الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
ظلّت العلاقة بين إثيوبيا وكينيا، لعقودٍ طويلة، محكومةً بظلال التنافس الإقليمي، إذ شكّل التداخل الحدودي المعقّد واختلاف التوجهات الاستراتيجية عقبتين أمام بناء شراكة مستقرة بينهما. غير أن التحولات العميقة التي شهدها القرن الأفريقي في السنوات الأخيرة، دفعت البلدين إلى إعادة صياغة مقاربتهما. فمن مرحلة التنافس على النفوذ ومسارات التجارة، انتقلت نيروبي وأديس أبابا إلى مرحلةٍ جديدة من التنسيق العسكري والاستخباراتي، في مسعى لصياغة رؤية مشتركة للأمن الإقليمي تقوم على التعاون والاستجابة للتهديدات العابرة للحدود.
وقّعت إثيوبيا وكينيا في 24 سبتمبر/أيلول 2025 اتفاقًا دفاعيًا مشتركًا في أديس أبابا، وُصف بأنه تطور محوري في بنية الأمن الإقليمي لشرق أفريقيا. تمثل الاتفاقية تحولًا نوعيًا في طبيعة العلاقات بين البلدين، إذ تنتقل من التعاون الحدودي التقليدي إلى شراكة أمنية متكاملة، تشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق برامج التدريب العسكري المشترك.
ينص الاتفاق على أن تتولى الوحدات السيبرانية الإثيوبية تدريب فيلق الإشارات الكيني على تقنيات تشويش إشارات الطائرات المسيرة، إلى جانب التعاون في تطوير أنظمة استشعار حدودية، وتعزيز التوافق العملياتي في مجالات التصنيع العسكري ومكافحة الإرهاب وحماية الحدود. وتُبرز بنود الاستجابة السريعة الطابع العملي للاتفاق، إذ تتيح إمكانية نشر قوات مختلطة في غضون ساعات بدعم من مراقبي مجموعة شرق أفريقيا، في خطوة تُعبّر عن تحوّل في التفكير الأمني الإقليمي نحو إنشاء آليات تدخل فاعلة قادرة على احتواء التهديدات المتصاعدة ضمن بيئة إقليمية معقدة.
يمكن فهم الاتفاق بوصفه خطوة لإعادة تشكيل توازنات الأمن في شرق أفريقيا، في وقت تراجعت فيه المظلة الدولية وتصاعدت الحاجة إلى حلول إقليمية
جاءت الاتفاقية في سياق أمني متوتر تصاعدت فيه تهديدات حركة الشباب الصومالية على طول الحدود الكينية–الصومالية، حيث كثّفت الحركة منذ عام 2022 هجماتها ضد المواقع الحدودية. ففي مارس/آذار 2025 شنّت هجومًا على معسكرٍ للشرطة الكينية أسفر عن مقتل ستة ضباط، ما دفع السفارة الأمريكية في نيروبي إلى إصدار تحذيرٍ لمواطنيها من السفر إلى المناطق الحدودية.
أمام هذه التهديدات، سعت كينيا إلى تعزيز تحالفها مع إثيوبيا لضمان أمن حدودها الشمالية، والحد من تهريب السلاح، وتسلل المقاتلين عبر المناطق الهشة. وفي المقابل، وجدت إثيوبيا في الاتفاق فرصة لإعادة تأهيل جيشها المنهك جراء صراعات تيغراي وأمهرة، واستعادة مكانتها كقوة مؤثرة في القرن الأفريقي.
في هذا الإطار، يرى ماغنوس تايلور، الباحث في شؤون القرن الأفريقي بمجموعة الأزمات الدولية، أن تراجع التمويل الغربي لبعثات حفظ السلام في الصومال دفع كلًا من كينيا وإثيوبيا إلى تبني مقاربة أكثر استقلالية في التعامل مع التهديدات الأمنية، عبر تعزيز التعاون الثنائي، وإعادة تعريف أدوار القوى الإقليمية. ومن هذا المنظور، يمكن فهم الاتفاق بوصفه خطوة لإعادة تشكيل توازنات الأمن في شرق أفريقيا، في وقت تراجعت فيه المظلة الدولية، وتصاعدت الحاجة إلى حلول إقليمية.
تنظر الصومال إلى التوافق العسكري بين كينيا وإثيوبيا بوصفه خطوة تحمل فرصًا ومخاطر معًا. فمن جهة، يعزز هذا التفاهم جهود مكافحة حركة الشباب في ظل تراجع فاعلية بعثة الاتحاد الأفريقي. ومن جهة أخرى، يثير مخاوف مقديشو من توسّع الوجود العسكري الإثيوبي قرب حدودها أو داخل البعثة، ما يعيد حساسية التدخل الإثيوبي إلى الواجهة.
تتهم مقديشو نيروبي وأديس أبابا باستغلال مشاركتهما في "أوصوم" لخدمة مصالحهما. فكينيا تدعم إدارة جوبالاند الحدودية، بينما تستخدم إثيوبيا وجودها لترسيخ نفوذها داخل الولايات الفيدرالية. ومع ضعف قدرة الاتحاد الأفريقي على إدارة البعثة، تخشى نيروبي وأديس أبابا تراجع نفوذهما.
زادت التوترات بعد محاولة مقديشو استبعاد القوات الإثيوبية، ودعوتها مصر للانضمام، وتضييقها على القوات الكينية. وهكذا تحوّلت البعثة، في ظل أزمة التمويل وغياب التنسيق، إلى ساحة تنافس إقليمي تهدد بتحويلها من أداة لحفظ السلام إلى ترتيبات متضاربة تزيد الانقسام.
وصف رئيس قوات الدفاع الإثيوبية، المشير بيرهانو جولا، الاتفاق مع كينيا بأنه خطوة لا تهدف فقط إلى تعزيز السلام بين البلدين، بل إلى ترسيخ استقرار أوسع في منطقة القرن الأفريقي. ومع ذلك، فإن هذا التفاؤل يصطدم بواقع أكثر تعقيدًا، إذ يظل القرن الأفريقي بعيدًا عن أي هيكل أمني قابل للاستمرار. ومن ثم، يُنظر إلى الاتفاق باعتباره محاولة جزئية لملء هذا الفراغ الأمني، أكثر من كونه تحولًا مؤسسياً نحو نظام إقليمي مستدام.
لا يمكن فصل التقارب الإثيوبي الكيني عن سياق التنافس الجيوسياسي الأوسع في منطقة شرق أفريقيا، حيث يتقاطع مع إعادة تموضع القوى الإقليمية الفاعلة. ففي يناير/كانون الثاني 2025، وقّعت القاهرة ونيروبي 12 اتفاقية شراكة وُصفت بأنها استراتيجية، بحسب وصف الرئيس الكيني روتو على منصة X، في إشارة إلى التزامٍ متبادل بتعميق التعاون الاقتصادي والأمني.
جاء الانفتاح المصري على كينيا مع اشتداد الخلاف حول سد النهضة الإثيوبي، وما ترتب عليه من إعادة تعريفٍ لمصادر التهديد للقاهرة، التي اتجهت إلى تعزيز حضورها في البحر الأحمر بوصفه خط إمدادٍ حيويًا مرتبطًا بالأمن الاستراتيجي. وتجلّى هذا التحوّل في الشراكات البحرية التي أُبرمت بين هيئة ميناء لامو وهيئة ميناء الإسكندرية، وكذلك بين هيئة ميناء البحر الأحمر وهيئة موانئ كينيا، بما يعكس توجهاً مصرياً نحو توسيع النفوذ في شرق أفريقيا.
هذا الانكفاء الداخلي أفضى إلى تراجع دورها الإقليمي، وفتح المجال أمام كينيا لتتبوأ موقعًا أكثر بروزًا في المشهد الإقليمي
وذلك بعد أقل من خمسة أشهر على توقيع اتفاق التعاون العسكري بين مصر والصومال في أغسطس/آب 2024، حيث أرسلت القاهرة طائراتٍ محمّلة بالأسلحة والذخيرة إلى مقديشو، في رد على الاتفاق بين إثيوبيا وإقليم صوماليلاند، الذي منح أديس أبابا حق استئجار منفذٍ بحري مقابل اعترافٍ محتملٍ باستقلال الإقليم عن الصومال. وقد رأى تقريرٌ لرويترز أن هذا التفاعل المتسارع بين القوى يعكس ملامح حربٍ بالوكالة تلوح في الأفق بين القاهرة وأديس أبابا.
يُنظر في السودان ومصر إلى التحالف الإثيوبي الكيني كجبهة جديدة تدعم موقف أديس أبابا في ملف سد النهضة. حيث تجاوز الجوانب الفنية نحو إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي. ترافق التحالف مع زيارة رئيس أرض الصومال عبد الرحمن عرو إلى أديس أبابا في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2025، التي أعادت العلاقات بين الجانبين بعد أشهر من الجمود عقب انهيار اتفاق القاعدة البحرية. يضع هذا التقارب الإثيوبي مع دول الجوار، ضغوطًا متزايدة على مصر والسودان لإحياء تحالفاتهما، خصوصًا مع الصومال وإريتريا، لبناء توازن مضاد أمام التمدد الإثيوبي.
تحظى التطلعات الإثيوبية للوصول إلى البحر الأحمر بدعم غربي متزايد، إذ ترى واشنطن والعواصم الأوروبية أن وجود أديس أبابا على البحر الأحمر يعزز الأمن الإقليمي، ويحمي المصالح الغربية في الممرات البحرية. لذلك، يشجع الغرب التقارب الإثيوبي الصومالي لتجنب مواجهة محتملة بين البلدين تهدد الاستقرار. وبالمنطق ذاته، تدعم القوى الغربية التحالف الإثيوبي الكيني باعتباره خطوة نحو منظومة أمنية في شرق أفريقيا.
يضفي البعد التاريخي للاتفاق الدفاعي بين إثيوبيا وكينيا عمقًا إضافيًا على دلالاته المعاصرة؛ إذ إن البلدين كانا وقّعا اتفاقًا مشابهًا عام 1963، عقب استقلال كينيا، ركّز حينها على مناهضة الاستعمار وتعزيز التضامن الإقليمي، غير أن هذا التعاون تلاشى سريعًا في خضم تحالفات الحرب الباردة، حين اتجهت أديس أبابا نحو المعسكر الشرقي تحت حكم منغستو هايلي ونظام الديرغ، بينما انحازت نيروبي إلى الغرب.
يُنظر إلى الاتفاق باعتباره محاولة جزئية لملء هذا الفراغ الأمني، أكثر من كونه تحولًا مؤسسياً نحو نظام إقليمي مستدام
انشغلت إثيوبيا في السنوات الأخيرة بصراعاتها الداخلية، ولا سيما الحرب في إقليم تيغراي وتنامي حركات التمرد في أوروميا، ما استنزف مواردها وأضعف قدرتها على الحفاظ على نفوذها التقليدي في القرن الأفريقي. هذا الانكفاء الداخلي أفضى إلى تراجع دورها الإقليمي، وفتح المجال أمام كينيا لتتبوأ موقعًا أكثر بروزًا في المشهد الإقليمي.
في هذا السياق، شكّلت زيارة الرئيس الكيني ويليام روتو إلى واشنطن في مايو/ أيار 2024 نقطة تحول مفصلية، إذ استقبله الرئيس الأمريكي حينها جو بايدن في البيت الأبيض، وأعلن منح كينيا صفة حليف رئيسي من خارج الناتو، لتكون بذلك أول دولة من أفريقيا جنوب الصحراء تحظى بهذا التصنيف. وقد مثّل هذا الاعتراف الأمريكي تتويجًا لدور كينيا المتنامي في السياسة الإقليمية، ورسالة ضمنية عن تحوّل موازين النفوذ في شرق أفريقيا، حيث انتقلت بؤرة الثقل من أديس أبابا إلى نيروبي.
مع ذلك، شهدت العلاقات بين كينيا وإثيوبيا منذ عام 2018 مسارًا تصاعديًا بفضل جهود رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الذي سعى إلى إعادة بناء الثقة الإقليمية. وقد شكّلت العمليات المشتركة لمكافحة الإرهاب في منطقة جوبالاند الصومالية أحد أبرز مظاهر هذا التقارب، إذ أسفرت عن تبادل معلومات استخباراتية تكتيكية ساهمت في إحباط مؤامرة نيروبي عام 2024، ما عزز القناعة لدى الجانبين بأن التنسيق الأمني الثنائي يمثل ضرورة استراتيجية تتجاوز الحدود الوطنية نحو استقرار أوسع في القرن الأفريقي.
كما ساهم مشروع الممر الاقتصادي (LAPSSET)، الذي يشمل إنشاء ميناء يضم 32 رصيفًا في خليج ماندا بمدينة لامو وخط سكة حديد يربط لامو بجوبا وأديس أبابا، في تعزيز التعاون الاقتصادي والاستراتيجي بين نيروبي وأديس أبابا. وتأتي الاتفاقية الدفاعية الأخيرة أيضًا في هذا السياق، إذ تخدم جزئيًا الطموحات البحرية الإثيوبية، حيث يتيح تعزيز العلاقات مع كينيا لأديس أبابا تنويع ممراتها التجارية عبر مينائي لامو ومومباسا، بما يقلل اعتمادها على جيبوتي ويحد من نفوذها الاقتصادي في التجارة الإثيوبية.
إن نجاح التحالف الدفاعي بين إثيوبيا وكينيا يتوقف على قدرتهما في توفير الدعم المالي اللازم في ظل التحديات الاقتصادية المتفاقمة التي يواجهانها، إذ تعاني إثيوبيا من ارتفاع الديون وتراجع احتياطات النقد الأجنبي، ما دفعها إلى تقليص الإنفاق العسكري المباشر، بينما تواجه كينيا أزمة مديونية حادة تقيد قدرتها على تمويل التزاماتها الدفاعية. غير أن نجاح هذه الشراكة سيعتمد في نهاية المطاف على مدى قدرة الطرفين على تحويل التعاون العسكري إلى رافعة لاستقرار المنطقة، بدلًا من أن يظل مجرد اصطفاف ظرفي في سباق النفوذ الإقليمي.