تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 17 مارس 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
ثقافة

محمد طاهر أفرح: أيقونة الأدب الصومالي بين التقليد والتجديد

10 مارس, 2025
الصورة
geeska cover
Share
يفرد جيسكا، ضمن جهده لإلقاء الضوء على منطقة القرن الأفريقي، هذا الجزء الرابع من السلسلة لتناول إسهامات محمد طاهر أفرح، الأب الفعلي للرواية الصومالية الحديثة. يناقش أفرح في أطروحته "بين الاستمرارية والابتكار" تحولات الشعر والمسرح الصومالي بعد الاستقلال، مسلطًا الضوء على تأثير الحركات القومية والسياسية على الأدب. يتناول البحث قضايا الهوية واللغة، مبرزًا التفاعل الأدبي بين الصومال وجيرانه. من خلال أعماله الروائية والمسرحية والنقدية، يظل أفرح مرجعًا رئيسيًا لفهم تحولات الأدب الصومالي في العصر الحديث لا يمكن تجاوزه.

في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2021 توفي في لندن الدكتور محمد ظاهر أفرح. يُعد شخصية بارزة في الأدب واللسانيات الصومالية، وُلِد عام 1952 في جرييبان بمنطقة مدغ، حيث انتقل من حياة الرعي إلى التفوق الأكاديمي. تابع تعليمه المبكر في مقديشو، قبل أن يحصل على شهاداته من جامعة عدن، ثم درجة الماجستير والدكتوراه من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) بجامعة لندن.

اشتهر أفرح بأعماله الأدبية، وكتب بعضًا من أهم الروايات الصومالية، بما في ذلك "مانا فاي"، التي تُعتبر تحفة أدبية ذات عمق فني متميز. كتب بإتقان باللغات الصومالية والعربية والإنجليزية، وأسهمت أعماله بشكل كبير في تطوير الأدب الصومالي. فضلا عن الأدب، الرجل لعب دورًا هامًا في السياسة الصومالية، وتطوير اللغة، حيث أسهم في عمليات السلام، وعمل مستشارًا حكوميًا، وقاد مؤسسات مثل: أكاديمية اللغة والأدب الصومالي.

أثار خبر وفاته موجة من الحزن العميق، حيث نعاه العديد من المثقفين والقادة الصوماليين، مشيدين بإرثه العظيم، وتأثيره البالغ على اللغة والثقافة والهوية الصومالية. إذا نظرنا إلى حياة المرحوم أفرح، نرى فيه علامة على الجهد المتواصل والنشاط المثمر.

كان هذا جهدًا متواصلًا على مدى نصف قرن من الزمان، وكان له تأثيره على الكتابة والإبداع الأدبي الصومالي. وقد تميز بإنجازاته التي خلفت إرثًا علميًا كبيرًا سيظل ينتقل إليه. لذا أصبح محمد ظاهر أفرح جزءاً من التقليد الطويل والعريق الذي جعل منه أيقونة حية، أو بعبارة الصومالين "لم يمت بل اختبأ" [“Ma dhimane wuu dhuuntay”] أو كما يقول العرب: "لا يموت من ترك أثراً."

لقد  كان أفرح رائدًا في إرساء دعائم الرواية الصومالية الحديثة، كما أسهم في النقد الأدبي من خلال مقالاته وأبحاثه حول المسرح والأدب الصومالي. فضلا عن ذلك، لعب دورًا بارزًا في إثراء اللغة الصومالية المكتوبة، من خلال تأسيسه وإدارته لمجلات وصحف، مثل: "Codka Jubba" و"Hal-abuur"، إلى جانب تنظيمه فعاليات لتعزيز القراءة والكتابة. كما كن له دور ريادي في تأسيس مؤسسات أدبية وثقافية، مثل: نادي القلم الصومالي "Somali-Pen"، والمجمع الإقليمي للغة الصومالية "AGA"، وساهم أيضا في إنشاء لجنة اللغة الصومالية ضمن الأكاديمية الإفريقية للغات "ACALAN".

على عكس الشعر، لم يُولِ الباحثون اهتمامًا كافيًا بدراسة المسرح الصومالي، رغم أهميته. ومن الجوانب التي تستحق الدراسة في هذا المسرح هو مزجه بين عناصر مختلفة أحيانًا من مصادر متناقضة: التقليدية والحديثة، المحلية والأجنبية، الهزلية والجادة

في هذا السياق، نحاول تقديم لمحة عن أطروحة محمد طاهر أفرح الموسومة ب"بين الاستمرارية والابتكار: الطبيعة الانتقالية للشعر والمسرح الصومالي بعد الاستقلال من الستينيات إلى الوقت الحاضر"، والتي تعد بحق دراسةً معمقة حول التحولات التي شهدها الأدب الصومالي في العقود التي تلت الاستقلال.

يجمع هذا الكتاب بين التحليل الأكاديمي والرؤية النقدية، مبرزا التفاعل بين التقليد والحداثة في سياق التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي طرأت على البلاد. ومن خلال قراءة معمقة لهذا العمل، يمكن أن نفهم كيف استطاع الأدب الصومالي التكيف مع تحديات العصر، مع الحفاظ على هويته الثقافية.

الأدب الصومالي بعد الاستقلال

لطالما ارتبط الأدب الصومالي بالتقاليد الشفوية، حيث شكل الشعر حجر الزاوية في التعبير الثقافي والاجتماعي والسياسي. كان الشعر وسيلة للتواصل، وتوثيق الأحداث، ونقل القيم المجتمعية، والتعبير عن الهوية الوطنية. لكن مرحلة ما بعد الاستقلال جلبت تحديات جديدة، فرضتها التحولات الحضرية والتطور التكنولوجي وانتشار التعليم، مما أدى إلى إعادة تشكيل المشهد الأدبي.

يرى أفرح أن الاستقلال لم يكن مجرد حدث سياسي، بل لحظة فاصلة أثرت بشكل عميق على الهوية الثقافية للصومال. فقد أدى الاستقلال إلى تزايد الوعي بأهمية اللغة الصومالية المكتوبة، حيث تم تبني الأبجدية اللاتينية عام 1972، وقد ساهم ذلك في توثيق الأدب الصومالي، ونقله من الشفوية إلى الكتابة. مع ذلك، فهذا التحول لم يكن سلساً، حيث واجه مقاومة من بعض الأوساط الثقافية التي رأت في الكتابة تهديداً للتراث الشفوي.

بين التقليد والحداثة: استمرارية الشعر وتطوره

يركز أفرح على العلاقة بين التقليد والحداثة في الشعر الصومالي، موضحاً أن هذه العلاقة لم تكن تنافسية بقدر ما كانت تكاملية. فقد احتفظ الشعر بدوره كمصدر رئيسي للهوية الثقافية، وإن شهِد تحولات في الشكل والأسلوب والمحتوى.

كان الغَبَي (gabay)  أحد الأشكال الشعرية التقليدية التي تتميز بأسطرها الطويلة وبنيتها المحكمة، والتي تعتبر فنا نخبويا يتطلب مهارة لغوية عالية. لكن أن العقود الأخيرة شهدت تراجع هيمنته لصالح أشكال شعرية أخرى أكثر بساطة، مثل الجيتفو (jitfto)، الذي يتصف بقصر أبياته وسهولة تداوله بين فئات المجتمع المختلفة. يجادل أفرح بأن هذا التحول يعكس استجابة الشعر الصومالي للمتغيرات الاجتماعية، حيث لم يعد الشعر مقتصراً على النخبة الثقافية، بل أصبح أكثر شعبية وانتشاراً بين مختلف الفئات.

بينما في الغرب الصناعي يبدو أن الشعر – وخاصة ما يُعتبر شعرًا جادًا – قد أُبعد إلى هامش المجتمع، فإن الشعر الشفوي الصومالي يحتل مكانة مركزية في حياة الصوماليين، حيث يتداخل بعمق في تفاصيل حياتهم اليومية

كما أثر ظهور وسائل الإعلام، مثل الإذاعة والتلفزيون، على تطور الشعر الذي أصبح يُستخدم في الأغاني، مما أضفى عليه طابعاً جماهيرياً. لم يعد الشعر مجرد أداة لنقل الحكمة والتقاليد، بل أصبح وسيلة للتعبير عن قضايا اجتماعية وسياسية ملحة، مثل: الحرب الأهلية واللجوء والهوية في الشتات.

المسرح الصومالي: من الشفوية إلى التوثيق

إلى جانب الشعر، يحلل أفرح تطور المسرح الصومالي، الذي كان في بداياته جزءاً من التقاليد الشفوية، حيث كانت العروض المسرحية تعتمد على الأداء الشفوي والتفاعل المباشر مع الجمهور. ومع ذلك، شهد المسرح تحولاً مهماً بعد الاستقلال، إذ بدأ يظهر كفن مكتوب له نصوص محددة، وهو ما ساعد في توثيقه وانتشاره.

يلقي أفرح الضوء على أعمال كتاب مسرحيين بارزين، مثل حسن شيخ مؤمن، الذي تُعد مسرحيته "Shabeelnaagood" مثالاً رائعاً على دمج التقنيات التقليدية -مثل الشعر التكراري والألغاز- مع القضايا الحديثة، مثل النقد الاجتماعي والتعليق السياسي. كما يوضح بأن هذا الدمج يعكس قدرة المسرح الصومالي على التكيف مع المتغيرات، دون أن يفقد جذوره في التقاليد الشفوية.

كما يستكشف أفرح دور المسارح الوطنية في مقديشو، التي لعبت دوراً رئيسياً في نشر المسرح المكتوب، وتقديمه لجمهور أوسع. ومع ذلك، فإن الحرب الأهلية التي اندلعت في التسعينيات أثرت سلباً على المسرح، حيث أغلقت العديد من المسارح أبوابها، واضطر الفنانون للانتقال إلى المنفى. لكن، المسرح رغم ذلك ظل حياً من خلال العروض في الشتات، حيث أصبح وسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية والتعبير عن قضايا المهجر.

تأثير التكنولوجيا على الأدب الصومالي

يخصص أفرح جزءاً كبيراً من دراسته لتحليل تأثير وسائل الإعلام الحديثة على الأدب الصومالي. ويرى أن الإذاعة والتلفزيون لعبا دوراً محورياً في نشر الشعر والمسرح، وجعلِهما أكثر جماهيرية. فمع ظهور الأغاني الحديثة والمسرحيات الإذاعية، أصبح الأدب الصومالي أكثر انتشاراً وتأثيراً.

كما شهد العصر الرقمي تحولاً مهماً، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصة رئيسية لنشر الشعر والمسرح. يلاحظ الكاتب أن الشعراء الجدد باتوا يستخدمون الإنترنت للوصول إلى جمهور أوسع، مما أدى إلى خلق مشهد أدبي جديد يتجاوز الحدود الجغرافية. وإن كان هذا التحول يطرح تساؤلات حول مصير الأدب الشفوي التقليدي، وما إذا كان سيتمكن من البقاء في ظل هذا العصر الرقمي.

من خلال استكشاف التغيرات المهمة في الشعر الصومالي بعد الاستقلال، والتي منحته طابعه الانتقالي، يقدم هذا البحث مساهمة أصلية في دراسة الأدب الصومالي. وتبرز مساهمة أخرى من خلال الكشف عن طبيعة المسرح الصومالي كفن في مرحلة انتقالي

رغم أهمية هذا العمل، إلا أنه لا يخلو من بعض القصور، فمن أبرز الانتقادات الموجهة إليه تركيزه الكبير على الطبيعة الانتقالية للأدب الصومالي، مما أدى إلى إغفال بعض الجوانب المهمة، مثل دور المرأة في المشهد الأدبي. فرغم مساهمات النساء البارزة، إلا أن تحليل أفرح لم يمنح هذا الجانب اهتماماً كافياً في بحثه.

كما أن هناك ميلاً واضحاً في تركيزه على الإنتاج الأدبي في المراكز الحضرية مثل مقديشو، مما أدى إلى تهميش مساهمات الكُتّاب في المناطق الريفية، الذين قد تكون لديهم رؤى مختلفة حول التفاعل بين التقليد والحداثة.

بالإضافة إلى ذلك، يثير اعتماده الكبير على المصادر الشفوية تساؤلات حول مدى موثوقيتها وإمكانية التحيز فيها. ورغم اعتراف أفرح نفسه بهذه المسألة، إلا أن تناولها بطريقة نقدية أعمق كان من شأنه أن يعزز مصداقية تحليله.

يفتح كتاب أفرح أبواباً جديدة للبحث، حيث يمكن أن تتناول الدراسات المستقبلية موضوعات لم تحظَ بما يكفي من التحليل، مثل دور المرأة في الأدب الصومالي، وتأثير الريف في تشكيل الاتجاهات الأدبية، بالإضافة إلى تعميق النقاشات النظرية حول العلاقة بين التقليد والحداثة.

في سياق عالمي تتكرر فيه إشكالية التوتر بين التقاليد والابتكار، يقدم كتاب أفرح نظرة ثاقبة حول كيفية تفاعل الأدب الصومالي مع هذا التحدي. إنها شهادة على إبداع الكُتّاب الصوماليين، وقدرتهم على المزج بين القديم والجديد، مما يجعل أدبهم متجذراً في الماضي، لكنه نابض بالحياة في الحاضر.

إن كتاب "بين الاستمرارية والابتكار" ليس مجرد عمل أكاديمي، بل هو احتفاء بالأدب الصومالي ودوره في التعبير عن التحولات الاجتماعية والثقافية. بذلك يكون هذا المؤلف بالنسبة للباحثين أو القراء المهتمين بالأدب الأفريقي، مرجعاً لا غنى عنه.