تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 28 أبريل 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
حوارات

مقابلة مع ليو زيليج عن الصراع في جمهورية الكونغو الديمقراطية والتحرر الذاتي في أفريقيا

1 مارس, 2025
الصورة
geeska cover
Share

لا يحتاج ليو زيليج لتعريف لدى المهتمين بنضال أفريقيا ضد الإمبريالية والاستغلال واستنزاف مواردها على يد الإمبراطوريات الأوروبية. أفريقاني متمرس، كرس حياته للكتابة والبحث في السياسة والتاريخ ونضال الطبقة العاملة في أفريقيا، والحركات الثورية في أرجاء الجنوب العالمي. وشملت إسهاماته كتبًا حول نضال الطبقة العاملة في أفريقيا (ترجم للغة العربية عام 2016 تحت عنوان "الصراع الطبقي في أفريقيا")، وتطور الحركات الثورية. وهو محرر دورية "Review of African Political Economy".

كتب زيليج عدة كتب عن السيَر الذاتية عن باتريس لومومبا وتوماس سانكارا، وبعض أهم المفكرين الأفريقانيين في زمننا من فرانز فانون إلى والتر رودني. كما كتب بوفرة عن الحركات التي ألهمها هؤلاء، مؤرخًا لوسيلة محاربة الأفارقة ضد الإمبراطورية بحثًا عن مكانتهم وملكيتهم لبلادهم ومواردهم.

فيما كان يتحدث لجيسكا استعرت الحرب في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث استولت حركة "23مارس" المتمردة، بدعم رواندي، على مدينة جوما ثم بوكافو، وهي المدينة الرئيسة الأخرى في الإقليم الشرقي الغني بالموارد المعدنية في الكونغو الديمقراطية. وقتل مئات الأفراد فيما تشرد أكثر من 6 مليون نسمة، بمن فيهم 2.3 مليون طفلًا وفقًا للأمم المتحدة.

شارك زيليج في تحرير كتاب عن جمهورية الكونغو الديمقراطية بعنوان "الكونغو: النهب والمقاومة" وهو نص مهم، لمن يريد فهم كيف أن تكالب العالم على معادن البلاد قد تركها عالقة في قاع سلسلة إمداد عالمية متوحشة، أدت إلى معاناة لا نهاية لها لمواطني الكونغو.

يناقش زيليج، في هذا الحوار مع جيسكا، لعنة الموارد في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومقاومة الجنوب العالمي، وإسهامات رواد الفكر الأفريقاني، مثل: فرانز فانون ووالتر رودني. ويؤكد زيليج أن تحرر أفريقيا لا يمكن أن يأتي على يد ديكتاتور أو زعيم متنور، وإنما عبر إطلاق الجموع الأفريقية وحشدها.

محمد عبد الكريم: دعنا نبدأ من أحدث التطورات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، إلى أي مدى تتفق مع رؤية أن الصراع الجاري في أكبر بلد أفريقي هو مجرد دورة أخرى للنهب الاستعماري؟

ليو زيليج: بلا شك، يمثل هذا الصراع جزءًا وقطعة من تاريخ طويل من النهب الاستعماري. لكن ثمة مراحل معينة تحتاج لتوضيح هنا. ويمكننا أن نبدأ من تأكيد أن النهب الراهن جزء من قصة سلب الكونغو منذ الاستقلال عام 1960. لكن تميز بالكثير من الخصائص التي أخذت في التطور منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي. أو ما يمكننا اعتباره جولة جديدة للنهب الإقليمي والدولي.

ومنذ تعزيز نظام جوزيف موبوتو سلطته عام 1964، والقضاء على المقاومة في فترة يمكن أن نطلق عليها المحور البلجيكي- الكونغولي، تم تنظيم "النهب" نسبيًا. وشهدت تلك الفترة إدارة الكونغو، الذي استقر في موقعه في التراتبية العالمية، من قبل طبقة سياسية خاضعة ومتوحشة في كينشاسا، وتقوم بتصدير ثروات البلاد، مثل: الماس والنحاس والذهب وبالطبع اليورانيوم.

وزادت وتيرة التعدين التقليدي في البلاد في عقدي السبعينيات والثمانينيات، ومنذ نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات فقدت البلاد أهميتها الجيواستراتيجية لدى الولايات المتحدة، مع انهيار حالة النظم الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة.

ومع هذا ظل الدور المحوري لصادرات المعادن للشمال العالمي خلال الحروب والفوضى في أرجاء الكونغو، منذ منتصف التسعينيات، مستمرًا دون انقطاع. بأي حال فقد كان ذلك في ظل ظروف مختلفة.

كان ثمة لحظة من الأمل السياسي الكبير في ظل صعود حركات المقاومة القوية في الكونغو الديمقراطية. بدءًا من عام 1991؛ أي ما عرف بثورة الكونغو الثانية. أما الأولى تمثلت في النضال المستمر حتى الحصول على الاستقلال الرسمي عام 1960. وأسقطت تلك الحركة موبوتو. كما اجتاحت النضالات والاضرابات والاحتجاجات الجماهيرية أنحاء البلاد لسنوات عديدة، لكنها فشلت في النهاية في تحقيق تماسك سياسي وتنظيمي. وبات النظام على وشك التمسك بالسلطة مجددًا.

قاد الفشل إلى صعود حركة التمرد بقيادة لوران- ديزيريه كابيلا عام 1997، والتي انتشرت من الشرق، واستولت على السلطة في النهاية بسقوط العاصمة في يدها. وكان هناك أمل سياسي ذائع وإن لفترة وجيزة. كان كابيلا مدعومًا من قبل رواندا وبول كاجامي، لكنه انفصل عن داعميه بسرعة ملفتة بمجرد استيلائه على السلطة.

دخل الروانديون المشهد السياسي والاقتصادي في الكونغو، واستمر هذا "التدخل" بتشجيع كامل ومقبول من الغرب- وظل ماثلًا منذ عام 1997. إذ تدعم رواندا جيوش المتمردين (وآخرها حركة 23 مارس)، كما تدعم كيجالي عمليات التعدين التقليدية والإجرامية، وتتدخل بنفسها بشكل مباشر في الكونغو.

أكدت تقارير العديد من المنظمات، على نطاق واسع، تورط النظام في كيجالي، رغم إنكار الأخير لذلك، في تصدير الماس والذهب الخام، وهي معادن غير موجودة في رواندا نفسها. وأن هذه الصادرات توجه من كيجالي للتعدين والبيع في أوروبا وأمريكا الشمالية. وكان من أبرز تلك التقارير ما أصدرته لجان الخبراء بالأمم المتحدة حول الصادرات غير القانونية للمعادن الكونغولية، منذ سنوات مضت- وحددت تلك التقارير رواندا وأوغندا (بدرجة أقل) دولا مستفيدة من هذه الصادرات غير الشرعية، وضالعة فيها.

كانت رواندا لاعبًا رئيسًا في إذكاء عدم الاستقرار في الكونغو وعمليات القتل الجماعي، فيما عكفت على نهب موارد الكونغو الطبيعية ومعادنه- وكل ذلك بموافقة كاملة من الشمال العالمي. لذا فقد أثريت رواندا بفضل هذا النهب، لكنها ظلت الأداة الرئيسة المستخدمة في "الاستخراج الإجرامي" للثروة من الكونغو على يد لاعبين إمبرياليين قدامى، في المرحلة الأولى من نهب ما بعد الاستقلال.

محمد عبد الكريم: في ضوء الضغوط الأمريكية الراهنة على جنوب أفريقيا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي على خلفية سياسات الأراضي التي يتبعها، كيف ترى أساس أيديولوجيا الجنوب العالمي؟ وإلى أي مدى يمكن أن تمثل مقاومة حقيقية وقادرة ضد الإمبريالية الصاعدة التي تقودها الولايات المتحدة؟

ليو زيليج: ليس تمامًا، للأسف. يمكننا أن نرى هنا وهناك رد فعل عدواني من النظام في بريتوريا تجاه رد ترامب على سياسة إصلاح الأراضي الجنوب أفريقية، أو دعمًا للفلسطينيين الذين قضى عشرات الآلاف منهم نحبه في العام ونصف الماضي، لكن ذلك لا يمثل إلا أقل القليل.

هل نؤمن بإعلانات ثانية "مؤيدة للفلسطينيين" من قبل دول عربية، مثل السعودية، أو تعبيرات عن التضامن من النظام في مصر؟ الإجابة قطعًا لا.

لا يمكن قطعًا أن يتم الاستخفاف بنا بمثل هذا الهراء، أو أن نرى فيه أية أيديولوجية مناهضة للإمبريالية. دعنا نتذكر أن حكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي قد دافعت عن جزاري الماريكانا عام 2012- عندما تم قتل 34 من عمال المناجم. لكن علينا أيضًا أن نقر بالقسوة اليومية التي تتبعها شرطة جنوب أفريقيا ضد سكان العشوائيات والفقراء في أرجاء البلاد (دون ان نفصل في فشل المؤتمر الوطني الأفريقي منذ العام 1994 في تطبيق إصلاحات أراضي ذات مغزى في البلاد).

إن المؤتمر الوطني الأفريقي هو عدو الفقراء في جنوب أفريقيا، وأن وهم انتهاجه سياسات إصلاح أراضي تقدمية، أو ما يسميها بأيديولوجيا التحرر، يمثل خدعة بالغة الخطورة. إن جنوب أفريقيا لا تطرح أي نوع من البدائل الأفريقانية لدى القارة.

وهناك مكان آخر يجب أن نتوجه إليه حيث نجد "الأيديولوجيا" والممارسة التي تشير لها في السؤال. إنني أرى البديل في الحركات والإضرابات الجماهيرية التي اندلعت في ظل نظام الأبارتهيد في الثمانينيات في جنوب أفريقيا، على سبيل المثال حينما كان الكثيرون ممن يقاومون النظام العنصري في بريتوريا، لا يعرفون موقف حزب المؤتمر الوطني الأفريقي! كما يجب أن نتوجه للانتفاضة الشعبية الكونغولية في التسعينيات، التي ذكرتها فيما سبق. وهناك بالطبع الكثير من الأمثلة التي يمكنني عرضها.   

محمد عبد الكريم: لقد كتبت بإسهاب عن مفكرين راديكاليين أفارقة، مثل: فرانز فانون وتوماس سانكارا وباتريس لومومبا، ومؤخرًا عن والتر رودني، هل لا تزال أفريقيا بحاجة لتثوير مواقفها تجاه النظام العالمي الراهن؟ وما الوسائل المتاحة أمامها لهذا الغرض؟

ليو زيليج: يوجد لدى عمالقة السياسة الراديكالية الأفريقية هؤلاء، لا سيما فانون والتر رودني، الكثير مما قد نتعلمه. وكانت قوة فانون المذهلة كامنة في كيفية نظره للقضاء على الاستعمار على النحو الذي كان يتم حوله- في اللحظة الواقعية ذاتها. فقد كانت القارة إزاء إعادة تشكيل، وتحصل على الاستقلال، لكن فانون رأى مدى الضحالة الكاملة لهذا الاستقلال، ودق جرس الإنذار. وأدان فانون "نقص الأيديولوجيا" لدى قادة الاستقلال الجدد، ورأى كيف أن القوى الاستعمارية -بقدرتها الاقتصادية الهائلة- لم تكن لديها بالفعل أية خطط لترك القارة تقرر مسارها بنفسها.

أما رودني – الثوري الغياني الكبير- فإنه يكتب، وينخرط لاحقًا كما فانون، حيث شاهد نفس الفشل الذي واجهه الاستقلال. لكنه فعل أمرين مميزين: أولهما، أنه استكشف المشروعات العديدة للدول حديثة الاستقلال لإحداث التغيير داخلها، والتخلص من تخلفها. وفي نهاية حياته القصيرة- نتذكر أنه قتل عام 1980 في جورجتاون بغيانا- فقد أدان هذه المشروعات باعتبارها دولاتية statist (نصيرة لحكم الدولة)، وبيروقراطية تخدم مصالح طبقة مستغلة جديدة.

والأمر الثاني، وربما إنجازه الأعظم، تمثل في توجه رودني بحسم لقوة الطبقة العاملة أو العمال، كمحرك لكافة أوجه التحرر السياسي والاقتصادي.

لا يمكن تحرير شعب بفضل قائد متحرر، أو "مستبد عادل". لا يمكن تحقق التحرر إلا بأيديهم، أفعالهم التحررية نفسها. ويعرف رودني بحق على أنه نبي الانعتاق الذاتي. وهذا هو أملنا الوحيد.   

محمد عبد الكريم: ماذا عن مستقبل قيم التضامن الأفريقي، كيف يمكننا، من وجهة نظرك، النظر بجدية لمفهوم "حلول أفريقية للقضايا الأفريقية"؟

ليو زيليج: أعتقد أنه ثمة طريقتين للإجابة على هذا السؤال. إن فكرة حلول أفريقية لقضايا أفريقية، والتي وضعت على نحو متباين، مفهومة تمامًا. فقد كانت القارة ألعوبة في يد المصالح الخارجية، سواء الأوروبية أو الصينية الآن، والتدخلات لقرابة خمسمائة عام. وكان شعار "ارفعوا أيديكم عن أفريقيا" شعار مؤتمرات الوحدة الأفريقية في نهاية الخمسينيات والستينيات المنعقدة في أفريقيا، وقد كانت مصيبة في شعارها.

بأي حال، علينا تفادي الفكرة السهلة والمريحة البادية بحلول أفريقيا بقيادة الدولة للمشكلات الأفريقية- إذ خضعت الدول الأفريقية لما أطلقت على نفسها نظمًا تقدمية، سواء أكانت مجالس عسكرية حاكمة في غرب أفريقيا اليوم، أو حتى النظام العسكري لتوماس سانكارا في الثمانينيات.  وليس ثمة أوهام، بالنسبة لمن يناضلون من أجل البقاء في مالي أو النيجر أو بوركينا فاسو اليوم (أو خلال سنوات حكم سانكارا 1983-1987)، فإن شعار مناهضة الإمبريالية الزائف لا يعني شيئًا بالنسبة لحياتهم!

ثمة جانب آخر للأفريقانية يمكن تبنيه، وهو أفريقانية العمال الشعبيين الذين يقودون النضال من أسفل. إن هذه القوة الكامنة -الحاضرة والمرئية والنشطة- كانت سمة دائمة للحقيقة السياسية في أفريقيا والمقاومة للرأسمالية العالمية (والوطنية). وعلينا أن نركز دون كلل على هذه القوة، وأن نعتني عن كثب بكيفية تهميشها في السابق من قبل سياسة وتاريخ أدارا ظهرهما للانعتاق الذاتي، وسياسة الطبقة العاملة.

ويمكن أن نطلق على ذلك العامل المفقود في التحرر الأفريقي lost subject of African liberation، ونحتاج اليوم لاستعادة هذه القوة في التاريخ، وفي التنظيم والسياسة والنضالات المعاصرة التي تجري اليوم.

محمد عبد الكريم: وصفت جريدة نيويورك تايمز كتابك الأخير عن والتر رودني بقولها إن "زيليج لا يبالغ عندما يصف رودني بأنه "ثوري زماننا هذا"، هل تحدثنا عن رؤيتك لزمننا الأفريقي الراهن؟

ليو زيليج: كان عنوان الكتاب ضربة خفيفة لفكرة أن التاريخ يخبرنا دومًا شيئًا ما يتعلق بالضرورة بالماضي؛ أي أن للتاريخ مكانه، لكنه يحتاج في النهاية إلى تصنيفه، ثم وضع دراساته في المكتبات.

وبدا لي، خلال البحث في الكتاب وكتابته، أن رودني كان ناشطًا واشتراكيًا ثوريًا يلائم عصرنا الحالي. كيف ذلك؟ حسنًا، لقد كان رودني المنظر الأخير للقضاء على الاستعمار، والرأسمالية. لقد كان القضاء على الاستعمار مشروعًا للتخلص من بقايا السيطرة الثقافية والسياسية والاقتصادية من قبل القوى الاستعمارية السابقة، كما ذكرنا فيما سبق؛ وهو الأمر الذي لم يتم على الإطلاق. وقد شهد رودني ذلك، وأدان الفشل حتى داخل ما سميت بالمشروعات الراديكالية لما بعد الاستقلال في مصر أو في تنزانيا أو أي مكان آخر، من أجل القطيعة مع الرأسمالية.

لكن عندها، ومع قرب نهاية حياته، مضى رودني بشكل أعمق، ورأى أن المستقبل الاشتراكي المناهض للرأسمالية، لا يمكن أن يتحقق إلا عبر مشاركة الطبقة العاملة العريضة، مع من يعملون على خلق أشكال خاصة بهم من السياسة والسلطة والسيطرة.

وفي النهاية، يحتاج ذلك لأن يتحول إلى مشروع عالمي وليس مشروعًا أفريقانيًا فحسب- أي أنه إذا كانت الرأسمالية صعبة المراس وعالمية، حسب رودني، لذا فإنه علينا (من يحاربون من أجل عالم مغاير) أن نوظف هذا البأس بخلق طاقة سياسية للعمال. وقد عرف فانون أيضًا أنه ليس ثمة بديل، وليس ثمة نقيض للرأسمالية، إن لم يكن دوليًا الطابع. باختصار، لا يمكن تحقق تحرر الإنسانية دون وجود مشروع عالمي.