الثلاثاء 25 مارس 2025
لا يمكن فصل حركة كشوف أفريقيا ثم استعمارها من قبل القوى الأوروبية، نهاية القرن التاسع عشر بأي حال من الأحوال عن نهضة سابقة بقرون، ثم موازية في علم رسم الخرائط الكارتوغرافيا ""cartography الذي شهد بدوره تقدمًا حثيثًا ومذهلًا، على مدار قرون ممتدة، ومن مصادر متنوعة، لاسيما في عالم البحر المتوسط منذ الخرائط التي وضعت على يد جغرافيين بمدينة الإسكندرية، عقب تأسيسها ومكتبتها (القرن الرابع ق.م)، وتضمنت تحديدًا لمسار نهر النيل، حتى اكتمال كشف النيل بشكل دقيق للغاية، مع تطور المعارف الجغرافية في القرن التاسع عشر.
تكشف مقارنة تجسيد هذه الخرائط لمصر وأقاليمها ومدنها بل وتخومها بتجسيدها "لمملكة الحبشة" عن التفاوت الزمني الكبير في معرفة تلك الخرائط بجغرافية مصر على نحو واضح، ربما لاعتبارات القرب الجغرافي وتوفر تراث كلاسيكي (يوناني روماني، وإسلامي هائل لوصف مصر ونيلها)، فيما اضطرب تصوير الحبشة بين مساحات شاسعة تمتد حتى نهاية الأرض (حسب تصورات خرائط تلك فترة) إلى وصفها في خرائط الاستعمار الأوروبي بمملكة القس يوحنا Presbyter John (التي ذاع في القرن الثاني عشر وجودها في آسيا)، رغم غرائبية الفكرة، وتعبيرها بشكل غير مباشر عن كيان سياسي غامض في واقع الأمر.
تظهر مواجهة كارتوغرافيا الاستعمار، ستارا من السرية يفرض بقدر الإمكان على هذه المعلومات الجغرافية المتراكمة والمواكبة لتطور الأول في إيطاليا في عصر النهضة (قبل نجاح البرتغال في استقطاب نخبة المتخصصين في الكارتوغرافيا للعمل في خدمة البلاد البرتغالي)، ثم تزامنه مع حركة الكشوف البرتغالية الكبرى منذ نهاية القرن الخامس عشر، أو ما عرف بعصر الكشوف الجغرافية.
كانت البعثات التي يرسلها البرتغاليون منظمة منذ البداية من قبل التاج، ولاسيما تحت إمرة الأمير هنري الملاح ويوحنا الثاني (Joao II) في الفترة 1420-1495 تقريبًا. وأكد التاج البرتغالي على وجوب أن تكون جميع المعلومات الجغرافية، وسبل الملاحة، والخرائط المرسومة باليد والدوريات (أو الحوليات)، وتفاصيل السلع والحمولة والأوضاع السياسية والأرباح وما إلى ذلك، بعيدة عن متناول البحارة أنفسهم في الدول الأخرى. وكانت المصادرة الفورية ثم التخلص مصير كل المعلومات التي يعثر عليها. كما اعتمد التاج البرتغالي بشكل موسع على إرسال الجواسيس إلى الدول البحرية الأخرى، مثل: فينيسيا وإنجلترا للحصول على أية معرفة جغرافية متاحة، وتوظيفها في حركة التوسع البرتغالي وصولًا إلى الهند.
لقد كانت خريطة الشريف الإدريسي (أبو عبد الله محمد السبتي) للعالم، والتي وضعها في العام 1154 لصالح حاكم صقلية، النورماندي الملك روجر الثاني، والتي جاءت في مؤلفه الذائع الذي حمل عنوان "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، من أهم الخرائط وأدقها للعالم، في وقتها، بناء على طلب أحد الملوك، وبعد مداولات موسعة مع علماء دولته، ولغرض واضح وهو التوسع التجاري ونشر الكاثوليكية.
جاءت خريطة الإدريسي مصحوبة بمؤلف هام قدم وصفًا موسوعيًا لأقاليم العالم المعروفة حينذاك، وظل مصدرًا معتبرًا ورئيسًا للمعرفة الجغرافية، في عالم القرنين الثاني عشر والثالث عشر (على أقل تقدير). ولم يكن الإدريسي بطبيعة الحال أول من حاول من المسلمين وضع خرائط دقيقة مستندة لمعرفة موسعة، فقد سبقه علماء مدققون مثل: محمد بن موسى الخوارزمي (ت. 847م) الذي وضع خريطة للنيل (تحتفظ بها المكتبة الوطنية والجامعية في ستراسبورج، صورت النيل من اليمين إلى اليسار (عوضًا عن الجنوب إلى الشمال)، حيث جاء من اليمين منبع النيل من جبل القمر (الذي سيذكره الإدريسي، وغيره من كبار الرحالة والجغرافيين) وصولًا إلى الإسكندرية على البحر المتوسط في أقصى يسار الخريطة.
لكن لإسهام الإدريسي أهمية خاصة في سياق العمل الحالي، كونه ارتبط بالأساس بالبيت الحاكم في صقلية (حسبما أوضح الإدريسي ذلك في مقدمة مؤلفه)، ومجمل التحركات الأوروبية اللاحقة تجاه مصر، ومن ورائها الدول والممالك المطلة على نهر النيل. وبدت معرفة الإدريسي بمصر سليمة للغاية وبالغة الدقة، فيما لم تشر الخريطة بشكل واضح إلى مملكة حبشية بل إلى منابع النيل من جهة "جبل القمر".
كان من أولى الخرائط الأوروبية التي تضمنت بشكل واضح "إثيوبيا"، حاملة اسم القس يوحنا للدلالة على هذه الدولة، خريطة رسام الخرائط الفلمنكي أبراهام أورتيليوسAbraham Ortelius (1528- 1598) ، والتي نشرت في أنتويرب (Antwerp)، في سبعينيات القرن السادس عشر، ضمن مؤلفه الشهير "مسرح العالم"، الذي عَده الجغرافيون أول أطلس جغرافي حديث، وترجمته إليزابيث تانفيلد كاري (E. Tanfield Cary) إلى الإنجليزية بعنوان "مرآة العالم" (The Mirror of the Worlde)،وقدم ليسلي بيترسون له بدراسة ومقدمة ضافية، وحمل البيان الموقع على خريطة إثيوبيا جملة "وصف إمبراطورية القس يوحنا أو الأحباش.
قدم أورتيليوس وصفًا موجزًا لمصر بأنه يحدها من الشرق البحر الأحمر، ومن الغرب بلاد برقة وصحراء ليبيا، ومن الشمال البحر المتوسط. ويجرى أشهر أنهار العالم وهو النيل في طول البلاد. وتوجد مدينة القاهرة، التي كان يطلق عليها بابليون (في حي مصر القديمة بالقاهرة حاليًا)، وتعد من أعظم مدن العالم، وهي مقعد (أو عاصمة) هذا النهر، وتوجد عند طرف نهاية النهر مدينة الإسكندرية. ولطالما كتب كتاب قدامى من أمثال: ديودوروس هيرودوتس، وسترابو، وبلينيوغيرهم عن عجائب تلك المدينة. وفي مصر أعمال عظيمة تثير الإعجاب مثل الأهرامات القريبة من مدينة القاهرة، والمسلات الضخمة التي نقل بعضها إلى روما. والأهرامات الضخمة بالغة الارتفاع التي أقامها ملوك مصر، الذين كان يطلق عليهم الفراعنة لعبادته.
يطلق عليها الأوروبيون خزائن يوسف، اعتقادًا منهم أن فرعون قد أمر البطريرك يوسف ببنائها لتخزين الحبوب في الأعوام السبعة العجاف. لكن يبدو أن ضيق الأهرامات من الداخل يفند هذه الرواية. وكتب بليني أن الهرم الأكبر قد بناه 3060 شخص في عشرين عامًا متصلة، وأن بقية الأهرامات بنيت خلال 78 عامًا وأربعة أشهر.
في المقابل ورد وصف موجز للحبشة أو "إمبراطورية القس يوحنا" في عمل أورتيليوس، إذ وصفها بالإقليم المرتفع والحصين بحكم الطبيعة، ويقع إلى جنوب جبال القمر (التي شاع في المصادر الكلاسيكية والإسلامية أن نهر النيل ينبع منها، باختلاف تقديرات موقعها إلى خط الاستواء)، ويقع داخل حدود إثيوبيا إقليم تزرع فيه القرفة، وجزء من داخل ليبيا، والسكان ذوي بشرة مصفرة، ويطلقون على أنفسهم الأحباش، واسم أميرهم نجاشي (Neguz) وهو الإمبراطور أو الملك.
هناك القس يوحنا والذي يعد من أعظم حكام عصرنا، وهو يعتنق الدين المسيحي، ويغير الحكام (من نسل يوحنا) أسماءهم، كما في عرف الأساقفة الرومانيين... وهناك عدد هائل من الأديرة مملوءة بالرجال والنساء، لكن دون اختلاط، ويسمح بطلاق النساء من الرجال. كما يختنون النساء والرجال على حد السواء، ويتم التعميد بعد 40 يومًا من الميلاد. ويحظى الأطفال بأسماء طيبة، ولديهم كتاب ينقسم على ثماني مجلدات، ويوقنون تمام اليقين أنه كتب على يد الرسل في بيت المقدس، ويقومون بأداء الطقوس، وفق هذا الكتاب بعناية فائقة. وهناك لا تستخدم الفضة، ولديهم ذهب مصقول، لكن لا تستخدم كعملة، وتتم مبادلة الملح بأية سلعة أخرى، وكذلك الأسماك. وهناك جميع أنواع الوحوش مثل الفيلة والأسود والفهود والذئاب ...". كما استبدل أورتيليوس وصف "بلد القس يوحنا" بإثيوبيا أو الحبشة عند تناوله جغرافية القارة الأفريقية بشكل عابر، مما يوحي باقتناعه أن مملكة القس يوحنا تمثل جزءًا من الحبشة وليس العكس.
لمدة تتجاوز المائة عام بعد وضع أورتيليوس خريطته، تم رسم الكثير من الخرائط (المعنية بالحبشة وأعالي نهر النيل بشكل غير مباشر أو دقيق حسب المعرفة المتاحة وقتها بهذه المناطق) بالأساس استنادا إلى خريطة أورتيليوس بشكل كبير، مع الاكتفاء بإدخال تعديلات طفيفة. وبشكل خاص، فإن النيل الأزرق أو أباي ظل واضحًا في الخرائط على أنه يتدفق من الطرف الشمالي لبحيرة "زالفان" (Zalfan)التي وضعتها الخريطة عند جنوب خط الاستواء، رغم أن زوارا كثيرين لإثيوبيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر قد رأوا بأعينهم تدفق النهر من الطرف الجنوبي للبحيرة، ودونوا تلك الحقيقة في سردهم لزياراتهم للحبشة.
باختصار، إن رسامي الخرائط الأوروبيين اكتفوا إلى حد كبير بمواصلة نسخ الخريطة من بعضهم البعض، بدلًا من الجنوح إلى رسم خرائط جديدة، وفق المعلومات المتواترة من الحبشة في العقود المتعاقبة بعد 1560. وعلى سبيل المثال، فإنه عند نشر وليام جانسزون بلاو Willem Janszoon Blaeu لخريطة في مؤلفه الذي حمل اسم إثيوبيا العليا أو الداخلية، المعروفة بإمبراطورية الأحباش أو القس يوحنا (1635)، فإنه لم يقم في واقع الأمر بإدخال أية تغييرات، بل واحتفظ باسم كاسوميا (Cassumia) عند إشارته لمدينة كانت لا تزال مجرد أنقاض، فيما يدل على إشارته لمدينة أكسوم المعروفة (والتي دمرت على يد الملكة اليهودية يوديت في القرن العاشر الميلادي في بداية عهد أسرة زاغو حسب الروايات الإثيوبية الدارجة). كما أن خرائط بلاو، وإن كانت مرسوم بشكل جميل للغاية، فإنها لم تكن سوى مجرد نسخ للخرائط المتوفرة بالفعل عن إثيوبيا منذ أكثر من قرن(.
يمكن القول إن تطورات حركة رسم خرائط مصر والهضبة الحبشية وأقاليم نهر النيل كانت مصحوبة بالاهتمام الأوروبي الواضح بوجود مملكة مسيحية في الحبشة (سواء مملكة القس يوحنا ام غيرها بقيادة ملك مسيحي)، وكذلك بتوقعات أوروبية باتساع مفرط لهذه المملكة ومواردها المعدنية الكبيرة خارج الهضبة الحبشية (خلافًا للواقع التاريخي، واتساقًا مع استمرار الوقوع في أسر تخيل وجود تقارب جغرافي بري بين الهند والحبشة بفواصل بحرية محدودة للغاية)، وإشارة تلك الخرائط لأية شعوب مجاورة بأنهم رعايا للإمبراطورية الحبشية. كما أن هذه الحركة كشفت عن معرفة عميقة ودقيقة بمصر مقابل غلبة الغموض على تصوراتها للهضبة الحبشية حتى منتصف القرن الثامن عشر على أقل تقدير، مما يشير إلى فجوة معرفية تقترب من ألفي عام تقريبًا بين معرفة الأوروبيين الدقيقة بمصر كدولة متوسطية، وبالحبشة كدولة أفريقية باتت لاحقًا، وفي سياق تفاعلات الاستعمار في القارة، رمزًا لا يبارى للدولة الوطنية الأفريقية وتاريخها وإرثها.