الأربعاء 12 نوفمبر 2025
يرسم هوارد فرنش في كتابه الجديد بورتريهًا مكثّفًا ومتعدد الطبقات لكوامي نكروما، قائد استقلال غانا وصاحب الرؤية الوحدوية التي راهنت على تحويل القارّة بالتعاون والبان-أفريقانية. ويكشف، من دون مواربة، كيف قادت مصالح اقتصادية أميركية وبريطانية إلى تخريبٍ منهجي انتهى إلى الإطاحة به. وكما في "Born in Blackness" (2023)، يمزج فرنش سعة البحث الأكاديمي بسردٍ صحفي سلس؛ وهو أستاذ للصحافة في جامعة كولومبيا منذ 2008، وقبلها ترأس مكاتب نيويورك تايمز في أميركا الوسطى والكاريبي، وغرب ووسط أفريقيا واليابان والكوريتين والصين. في هذا الحوار، يتحدّث عن كتابه ورهانه الفكري على إرث نكروما.
هوارد فرنش: كما هو شأن كتبي كلها، جاء المشروع من تضافر عوامل عدة. أولها تجربتي الشخصية في غانا، وفي القارّة عمومًا، بما في ذلك الخلفية العائلية التي أشرتِ إليها. أخبرني محرري، بوب وايل، فعلًا أنه يتوق إلى نشر كتاب عن نكروما. بدأ حديثُنا بطلبه أن أرشّح له أسماء مؤلفين محتملين، وبعد أخذٍ وردّ قال في النهاية إن أمله منذ البداية أن أتولّى أنا الكتاب. لم أكن متأكدًا من المضي قُدمًا حتى بدأتُ بحثًا تمهيديًا جادًا، فالكتب التزامات ثقيلة. كان بعض تردّدي مردّه أنني ظننتُ أنني أعرف قصة نكروما جيدًا، لكن البحث الدقيق كشف أبعادًا لم أكن أعرفها أو لم أفهمها على نحو كافٍ، وصارت هذه الأبعاد هي ما حمل الكتاب بالنسبة لي. أولها التاريخ العميق للبان-أفريقانية الذي نهل منه نكروما، وهو قصة استثنائية بذاتها. فالسود عادة لا يُدرجون في التاريخ الفكري السائد للعالم، لكن نيران البان-أفريقانية اتقدت أثناء النضال ضد استعباد السود، واستندت إلى سلسلة لامعة من المفكرين تعود إلى القرن التاسع عشر.
التيار السردي الكبير الثاني يتعلّق بالتلاقح الكثيف بين حركة التحرّر الأفريقية ونضال الحقوق المدنية في الولايات المتحدة. كان كلٌّ منهما حيويًا للآخر، ومن المدهش كم يُنسى هذا على ضفتي الأطلسي.
هوارد فرنش: من اللافت في مسارات عدد من أبرز قادة الاستقلال في أفريقيا مدى قلّة ما عرفه بعضهم عن العالم الأوسع حين بدأوا الانخراط السياسي. لم يكن نكروما يعرف الكثير عن الأميركيين الأفارقة، وتفاصيل نضالهم من أجل المواطنة. أما باتريس لومومبا، وهو شخصية ثانوية مهمة في كتابي وقد كتبتُ عنه مؤخرًا، فكان يعرف أقلّ، وظلّ محصورًا في نطاق حياة مستعمرة تهيمن عليها بلجيكا الصغيرة. في عام 1935 وصل نكروما إلى الولايات المتحدة ليبدأ عقدًا من الدراسة هناك، وكانت محطته الأولى في طريقه إلى جامعة لنكولن (جامعة تاريخية للسود) هارلم، التي لم تكن يومها بعيدة عن كونها عاصمة عالمية للفكر الأسود والحراك السياسي. يبدو أن ذلك صدمه قليلًا، لكنه كان بداية يقظته.
هوارد فرنش: لكلٍّ من هؤلاء دورٌ حاسمٌ في تطوّر نكروما السياسي، إلى حدّ لا أستطيع معه اختيار الأكثر تأثيرًا فيه. غارفي أشعل فكرة البان-أفريقانية في ذهن نكروما حتى قبل وصوله إلى هارلم. حين كان نكروما لا يزال طالبًا في ساحل الذهب، كان ننامدي أزيكيوي (الذي سيغدو لاحقًا أول رئيس لنيجيريا) صحفيًا جريئًا، وألهب بفكره نزعة نكروما الوحدوية. أزيكيوي وأغري الداعيان بحماسة إلى الاعتزاز بالسواد شجّعاه على الدراسة في الولايات المتحدة. غذّى جيمس حسَّه بالنضال الثوري، وعلّم بادمور نكروما الجوانب العملية لنشاط التحرير. بنى هورِس مان بوند الجسر إلى حركة الحرية لدى الأميركيين الأفارقة، وهو ما غدا بالغ الأهمية لتاريخ أفريقيا. أما دو بوا فظلّ حضورًا مهيبًا على امتداد المسار. في كتابه المفصلي "إعادة بناء السود في أميركا" وصف فترة "الإعمار" بعد الحرب الأهلية بأنها "أرفع محاولةٍ لتحقيق ديمقراطية للملايين الكادحين شهدها العالم". وقد عاش دو بوا سنواته الأخيرة في غانا ودُفن فيها، وأكاد أجزم أنه كان سيعدّل حكمه لاحقًا ليقول إن تحرّر أفريقيا من الاستعمار الأوروبي ارتقى في الأهمية فوق محطة "الإعمار" الأميركية.
هوارد فرنش: في بدايات الكتاب أتتبّع كيف تشكّلت رؤية نكروما بالبان-أفريقانية من خلال نشأته عضوًا في أقلية لغوية صغيرة عدديًا هي الإنزيما، وقد قسّمها الحدّ الاستعماري بين ساحل الذهب وساحل العاج. مكّنته هويةُ الإنزيما من تفادي تصنيفه ضمن إحدى الجماعات الكبرى المتنافسة تاريخيًا في المستعمرة. وخلفيته المتواضعة، كما قلتِ، منحته قدرة طبيعية على مخاطبة الناس العاديين، وساعدته سنواته الأميركية، ومنها فترات وعظٍ ضيفا في كنائس السود على صقل هذه الملكة. لم تكن البان-أفريقانية وحدها الوقود الفكري لصعوده؛ فقد رأى أيضًا أن بناء دولٍ قابلة للحياة - تمهيدًا لاتحادات أكبر وربما كِيانات قارّية - يتطلب من الأفارقة التخلّي عن الشوفينيات الإثنية المحلية. وقد أظهر البحث الحديث بوضوح كيف ساعدت بريطانيا وسواها من القوى الأوروبية على اختراع ما يُسمّى إلى اليوم "القبيلة"، ورعايتها أداةً لفرّق تسد؛ وعملُ محمود ممداني نافذٌ في هذا الباب. التقط نكروما كل ذلك بشكل حدسيّ قبل عقود. ومع أن انتسابه إلى جماعة صغيرة جنّبه بعض فخاخ سياسة الهوية، فإن حكمه كله وُسم بمقاومة مجموعات مختلفة (الأشانتي، والإيوي، ومجتمعات الشمال) لتركيز السلطة، وغالبًا بعنف.
هوارد فرنش: جاءت وفود أفريقية من كل صوب للتشاور وتبادل الزخم حول مشروع التحرّر. في تلك اللحظة بالذات بدأ نكروما يستخلص دروسًا من تجارب مصر وشمال أفريقيا في مقاومة الهيمنة الأوروبية، ومن احتمالات الفيدرالية. هناك أيضًا بدأ يمارس تأثيرًا عمليًا واسعًا في الاتجاه السياسي للقارّة. المثال الأوضح تمثّل في باتريس لومومبا: وصل إلى أكرا ناشطًا معتدلًا، قليل الخبرة سياسيًا، لكنه سرعان ما تبدّل بسبب خطب نكروما وفرانز فانون وغيرهما.
هوارد فرنش: قرأتُ مؤخرًا في نيويورك تايمز نعيًا لأحد أبطال حركة الحقوق المدنية المنسيّين نسبيًا. شابٌ خاطر بالاعتداء والسجن للمشاركة في اعتصامات مطاعم الجنوب المُمَيَّز عرقيًا. أستشهد في كتابي بمقالٍ لجيمس بالدوين يقول فيه إن هذا النوع من الشجاعة استُلهم من المثال الأفريقي الشجاع والسلمي في الدفع نحو التحرّر والفوز به ابتداءً من غانا. في تلك الحقبة كانت أفريقيا تحتلّ موقعًا كبيرًا في المخيال الأميركي على خلاف اليوم تمامًا. ويتحدث بالدوين أيضًا عن نبض فخرٍ قوي شعر به الأميركيون الأفارقة وهم يرون صور نكروما أو لقطاتٍ له ينزل سلّم طائرة أفريقية يقودها طيّارون سود.
هوارد فرنش: فوجئت القوى الأوروبية كلها بقوة النزعة الأفريقية المؤيدة للاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، وبالصعود السريع لحركات التحرّر. وحين أدركت بأزمنة متفاوتة أن لا سبيل إلى إعادة عقارب الساعة، أرادت أكل الكعكة والاحتفاظ بها معًا: أي ترسيخ نخبٍ توفيقية كما حدث مع ج.ب. دانكوا في غانا، أو الدفع نحو ترتيبات تمنح استقلالًا شكليًا مع إبقاء السيطرة الفعلية على أهم الروافع: الخزانة والأمن والعلاقات الخارجية… إلخ. جرّبت بريطانيا وفرنسا وبلجيكا هذا المسار. كان ساحل الذهب ثاني أهم مصادر العملة الصعبة لبريطانيا المنهَكة اقتصاديًا بعد الحرب مباشرة، ولم ترد لندن خسارته، ولا أن ترى غانا تُصنّع لأن ذلك يُعزّز استقلالها ويضرّ بالمصالح البريطانية. وفي مطلع الستينيات، في عهد كينيدي، أصبحت الولايات المتحدة اللاعب الأهم في تحديد موقع غانا عالميًا. والإجابة هنا لا بد أن تكون مكثفة، لكن كينيدي كان عمومًا متعاطفًا سياسيًا مع استقلال أفريقيا ومع نكروما شخصيًا. مع ذلك لعبت واشنطن دورًا ملتبسًا في دعم أجندته الصناعية. فقد كبحت الدعم الدولي لتمويل سدّ أكوسومبو الذي أراده كهرباءً رخيصة للتصنيع، وبسبب اعتبارات الحرب الباردة حجبَت الضمانات الأخيرة للقروض حتى قُبيل نهاية حكمه.
هوارد فرنش: خلصتُ خلال العمل على الكتاب إلى أنّ دعم نكروما القوي والمبدئي لباتريس لومومبا كان حجر الزاوية في توتّر علاقته بالغرب. فقد اعتقد فريق الأمن القومي لإيزنهاور، خطأً، أنّ لومومبا شيوعي. واستخدم نكروما رصيده السياسي والاقتصادي لمساندته، فأرسل بعض أوائل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إلى الكونغو، وألقى خطابات مؤثّرة على منبر الأمم المتحدة، وسعى إلى اتحادٍ سياسي مع الكونغو، فأثار ذلك غضب جهاز الأمن الأميركي عليه فورًا، وعلى المدى البعيد، وامتد ذلك إلى إدارتي كينيدي وجونسون.
هوارد فرنش: أختم الكتاب بما أسميه "حيوات نكروما اللاحقة"، وهي كثيرة ومتجددة. أحد خيوطها يتعلّق بالموجة الحديثة لمشروع "العودة إلى أفريقيا"، ذلك الحلم الذي ألهم السود في الشتات منذ القرن التاسع عشر؛ أستحضر فيه شخصيات متباينة مثل: ستوكلي كارمايكل ومايا أنجيلو، وتجارب مفكرين كبار أقاموا في غانا كديفيد ليفرينغ لويس. خيطٌ آخر يقود إلى جوليوس نيريري الذي على الرغم من خلافاته مع نكروما أُعجب به، وتعلّم كثيرًا من تجربة غانا، ثم انتهى في أواخر حياته إلى احتضانه تقريبًا بلا تحفظ كبطل. وأتحدث أخيرًا عن توماس سانكارا الذي كان يبلغ الثامنة من عمره حين استقلت غانا، ويمكن النظر إليه في جوانب مهمة بوصفه وريثًا سياسيًا لخط نكروما. أروي بإيجاز كيف تعرّفت إليه في بدايات حكمه حين كنت صحفيًا شابًا. هذه المقاطع كانت من أمتع ما كتبت، وآمل أن يلمس القرّاء ذلك.