الأحد 16 نوفمبر 2025
تُظهر التحقيقات الحديثة الحجم الهائل والتعقيد المتزايد لظاهرة الاتجار غير المشروع بالحياة البرية في مختلف أنحاء القارة الأفريقية، كاشفةً عن شبكة مترابطة من الفساد والجريمة المنظمة والخلل المؤسسي، التي تُقوّض جهود الحفاظ على البيئة، وتُغذي الأسواق غير القانونية، فيما يُعرف بـ "قرصنة الحياة البرية". وتشمل هذه الممارسات أنشطة الصيد غير المشروع، وجمع الكائنات الحية البرية، وتدمير الموائل الطبيعية، وتهريب العينات عبر الحدود.
تُشير الدراسات إلى أن كينيا تُعد من أبرز النقاط الساخنة للتنوع البيولوجي في أفريقيا، إذ تواجه محاولات متكررة ومستمرة لنهب مواردها البيئية، بما يُشكل تهديدًا لأمنها القومي؛ حيث تتمتع البيئة الكينية ب25٪ من التنوع البيولوجي العالمي، وتحتوي 7 آلاف فصيل نباتي، و2000 نوع من البكتيريا النادرة والفطريات.
تُنفَّذ هذه الأنشطة من خلال شبكات جريمة منظمة أو مجموعات أصغر ذات طابع غير منظم جزئيًا، يتوسطها فاعلون محليون يسعون لتحقيق مكاسب مالية.
تظهر كينيا تاريخًا ممتدًا في تجارة الكائنات البرية غير المشروعة، والتي لم تعد مقتصرة على الثدييات التي أعتدنا عليها، بل اتسع نطاقها ليشمل الكائنات الصغيرة مثل الحشرات، من ضمنها فئة النمل. وقد شهدت كينيا أكثر من محاولة غير مشروعة لنقل النمل الكيني إلى الخارج، كان أشهرها حادثة ضبط أربعة أشخاص في مطار نيروبي، شهر أبريل/ نيسان العام الحالي، وبحوزتهم أكثر من 5000 نملة من نوع ميسور سفالوتس، محفوظة في 2000 عبوة متجه إلى أوروبا وآسيا؛ حيث الأسواق النشطة.
قدرت القيمة السوقية للتك العبوات بحوالي 9300 دولار أمريكي، أي ما يعادل تقريبًا مليون شلن كيني. ولم تكن الحادثة الوحيدة، بل سبقها عام 2023، محاولة تصدير غير قانوني إلى فرنسا، على أيدي ثلاثة كينيين، مقابل 2321 دولار من النوع ذاته. مثًلت تلك الحوادث تحولًا نوعيًا في أنماط الاتجار غير المشروع في البيئة الكينية، ومؤشرًا خطيرًا على سوق النمل الخفي والناشئ.
تُشير الدراسات إلى أن كينيا تُعد من أبرز النقاط الساخنة للتنوع البيولوجي في إفريقيا، إذ تواجه محاولات متكررة ومستمرة لنهب مواردها البيئية
يشير تقرير صدر عن مجلة التاريخ الطبيعي لشرق أفريقيا، إلى أن البيئة الكينية بيئة متنوعة وغنية، وتعد مخزونًا طبيعيا؛ حيث تحتوي كينيا بمفردها على أكثر من 650 نوعًا من النمل، تتوزع ضمن 63 جنسًا، و12 فصيلا مختلفا ونادرا، وتتصدر قائمة الإنتاج غابة كاكاميغا غرب كينيا، ووسط البلد، وغابة أرابوكو سوكوكي، والغابات الاستوائية الجافة الساحلية.
تُعد ملكات النمل الأكثر طلبًا داخل الأسواق، وعنصرًا أساسيًا في استمرار بناء المستعمرات، والحفاظ على التوازن البيئي في كينيا، إذ تساهم في تهوية التربة وتوزيع البذور، ما يجعل فقدانها سببًا في اختلال النظام البيئي المحلي.
تجد هذه الأنواع من النمل أسواقًا مربحة في كلٍّ من أوروبا وآسيا، حيث يُقدَّر سعر النملة الواحدة من نوع "ملكات النمل" أو ما يُعرف بنملة الحصاد الأفريقي إلى حوالي 233 دولار، نقلًا عن رويترز بحسب متوسط الأسعار في ستة متاجر تجزئة متخصصة في المملكة المتحدة.
قلما ضبطت محاولات التهريب في كينيا، نظرًا لتركيز أجهزة المكافحة على الجرائم الأكثر شيوعًا مثل الاتجار بالمخدرات والأسلحة، فإنها ليست الأولى عالميًا في مجال الاتجار غير المشروع بالحشرات، وإنما سبقها محاولات عدة. فقد شهدت السنوات السابقة حالات مماثلة، حين تمكنت السلطات الصينية عام 2015 من ضبط نحو ألف نملة سوداء من نوعي نمل الحصاد والنمل الرصاصي، كانت مخبأة داخل طرود بريدية قادمة من ألمانيا إلى مقاطعة سيتشوان بالصين، ما يظهر رواج التجارة غير المشروعة للنمل عالميًا.
يزدهر سوق الحياة البرية الرقمية، مدفوعًا بانتشار وسائل التواصل الاجتماعي والقدرة على إخفاء هوية كلٍّ من البائعين والمشترين، وربطهم بسهولة عبر الحدود دون قيود تنظيمية واضحة. وقد ساهم ذلك في تعزيز مرونة التجارة غير المشروعة بالكائنات الحية، مستفيدة من ضعف الرقابة على هذا النمط من الأسواق الناشئة. وقد كشفت دراسة أُجريت في الصين خلال الفترة بين عامي 2021 -2022 عن تصاعد لافت في حجم مبيعات ما يُعرف بالنمل الإلكتروني، إذ سجّلت بيع 72 جنسًا من النمل، منها ستة أجناس تنحدر من القارة الأفريقية، أبرزها نوع ميسور سفالوتس (Messer cephalotes) التي تنتشر مستعمراته في كينيا وإثيوبيا، ويتم تداوله عبر منصات التجارة الإلكترونية العالمية حيث يتراوح سعر النملة ما بين 23 -176 دولار أمريكي.
كشفت دراسة أُجريت في الصين خلال الفترة بين عامي 2021 -2022 عن تصاعد لافت في حجم مبيعات ما يُعرف بالنمل الإلكتروني، إذ سجّلت بيع 72 جنسًا من النمل، منها ستة أجناس تنحدر من القارة الأفريقية
يدفع هواة تربية النمل مبالغ مرتفعة لاقتناء مستعمرات تُحفظ داخل أوعية شفافة تُعرف باسم "الفورميكاريوم"، بهدف مراقبة البنية الاجتماعية للنمل وهياكلهم وسلوكياتهم. وتُعد ملكات نوع "Messor cephalotes" عنصرًا أساسيًا في استمرار حياة المستعمرة، إذ تمتلك القدرة على وضع البيض الذي ينتج العمال والجنود والملكات الجديدة، ما يجعلها هدفًا مرغوبًا لهواة التربية والباحثين، سواء بدافع المتعة أو لأغراض البحث العلمي، وغالبا ما يتم اقتناؤها بطرق غير قانونية، حيث تُتدار العملية من البيئات الغنية بيولوجيًا وفقيرة رأس ماليا إلى الدول ذوات رأس المال حيث البيئة مقابل المال.
ووفقًا لتقريرٍ صادرٍ عن صحيفة نيويورك تايمز، تُقدَّر قيمة تجارة الحيوانات الأليفة الغريبة بمليارات الدولارات سنويًا، استنادًا إلى بيانات المركز القانوني والتاريخي للحيوان بكلية الحقوق في جامعة ولاية ميشيغان 2022، والتي تشير إلى أن إجمالي حجم التجارة العالمية في الحياة البرية يتراوح بين 30 -43 مليار دولار سنويًا، لا يُدار منها ضمن الأطر القانونية سوى نحو 23 مليار دولار فقط، وهو ما يعكس اتساع حجم الاقتصاد غير المشروع في هذا القطاع، وما يترتب عليه من انتهاكات لقوانين الدولية.
تواجه السلطات الكينية صعوبات في تحجيم تجارة النمل غير المشروعة بسبب غياب الإحصاءات الدقيقة التي تحدد حجم ظاهرة التهريب، وضعف معدلات الإبلاغ عن الحوادث المرتبطة بها، نتيجة للطبيعة السرية لهذه التجارة. ويتفاقم هذا الوضع نتيجة لغياب الوعي العام بخطورة هذه الممارسات، إذ لا يُنظر إليها في كثير من الأحيان بوصفها جريمة بيئية؛ حيث تشهد المناطق الريفية انتشار تجارة النمل الأبيض باعتباره مصدراً للبروتين، إذ يقوم المزارعون بجمع كميات محدودة منه، وبيعها في الأسواق المحلية لعائلات أخرى. وقد تصل قيمة كوب واحد من النمل الأبيض خلال فترات الجفاف إلى نحو 10 شلن كيني، ما يعادل 0.10 دولار أمريكي طبقًا لأسعار السوق لعام 2017.
أشارت هيئة مكافحة القرصنة البيولوجية في كينيا إلى أن المهربين غالباً ما يُعلنون عن شحناتهم بصورة مضللة بوصفها منحوتات خشبية أو ألعابً
أما في سلاسل التوريد الأوسع، فتُباع النملة الواحدة للوسطاء بنحو 50 شلن كيني، قبل أن يعاد بيعها بما يقارب 150 شلنًا، لتقفز أسعارها في الأسواق الأوروبية إلى ما يصل إلى 100 يورو. وكُشف عن هذه الأنشطة عام 2019 بعد تلقي السلطات عدة بلاغات بشأن عمليات تهريب تم اعتراضها عبر مرافق خدمات البريد السريع في نيروبي وجيلجيل ونيفاشا. وأشارت هيئة مكافحة القرصنة البيولوجية KWS في كينيا إلى أن المهربين غالباً ما يُعلنون عن شحناتهم بصورة مضللة بوصفها منحوتات خشبية أو ألعابًا.
وعلى الرغم من نجاح بعض الحملات الأمنية في إحباط عمليات التهريب، فإن أجهزة إنفاذ القانون ما زالت تعاني من نقص المعلومات والموارد، كما تميل إلى تصنيف جرائم الحياة البرية ضمن الأولويات الثانوية مقارنة بجرائم المخدرات والسلاح. ويؤدي هذا القصور إلى استمرار الاتجار بالحشرات في الخفاء، مما يهدد المستعمرات الحيوية للنظام البيئي في كينيا، ويُنذر بعواقب بيئية وخسائر طويلة الأمد تمس الأجيال القادمة.
لا يقتصر تهريب الحياة البرية في كينيا على فقدان التنوع البيولوجي، بل يمتد ليهدد الموارد الاقتصادية والمعيشية القائمة على استدامته، خاصة الزراعة. فالإخراج غير القانوني للكائنات يُضعف الإرث الطبيعي، ويضر بمستقبل الأجيال القادمة. لذا، من الضروري أن تتبنى السلطات إجراءات صارمة لردع جرائم البيئة ووقف تجارة مستعمرات النمل الكيني، لمًا تسببه من خلل في التوازن البيئي، إذ تؤدي أنواع مثل نملة ميسورسفالوتس دورًا رئيسيًا في تخزين البذور ومكافحة الآفات، مما يحافظ على خصوبة التربة واستقرار النظام البيئي.