس" في فشل الهجوم، وعلى الكابتن (دومفيل) في مضاعفة خسائر الحرب، وادّعى أنه لو كان هو القائد لحقق النصر، إلا أنه اختتم حديثه بعبارة تعكس مرارة الهزيمة، حيث قال: "عدنا إلى زيلع، وتفرقت القوة هناك، لقد فشلنا في سحق جماعة عيسى البيض"!

رغم تصريح "ولش" بفشل الحملة العسكرية في الانتقام من عيسى البيض، فالتقارير البريطانية الرسمية أشارت إلى أن حملة إدارة ساحل الصومال وعدن نجحت في إخضاع قبيلة مماسان، ودفعها إلى الاستسلام، مستندةً إلى أن عُقلاء القبيلة قدموا إلى الإدارة البريطانية في زيلع، وأعلنوا رغبتهم في التهدئة، مما مكّن السلطات البريطانية من الخروج من أزمتها.

تعكس معركة وادي حوسين بكل تفاصيلها، ابتداءً من الأسباب ووصولاً إلى الوقائع، طبيعة العلاقة بين القبائل الصومالية والإدارة الاستعمارية البريطانية. وتؤشر بصدق قوة وبأس الإنسان الصومالي وصلابته في مواجهة الآلة الاستعمارية بإمكانياته المتواضعة.

ومع أن تقارير الإدارة الاستعمارية قد نازعت في نجاح حملتها العسكرية ضد عيسى البيض، إلا أن اعترافات واحد من مهندسي هذه المعركة، وهو العقيد " ولش" دحض هذه المزاعم وبيّن حقيقة فشل القوات البريطانية وحلفائها في تحقيق مساعيها.