الاثنين 17 مارس 2025
نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، وبينما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يستعد لبدء ولاية رئاسية جديدة في البيت الأبيض، صدم الجميع بتصريحاته التي تعهد فيها بامتلاك قطاع غزة الفلسطيني، وتحويله لـ"ريفيرا الشرق الأوسط" بعد تهجير سكانه قسريًا، ليعيد بذلك المشاهد القاسية التي عاشها سكان أرخبيل تشاغوس، الواقع في المحيط الهندي، قرب موريشيوس، حينما أجبر السكان على الخروج قسرًا؛ لأن الولايات المتحدة رأت أن جزيرتهم النائمة في قلب المحيط موقعا استراتيجيا لبناء قاعدة عسكرية جوية.
تأخذنا الديباجة السابقة إلى عام 1961، حينما قررت الولايات المتحدة الأمريكية بناء قاعدة عسكرية في المحيط الهندي، وبعد البحث لمدة ثلاثة سنوات اختار المخططون الأمريكيون، جزيرة ألدابرا إحدى جزر أرخبيل تشاغوس، والذي يضم مجموعة من الجزر، التي تهمين عليها بريطانيا. لكن تراجعت الإدارتين الأمريكية والبريطانية, لأن الجزيرة تحتوى على كائنات نادرة، وحولت المخطط إلى جزيرة دييغو غارسيا المجاورة، والتي تحتوي على قرابة ألفي نسمة في ذلك الوقت، وفقا لرواية الكاتب الأسترالي جون بلجر، التي سردها في كتابه "الحرية في المرة القادمة".
يحكي بلجر في كتابه، كيف خططت الولايات المتحدة وبريطانيا لاقتلاع التشاغوسيين من وطنهم، بسرد مجموعة من الشهادات المروعة، أدلى بها السكان الذين رحلوا قسرا إلى موريشيوس، بموجب اتفاق سري عقد بين بريطانيا وحكومة موريشيوس آنذاك، والذي كان نصه أن تحصل هذه الأخيرة على الاستقلال، ومبلغ مالي يصل إلى 3 ملايين جنيه إسترليني، شريطة التنازل عن أرخبيل تشاغوس، والذي سيعرف فيما بعد باسم إقليم المحيط الهندي البريطاني، حيث أقيمت القاعدة العسكرية الأمريكية التي هاجمت منها القوات الأمريكية العراق وأفغانستان، في سنوات لاحقة.
تقول تشارلسيا، مواطنة من السكان الأصليين لتشاغوس، واحدة من الذين التقى بهم المؤلف خلال جولاته في الأحياء الفقيرة التي شحن إليها سكان الجزيرة الساحرة في موريشيوس، إن التهجير القسري بدأ بمنع السكان من العودة إلى الجزيرة، إذ أنها غادرتها مع أسرتها إلى موريشيوس بغرض العلاج، وما أن قرروا العودة إلى الوطن، حتى منعت السلطات البريطانية والأمريكية السفن من تحميل الركاب.
في الجزيرة كان السكان لا يحتاجون إلا لشراء الملابس فقط من الخارج، إذ كان المجتمع التشغي، يعتمد على الزراعة وصيد الأسماك، وكان توجد هناك عدة مصانع لإنتاج زيت جوز الهند، الذي تحمله المراكب إلى العواصم الأوروبية، لتعود إلى السكان بما يحتاجونه من الخارج، لذا فكر المستعمرون الجدد في منع دخول هذه البضائع لإجبار السكان على المغادرة.
تقول السيدة إن التهجير القسري بدأ بمنع السكان من العودة إلى الجزيرة، إذ أنها غادرتها مع أسرتها إلى موريشيوس بغرض العلاج، وما أن قرروا العودة إلى الوطن، حتى منعت السلطات البريطانية والأمريكية السفن من تحميل الركاب.
أمام تمسك التشاغيسيون بأراضيهم فكر الجنود الأمريكيين في حيلة مرعبة، إذ أقدموا على تنفيذ محارق جماعية للكلاب المنتشرة بغزارة في الجزيرة، حيث كان السكان المحليون يعتمدون عليها في صيد الأسماك من الشواطئ القريب. وبلغ الأمر درجة تهديد السكان بمصير مماثل، إذا لم يستجيبوا لطلبات الإجلاء، وما هي إلا أسابيع حتى بدأت الطائرات العمودية الأمريكية تحلق على ارتفاع قريب من أسطح المنازل، مع تهديدات بالقصف في المرات القادمة.
بحلول سبعينيات القرن الماضي، كانت السفينة التي تحمل اسم "نورد فاير" تحمل عشرات العائلات بين تشاغوس وموريشيوس، ولمدة خمسة أيام دون طعام، وما أن وصلوا إلى الشاطئ، حتى شُحن الجميع في بيوت من الصفيح والقش، ولم يجدوا ما يعوضهم عن وطنهم المفقود، في بيئة تنتشر فيها البطالة والفقر. عن ذلك يعلق الكاتب جون بلجر، بأنهم "عوملوا مثلما عومل سكان أستراليا الأصليون في القرن التاسع عشر، فقد اعُتبروا أنهم لم يوجدوا أصلا، ولم يسرق وطن التشاغوسيين وحسب، بل أخرجوا من التاريخ أيضاً، حيث دأبت السلطات البريطانية على مدار عقود بأنه لم يكن على الجزيرة سكانا".
الرابط بين تشاغوس وقطاع غزة الفلسطيني، ليس فقط الرغبة الأمريكية في الاستفادة من الأرض، وإنكار حقوق السكان الأصليين، بل إن الرئيس ترامب نفسه يستعد حاليا لمنع بريطانيا من التنازل عن الأرخبيل الذي يضم القاعدة الأمريكية ومجموعة الجزر إلى موريشيوس. فهذه الأخيرة تطالب بالجزر، وتقول إنه أرغمت في السابق للتنازل عنها، إلا أن الولايات المتحدة تتنصل من هذا الاتفاق الذي لا يخدم المصالح الأمريكية، على حد وصف تقرير نشرته صحيفة التلغراف البريطانية، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
عطفا على ذلك يربط الدبلوماسي المصري، بلال المصري، في مقال له بين التنسيق البريطاني الأمريكي للاستيلاء على تشاغوس في السابق، وبين المخططات الأمريكية في قطاع غزة، لافتا إلى أنه ليس من المستبعد أن تقوم لندن بدور مشابهة لما لعبته في السابق، لتسهيل استيلاء واشنطن على الجزيرة الواقعة في المحيط الهندي.
فكر الجنود الأمريكيين في حيلة مرعبة، إذ أقدموا على تنفيذ محارق جماعية للكلاب المنتشرة بغزارة في الجزيرة، حيث كان السكان المحليون يعتمدون عليها في صيد الأسماك من الشواطئ القريب، ليس هذا فحسب بل هدد السكان بمصير مماثل إذا لم يستجيبوا لطلبات الإجلاء
ويضيف أنه من المرجح أن تكون الطائرات الأمريكية التي استهدفت مواقع للمجموعات المسلحة الموالية لإيران في كل من سوريا والعراق واليمن، ربما خرجت من القاعدة البحرية في تشاغوس، ولذا ليس من المستبعد أن تدعم بريطانيا خطط ترامب لتهجير أهالي غزة، حتى وإن كان الموقف المعلن هو رفض هذه المخططات.
بالعودة إلى كتاب "الحرية في المرة القادمة"، يشير المؤلف إلى أن شعب تشاغوس لم يكن الأول الذي هجرته الولايات المتحدة الأمريكية أو أحد حلفائها، الذي يتذرعون دوما بحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، مستشهدا بموقف رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة جولدا مائير، التي سجلت لها مقولة "لم يكن هناك شيء اسمه الفلسطينيون" على الرغم من أن القوات الإسرائيلية وبأسلحة أمريكية دأبت على هدم المنازل الفلسطينية، وإجبار أصحابها على مغادرتها حتى أنه يوجد حاليا أكثر من 5 ملايين لاجئ فلسطيني، وفق إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، موزعون بين دول العالم.
لم تتورط الولايات المتحدة الأمريكية في عمليات تهجير قسري لسكان تشاغوس فقط، بل سجل التاريخ وقائع دامية، كان أبرزها التهجير القسري الذي وقع خلال عام 1830، والذي عرف باسم "درب الدموع". تقول عنه الكاتبة ألينا روبرتس، الأكاديمية بقسم التاريخ في جامعة بيتسبرغ، في مقال سابق لها أنه كان بمثابة قتل جماعي للمواطنين السود على يد حشود من البيض.
خطط ترامب بتهجير أهالي غزة تتلائم مع تاريخ الولايات المتحدة في عمليات الطرد الجماعية، مستشهدا بما حدث في مداهمات بالمر في 1919، وكذلك عمليات ترحيل المكسيكيين في ثلاثينيات القرن الماضي، وتكرر الأمر في الخمسينيات فيما عرف باسم "الظهر المبلل"
في العام نفسه، أصدرت الحكومة الأمريكية ما عرف باسم قانون إزالة الهنود، والذي سمح بانتزاع الأراضي الواقعة غرب نهر المسيسيبي من أصحابها، وبناء على ذلك أجبر عدد من القبائل الأصلية في المنطقة على الرحيل، حيث جرى نقل قبيلة "شيروكي" قسراً، وهو ما تسبب في وفاة ما يقرب من 4000 شخص، خلال الرحلة بسبب الجوع والمرض.
تتلاقى هذه الوقائع مع ما نشره موقع "إكسيوس الأمريكي"، الذي أكد أن خطط ترامب بتهجير أهالي غزة تتلائم مع تاريخ الولايات المتحدة في عمليات الطرد الجماعية، مستشهدا بما حدث في مداهمات بالمر في 1919 ضد المهاجرين اليهود الروس والإيطاليين. وكذلك عمليات ترحيل المكسيكيين تحت مزاعم عودتهم إلى الوطن في ثلاثينيات القرن الماضي، وتكرر الأمر في الخمسينيات فيما عرف باسم "الظهر المبلل"، والتي توصف بأنها أكبر عملية ترحيل في تاريخ الولايات المتحدة، حيث جرى اعتقال 1.3 مليون شخص، وترحيلهم قسريا إلى المكسيك.
كل هذه الحوادث المروعة جرت تحت إشراف من الحكومات التي تقدم نفسها للعالم على أنها صاحبة تجارب راسخة في الديمقراطية، والدفاع عن حقوق الإنسان، ومررت في أحيان كثيرة رفقة تقارير إعلامية تبرر القتل، لأن الضحايا من جنس يمكن أن يوصف بالإرهاب مرة، أو بالرجعية والتخلف مرات أخرى، لتثبت أن ازدواجية المعايير الغربية ديدن قديم، مررت من خلاله خطط الاستيلاء على ثروات الشعوب.