الأربعاء 19 فبراير 2025
وصف الرحالة المغربي المعروف ابن بطوطة عام 1331 مدينة مقديشو "بالمدينة الكبيرة بإفراط"، والميناء المزدحم وبالغ الازدهار الواقع على طرق تجارة المحيط الهندي. وقام تجار يرتدون ثيابًا فارهة بالإتجار في السلع القادمة من بلاد بعيدة، وباتت المدينة مركزًا ثقافيًا واقتصاديًا، في غربي المحيط الهندي.
حُكمت مقديشو في ذلك الوقت من قبل سلطنة مقديشو التي كانت "مدينة دولة" قوية، وسبق أن ظهرت كمركز تجاري مهيمن في شرق أفريقيا. حافظ السلطان أبو بكر بن شيخ عمر على بلاط حكم دقيق، وسيطر على المدينة التي عرفت بالثراء والضيافة. ولاحقًا، باتت مقديشو جزءًا من سلطنة أجوران؛ وهي دولة إسلامية مركزية سيطرت على القرن الأفريقي من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر الميلاديين.
شهد عهد أجوران تطورات كبيرة، من بينها إقامة نُظم هيدروليكية مثل: السدود والآبا، وشبكات الري على امتداد نهري شبيلي وجوبا. وسمحت تلك الابتكارات لسلطنة أجوران بتعزيز نفوذها، وتحويل أقاليمها إلى مراكز تميز زراعي ومعماري.
زاد ازدهار مقديشو في ظل حكمهم، مع تشييد مبانٍ فارهة مثل المساجد، ومنها أربعة ركون وجاما، وهما من الآثار الثمينة لعمارة الحجارة المرجانية التي مزجت الطرز العربية والسواحيلية والصومالية. وقد عكست تلك المساجد بواجهاتها البيضاء، وأقبيتها المتشابكة، وقبابها، التناغم بين الجمال والوظيفة. وكانت هوية مقديشو خلال تلك الفترة وثيقة الصلة بدورها كمركز تفاعل ثقافي، فيما ترك التجار من الهند وشبه الجزيرة العربية والصين بصماتهم في المدينة.
ذكر فاسكو داجاما، الملاح البرتغالي الشهير في القرن الخامس عشر، منازل مقديشو المتعددة الطوابق وقصورها المشيدة، ورموز الثروة الناتجة عن تجارة الذهب والعاج والمنسوجات. ولم تكن مقديشو مجرد مركز للتجارة، لكنها كانت أيضًا موقعًا مركزيًا للتبادل الثقافي.
مع تقلب مقديشو في أيدي حكام كثر عبر القرون – من أسرة المظفرين في القرن الرابع عشر إلى حكم زنجبار في القرن التاسع عشر- استوعبت عمارتها تأثيرات من حكام وسكان بالغي التنوع. وجعل هذا الإرث الثري مقديشو مميزة عن تقاليد الصومال البدوية في الداخل، ومنحها شخصيتها الحضرية الكوزموبوليتانية التي جعلتها متفردة عما حولها. وبدأ تحويل مقديشو إلى مدينة استعمارية مع وصول الإيطاليين عام 1889.
تغيرت المدينة المسورة العتيقة، في ظل إدارة الحاكم جياكومو دي مارتينو في الصومال (1910-1916)، بشكل تام. فقد تمت إزالة الأسوار، وحل محل التقسيم الضيق على الطراز العربي تخطيط عمراني جديد، أدخل الشوارع المتسعة والمباني الحكومية والفضاءات العامة الأوروبية الطابع. وميز وضع تخطيط جديد للمدينة عام 1912 أول محاولة جادة لإعادة تنظيم مقديشو، وبناء ضاحيتين جديدتين وحي إداري مركزي ربط المدينة بضاحيتيها التاريخيتين.
خلافًا للمدن الاستعمارية في أفريقيا، حيث يتم تشييد الأحياء الأوروبية بمحاذاة مناطق الأهالي المحليين، فإن الإيطاليين أدخلوا مبانيهم مباشرة في قلب مقديشو التاريخي، وأعادوا تشكيل هويتها. وتحولت مقديشو خلال العهد الفاشي، بشكل أكبر، لتعكس طموحات النظام الاستعماري. وباتت شوارع كبيرة مثل كورسو فيتوريو ايمانويل ساحات للمواكب والاستعراضات الإمبريالية، فيما أكدت مبانٍ شهيرة مثل الكاتدرائية الكاثوليكية وقوس أمبرتو الأول على الهيمنة الإيطالية.
أما فندق كروس ديلسود، الذي صممه المعماري كارلو إنريكو رافا عام 1933، فقد أدخل الجماليات الحداثية، ومثل بدء التحول نحو الوظيفية، والتصميمات المجردة. ورغم قوة هذه التدخلات، فإن الفترة تركت لمقديشو إرثًا جماليًا، سيؤثر لاحقًا على تطور ما بعد الاستعمار. وبعد نيل الصومال استقلاله عام 1960، تبنت الجمهورية الشابة الحداثة وسيلة لتأكيد هويتها وتطلعاتها الوطنية. واستخدمت حكومة سياد بري، التي وصلت للسلطة بعد تسع سنوات، المعمار كرمز للتقدم والوحدة. ودمجت مبانٍ مثل المسرح الوطني والجمعية الوطنية هذه المقاييس مع خطوطها الجميلة، وتصميماتها المعتدلة، تأثرًا بما يعرف بالحداثة الاستوائية. وصورت تلك المباني الصومال دولة تقدمية، منقطعة عن ماضيها الاستعماري.
اكتسبت الفضاءات العامة مجددًا أهمية كمراكز للاحتفالات الوطنية، وباتت مقديشو واجهة للطموح والصمود الصوماليين. عام 1974 تطورت المدينة بشكل مزيد لاستضافة قمة منظمة الوحدة الأفريقية (1974)، وفي خطابه الافتتاحي للقمة جسد سياد بري، القائد العسكري للبلاد، روح العصر في الصومال عندما أعلن: "إن الصوماليين شعب ثوري، يؤمنون بأفريقيا الثورية حيث يسود السلم والعدل."
لم يكن نور الدين فارح، أبرز كتاب الصومال، متأثرًا بنفس الدرجة. وفي روايته الحليب الحلو والحامض" (1979) استهجن تشييد "العمارة السرطانية"، و"معالم الأمل الزائف". وكان فارح بالغ الانتقاد لطريقة تغيير مقديشو في ظل حكم بري، وما دلت عليه تلك التغييرات. "إذا جئت ذات مرة لمقديشو وذهبت إلى وسطها، ستجد الآن مبانٍ جديدة، وأبنية مرتفعة تقطع أشرطة تدشينها بكافة المقصات التي جعلت رسغ الأمة ينزف، وتلك البلاد تزداد ضعفًا".
سرعان ما أفسح هذا التفاؤل الطريق أمام موجة دمار، مع إحاطة الحرب الأهلية بالصومال في التسعينيات. وقلص الصراع أغلب إرث مقديشو المعماري إلى مجرد مباني تخترقها رصاصات وآثار القذائف، كما محا المعالم التي ميزت هوية المدينة طوال قرون. وقسمت الحرب النسيج الاجتماعي بالمدينة، وخلفت أحياء منقسمة ومواقع تاريخية مهملة.
ترك التاريخ السياسي لمقديشو أثره طوال الحقب المتنوعة التي مرت بها المدينة، من عهد السلطنات الإسلامية في العصور الوسطى والعهد الاستعماري إلى الفترة الاشتراكية. وصلت الفترة الفاصلة الوجيزة في تاريخ المدينة، منذ مطلع التسعينيات، عندما شهدت المدينة ركودًا أو كانت في حالة انحدار كامل، إلى نهايتها في العقد الثاني من القرن الحالي.
دخلت مقديشو مرحلة إعادة بناء سريعة، مدفوعة باستثمارات خاصة، وإن كان أغلبها غير منظم. وظلت قدرة الدولة على توجيه التنمية العمرانية ضعيفة. واليوم، فإن مقديشو تعد من أسرع المراكز الحضرية نموًا في أفريقيا، غير أن هذا النمو يأتي بتكلفة كبيرة. فقد نتج عن نقص التخطيط العمراني ظهور بيئة معمارية لا تأخذ في اعتباراتها تاريخ المدينة ومناخها. وحل محل المنازل التقليدية، التي اتسمت بالأفنية المظللة، والشرفات الواسعة، والتهوية الطبيعية، مبانٍ شاهقة لا تلائم البيئة الساحلية. عادة ما تكون مثل هذه المباني مشيدة بمواد أرخص، لا تناسب حالة الحرارة والرطوبة، مما يجعلها أقل استدامة وأقل راحة في السكن. وحل محل الحجر المرجاني الذي طالما ميّز عمارة مقديشو عمارة الخرسانة والحديد.
كما عانت هوية مقديشو الجمالية. وقد حل محل طابع المدينة، الذي كان منسجمًا لونيًا (وغلب فيه اللون الأبيض على واجهات عمائرها الذي عكس ضوء الشمس، وأكد على شخصيتها الساحلية) خليط فوضوي من الألوان الفاقعة والمتضاربة. كما حل محل الأقواس، التي ظلت ملمحًا محددًا لهوية مقديشو المعمارية التقليدية رمزًا للتأثيرات الإسلامية والسواحيلية، عتبات مستطيلة مجردة تفتقر لأية أصول ثقافية. وقد جردت تلك التغييرات مقديشو من عناصرها المعمارية الفريدة التي طالما اكسبتها لقب "لؤلؤة المحيط الهندي البيضاء".
وكان حيا حمراوين وشانجاني التاريخيين، اللذان مثلا قلب الإرث الثقافي والمعماري في مقديشو، من بين أكثر المناطق تضررًا من التغييرات المعمارية. وتتجاهل عمليات التطوير الحديثة في الغالب الضوابط القائمة بشأن الارتفاعات والطرز والمواد، وباتت تغطي على المساجد والمنازل المشيدة منذ قرون من الحجر المرجاني.
أما الفضاءات العامة، التي كانت حيوية للتفاعل الاجتماعي وحياة المجتمع، فقد تمت خصخصتها أو إحاطتها بمبان جديدة. وقادت خصخصة هذه المناطق المجتمعية إلى مزيد من تآكل التماسك الاجتماعي مع فقدان سكانها الفضاءات المشتركة التي كانت تجمعهم معًا في السابق. تحقق الاتجاهات الراهنة في التشييد مكاسب اقتصادية قصيرة المدى، لكن فكرة الاستدامة أو المحافظة الثقافية بعيدة المدى.
إن غياب التخطيط العمراني المنسق يعني افتقار مبانٍ جديدة لسياقها أو حاجات المجتمع، كما يهدد هذا النمو غير المنظم بتحويل مقديشو إلى منطقة عمرانية عشوائية، منفصلة عن تاريخها الثري وجذورها الثقافية.
إن خسارة الهوية المعمارية ليس مسألة جمالية فحسب، بل إن له تداعيات ثقافية واجتماعية عميقة. وقد أخبرتنا العمارة التاريخية لمقديشو قصة أهلها، وصمودها، وتفاعلاتهم مع العالم الخارجي. يهدد استبدال الأبنية العامة رديئة التصميم بهذا الإرث الغني لمقديشو بفقدان الأخيرة روحها. إن آثار المحو لا تلحق فقط بالبيئة العمرانية، ولكن بالذاكرة الجماعية لسكانها وهويتهم أيضًا.
تملك مقديشو رغم هذه التحديات إمكانات استعادة هويتها، وتظهر جهود الحفاظ على المدينة التي يقودها المجتمع، مثل ترميم "جامع حامراويني"، ومسجد الأربعة ركون (أو الركون الأربعة) أهمية المشاركة المحلية في الحفاظ على تراث المدينة المعماري.
إن الاستفادة من أمثلة مثل المدينة الحجرية في زنجبار أو تمبكتو في مالي، يمكِن مقديشو من دمج الحفاظ على تراثها مع التنمية العمرانية. وتؤكد هذه النماذج على دور المشاركة المجتمعية، والتخطيط الواعي في موازنة الحداثة بالتقليد. كما يمكن أن يدعم استعادة الفضاءات العامة، ودمج عناصر التصميم التقليدية في الأبنية الجديدة مقديشو في مسعاها لاسترداد شخصيتها المعمارية. كما يمكن إعادة استخدام الحجر المرجاني والأقواس والواجهات البيضاء لسد الفجوة بين الماضي والحاضر، وضمان استكمال المباني الجديدة لتاريخ المدينة.
إن مدينة مقديشو أكثر من مجرد فضاء عمراني، يتجمع فيه الناس للتجارة والعيش؛ إنها المدينة الواجهة للصومال. وتخبرنا عمارتها بقصة مجتمع أبحر في التاريخ طوال قرون من التغيير، من سلطنة أجوران إلى تحديات العصر الحديث. وتملك مقديشو فرصة، عبر وضع أولوية للحفاظ على التراث والتخطيط العمراني الواعي، الظهور كمدينة يتعايش فيها التاريخ مع الحداثة بتناغم تام- وأن تتحول لمنارة للامتياز الثقافي والمعماري على ساحل شرق أفريقيا.
تملك المدينة، باعتبارها "لؤلؤة المحيط الهندي البيضاء"، مستقبلًا يُجِل ماضيها فيما يعزز إمكانات غدها.