الاثنين 28 أبريل 2025
قبل أسبوعين من تحرير المقالة، انهار بشكل مفاجئ النظام السوري بقيادة بشار الأسد الذي كان يحكم البلد قرابة ربع قرن، بعدما ورثها من والده الراحل حافظ الأسد، الذي حكم بدوره ثلاثين سنة بيد من حديد، لينتهي بذلك حكم عائلة امتد لأكثر من نصف قرن من عمر سوريا الحديثة.
لم تكن المفاجأة في سقوط النظام، فهناك دكتاتوريات كثيرة أسقطتها الشعوب بعد أن وصل بركان الثورة فيها لمرحلة الانفجار، وبشار الأسد كان على فوهة البركان لثلاثة عشرة سنة، كاد خلالها أن يسقط أحيانا وأحيانا أخرى انتصر. المفاجأة في الأمر هي سرعة انهيار النظام الذي تداعي خلال أسبوع فقط.
أعاد الحدث إلى الذاكرة ما حدث في أفغانستان في 2021، حيث بسط مقاتلون، قضوا عشرين عاما في الجبال الوعرة، أيديهم على البلد، بعد اختفاء ما يقارب ثلاثمئة ألف من القوات الأمنية الأفغانية التي تم تدريبها وتسليحها لسنوات على أيدي الأمريكيين، تركتها القوات الامريكية لمواجهة بضع عشرات الاف من حركة طالبان، فتركت القوات الأفغانية مواقعها دون قتال، واختفت من الوجود كفقاعة عصفت بها الرياح.
في سوريا أكدت مصادر روسية وإيرانية، اللتان لعبتا الدور الأساسي في إنقاذ نظام الأسد سابقا؛ على أنه لم يكن بالإمكان إنقاذه هذه المرة، لأن جيش النظام كان يترك مواقع المواجهة، ولم يملك نية للقتال، ولذلك لا يمكن دعم ومساندة قوات لا تقاتل على الأرض.
يمثل ائتلاف هيئة تحرير الشام، العمود الفقري للفصائل المقاتلة، قوة قتالية قوامها أقل من 30 ألف، حسب بعض التقديرات، بالإضافة إلى جماعات أخرى متحالفة أقل منها عددا، ومن المتفق أن عدد مقاتلي تلك الجماعات أقل بكثير من قوات الجيش العربي السوري، وأقل منه عتادا، ولهذا تمثل العامل الحاسم لانهيار النظام في عدم رغبة عناصر الجيش في القتال.
كان الجيش السوري قبل اندلاع الثورة في 2011 جيشا محترفا ومتماسكا أكثر جاهزية للقتال؛ على الرغم من جاهزيته لقتال شعبه، كما أثبت لاحقا. لكن على ما يبدو آتت سنوات عشرة من الحرب الأهلية على الجيش السوري، ففككت منظومته، وفرقت منتسبيه بين قتيل وجريح وهارب من الخدمة ومحبط. عمل النظام خلال هذه الفترة على حشد المليشيات الطائفية والمرتزقة الأجانب بديلا للجيش السوري، واعتمد علي الإيرانيين والروس للبقاء في السلطة، مما حوّل الجيش السوري إلى مجموعات مسلحة، تفتقر إلى العقيدة القتالية والولاء. وفي لحظة تراخي الحلفاء الأجانب والانشغال بحروبهم الخاصة، تعرضت القوات السورية لهجوم مباغت من فصائل المعارضة ففرت من مواقعها دون قتال.
ليست هذه حالة فريدة من نوعها، ففي 2014 انهارت القوات العراقية، وتركت ثكناتها وحتى الأحذية العسكرية للجنود، بعد أن هاجم مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية مواقع الجيش العراقي بأعداد منخفضة. وفي السنة الماضية، تحدث كثير من المتابعين للأزمات الدولية عن تكرار سيناريو أفغانستان أو شمال العراق في الصومال الذي انهار قبل ثلاثة عقود، وتكلف الأجانب بإعادة بناء دولته وتعافي مؤسساته.
كان من المخطط أن تنقضي، في نهاية هذا العام، صلاحيات بعثة الاتحاد الأفريقي للانتقال في الصومل – آتميس التي حلت محل بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال – أميسوم، المنوطة بحماية مؤسسات الحكومات الصومالية المتلاحقة لعقدين من الزمن. وعلى الرغم من الجهد الدولي الدؤوب لبناء قدرات الجيش الصومالي، لاح في الأفق فراغ أمني قد يقضي على الهيئات الفدرالية بعد سحب بعثة آتميس، لأن القوات الأمنية الصومالية لم تبد استعدادا لتولي مسؤولياتها، وعليه اعتمد مجلس الأمن والسلم التابع للاتحاد الأفريقي على آلية جديدة باسم آوسوم، وتمديد العملية الأفريقية لتفادي سيناريو أفغانستان في الصومال، ويعمل الأن على جمع القوات المساهمة من الدول الأعضاء.
القلق من عدم قدرة الأجهزة الأمنية الصومالية على الدفاع عن الهيئات الحكومية لم يأت من فراغ أو من مقارنة نظرية للحالات المشابهة، وإنما مبني على وقائع مثبتة على الأرض، منها معارك انفردت بخوضها القوات الصومالية، مثل: معركة عوسوينه مع مقاتلي حركة الشباب، ومعركة رأس كامبوني الأخيرة، حيث حاولت الحكومة الفدرالية تمرير أجندة انتخابية لها على حساب ولاية جوبلاند، وذلك باستخدام القوات الأمنية والجيش. وفي كلا الحالتين تبين أن القوات الصومالية غير مستعدة لخوض المعارك، ففرت عناصرها من المواجهة، تاركة وراءها حتى البدلات العسكرية. لا نتحدث هنا عن قوات انهزمت في قتال، وفرت في وجه قوة قاهرة، فهذا مفهوم في سياقه، ولكنها قوات فرت من المواجهة.
لا ترتبط الهزيمة العسكرية على هذا النحو بالعتاد العسكري أو مستوى التدريب أو حجم الجيش. إنها هزيمة على مستوى الإرادة والهدف من الجندية والمعنويات والعقيدة القتالية، وهي من ركائز العمل العسكري وأداء الجيوش. من الوارد، ومن الواقع فعلا، أن تواجه الجيوش تحديات من هذا الجانب، ولكن الجدير بالملاحظة أو حتى التساؤل؛ ما السمات المشتركة للجيوش التي تم تكوينها للصومال وأفغانستان والعراق وسوريا ما بعد الثورة؟ هذه الدول، جميعها، انهارت لحروب أهلية، وتدخلات من الخارج، ولم تستطع الدولة الوطنية فيها القيام من جديد، أو الاستمرار بجهود وطنية ومقومات ذاتية، فتم فرضها من الخارج أو اعتمدت كلية على جهات خارجية، وتحولت حكومات هذه الدول إلى "مشروع دولة تمتلكه وتحميه قوي أجنبية". هكذا بدت في نظر شعوبها، بما فيها منتسبي الأجهزة الأمنية والموظفين الحكوميين وحتى الساسة منهم، مشروعا يملكه الأجانب، ويتم تسييره بتمويلهم وحمايتهم. افتقدت شعوب هده الدول الشعور بالملكية لهذه الكيانات المحمية أجنبيا، فباتت لا تستحق التضحية لحمايتها أو الدفاع عنها من قبل هذه الشعوب، فصار من يتوظف فيها مجرد عامل يتكسب منها كأي مشروع يتوظف فيه الناس، دون أدنى شعور بالانتماء إليه أو بملكيته.
من الواضح أن حكومات الصومال وأفغانستان (أمريكا) والعراق قامت مفروضة من الخارج، أو بتدخل أجنبي مكنها من الوجود والاستمرار المشروط بدعمه وحمايته، وذلك بعد سقوط الحكومات الوطنية بحروب أهلية أو بغزو خارجي. ولكن في سوريا، واجهت الحكومة الوطنية ثورة شعبية وحربا أهلية تدخلت فيها أطراف دولية، مما أفقدها الأهلية للبقاء بمقومات سورية ودعم داخلي، فارتمى النظام في حضن قوي أجنبية، من دول مثل: روسيا وإيران ومن جماعات شيعية ومرتزقة تم حشدها بدعوات طائفية. تحول النظام إلى كيان قائم على دعم وحماية هذه الأطراف التي رأها معظم السوريين على أنها تغول أجنبي على الدولة السورية، وأصبحت الدولة مشروعا تابعا لإيران وروسيا وتحميه المليشيات الطائفية.
الدولة التي تفقد "شعور مواطنيها بالملكية" أو لم تكتسبه من الأساس، تصبح كيانا يتوظف فيه الناس فقط دون تحمل المسؤولية في حمايته أو التضحية لأجله، بدافع الحس الوطني والانتماء. الفساد المستشري لدرجة النهب، وعدم وجود رؤية وطنية لدى الحكام، والإدمان على الاتكالية على الخارج التي صارت ملازمة لسلوك ووعي السياسيين في هذه الدول، جزء من غياب الشعور بالملكية لمشاريع الدولة هذه.
تنتشر هذه الظاهرة في كل مفاصل هذه الكيانات، لكنها تظهر جليا حين يتعلق الأمر بحمايتها والتضحية لأجلها، فلا يوجد من يخاطر بحياته لمشروع لا يحس بملكيته. وهذا هو السبب وراء انسحاب القوات المدربة لحماية هذه الكيانات من المواجهة، دون قتال يذكر أو النزعة الواضحة للهروب. في حالة السلم والاحتماء بالقوات الأجنبية، تتباهى هذه القوات بالبدلات العسكرية الأنيقة واللياقة البدنية، التي تثير المفخرة في محافل الاستعراض العسكري، وفي انتظار الرواتب الشهرية والعلاوات والترقيات التي غالبا ما تأتي عبر المحسوبية. ولكن عند مواجهة العدو، وهي التجربة الحقيقية للجندية، تختفي هذه القوات بأسرع من هجوم الخصم على مواقعها. لا تصمد هذه الجيوش المدربة على يد جهات خارجية وبتمويل أجنبي، والمعتمدة عليها أمام قوات بسيطة من المقاتلين بأيديولوجيا دينية أو عصبية قبلية، لأنها لا تملك عقيدة قتالية ولا قضية تسحق التضحية بالنفس، وغير مستعدة لحماية "المشروع الغريب" المفروض عليهم من الخارج، والذي لم تنسجم عواطفها معه على غرار بقية أفراد الشعب.
كل مشروع، سواء تعلق بالدولة أو التنمية، إن لم يتم توطينه وزرع الشعور بملكيته لدى السكان أو الشعب، فهو محكوم بالفشل. هذه من أساسيات إدارة المشاريع التي يجيد معرفتها أصغر موظف في هرم إدارة مشروع ينفذ على مستوي قرية، فماذا عن مشروع الدولة بكل ما يجب أن يمتد فيه من مناحي حياة لأمة كاملة مليئة بخصائص الشخصية والهويات بأشكالها! الحكومات القائمة على كنف الغزاة أو تلك التي قامت بمبادرات وأموال "المجتمع الدولي"، وفشلت في توطين نفسها، تفشل في كسب الولاء من شعبها، والإحساس بالملكية تجاهه، تنهار بمجرد انسحاب أو انخفاض الدعم الخارجي، لأن وجودها كان مشروطا به أو بالأحرى كان وجودها عبارة عن ضباب خلقه التمويل والتواجد الأجنبي، وسرعان ما يتبخر بمجرد سطوع أشعة الشمس عليه.