الخميس 15 مايو 2025
احتفلت الصين السنة الفارطة بمرور الذكرى السنوية العشرين على إطلاق أول معهد كونفوشيوس في العالم، الذي بدأ في سيول بتاريخ 15 يونيو/حزيران 2004، ثم توزع في بقية أنحاء العالم. تحظى القارة الأفريقية بتقدير صيني خاص؛ ينطلق من مستوى الشراكة التجارية والتعاون الاقتصادي المتين، والحضور الصيني الممتد بالقارة، ويستثمر في التكوين اللغوي والثقافي باعتباره قاعدة لتعزيز تلك الروابط وتثمينها.
تعمل معاهد كونفوشيوس بمقتضى التعاون والشراكة مع المؤسسات الأكاديمية الأجنبية، فهي ظاهريا مجرد مؤسسات تعليمية أكاديمية لتعزيز تعلم اللغة ونشر الثقافة الصينينين، ويخفي المضمر فيها دبلوماسية الصين الثقافية النشيطة، وأحد أبرز أدوات قوتها الناعمة، إذ تراهن عليه كثيرا لتعزيز التبادلات الثقافية كجسر للعلاقات والشراكة الممتدة في كافة المجالات. كما أن نجاحاته الاستثنائية أوحت لبكين بتطوير مقاربات موازية للتأثير في النخب.
بدأت تجربة معهد كونفشويوس الصيني خارج حدودها في عام 2004، وتشرف عليه تمويلا وتنظيما وزارة التعليم، المعروفة بمؤسسة التعليم الدولي الصينية. وسمي بهذا الاسم تيمنا بالفيلسوف والمعلم الصيني كونفوشيوس، تقديرا لمكانته وفلسفته الأخلاقية. يقوم على مبدأ التعاون والشركة مع المعاهد والجامعات الخارجية، لينتظم في حصص لتعليم وتدريس اللغة ونشر الثقافة والقيم الصينية، بدعم إرسال مدرسين صينين إلى مراكزها الخارجية، وأيضا على آلية التبادل الثقافي والتعليمي بينها وشركائها.
يبدو أن حضور الصين بشرق القارة ليس بريئا، فليس إلا تتويجا لمسار مبادرتها الحزام والطريق لاسيما البحرية، فأضحت معاهدها محددا لتعزيز ارتباطاتها الثقافية كقاعدة لتحركاته السياسية والاقتصادية بالمنطقة
يراهن المعهد على أفريقيا، تقديرا لمستوى العلاقات السياسية والاقتصادية الصينية مع مختلف دول القارة، حيث تظم أكثر من 62 معهدا، ينتشرون في 48 دولة، من أصل أكثر من 500 معهد حول العالم، لتأتي الصين في المرتبة الثانية بعد فرنسا صاحبة 180 مركزا مقابل 40 مركزا أمريكيا فقط. وكانت بكين قد اختارت، قبل عشرين سنة، جامعة نيروبي لتحتضن أول معهد في القارة.
شكل المعهد قاعدة لتوسع مراكزها في المنطقة؛ فافتتحت في العاصمة الإثيوبية مركزا صينيا للفنون التطبيقية، وفي إريتيريا مركزا لتعليم اللغة والثقافة، وتوسعت في جيبوتي غربا وجنوبا وشمالا. يبدو أن هذا الحضور في شرق القارة ليس بريئا، فليس إلا تتويجا لمسار مبادرتها الحزام والطريق، لاسيما البحرية، حيث أضحت معاهدها محددا لتعزيز ارتباطاتها الثقافية كقاعدة لتحركاته السياسية والاقتصادية بالمنطقة. لذا توزعت لتشمل مختلف المحاور الأفريقية، فاستطاع المعهد أن يكسب رهانات التوسع والانتشار في أكثر من بلد، فقد توج معهد كونفوشويس في زيمبابوي الأفضل عام 2013، وتميز بنجاحه في ضم، وللأول مرة، أساتذة محليين.
تعزز الانفتاح على اللغة واكتساب الثقافة الصينية في الجامعات الأفريقية من خلال توسيع هوامش تعاونها وشراكاتها مع مؤسساتها التعليمية، فأضحت الثقافة واللغة الصينيتين مفتاحا لتعزيز هذا الحضور. بذلك كسرت بكين، وبنجاح مقولة صعوبة تدريس اللغة الصينية واكتسابها، ونجحت في الرهان على اللغة الماراندية، التي تحولت إلى أكثر اللغات انتشارا في العالم. بلغة الأرقام، قدرت الصين أن أكثر من 30 مليون شخص في العالم يتعلمون الصينية خارج أراضيها، واستطاعت أن تظفر بتدريس نحو 90 دولة للغة الصينية في أنظمتها التعليمية، ففي عام 2023 قدمت معاهدها أكثر من 40 ألف دورة للغة الصينية حول العالم، لصالح ما يناهز 1.25 مليون طالب.
في سياق متصل، نجحت في إدرج تعليم لغتها في النظام التعليمي لدول عديدة، أبرزها السعودية بالشرق الأوسط. أما أفريقيا، فقد أضحى تدريسها اختياريا في جنوب أفريقيا. فيما يتم تدريسها في جميع المدارس الكينية، ونهجت أوغندا مقاربة مختلفة بتقديمها جزئيا في بعض فصولها بالمرحلة الثانوية.
تنضاف لذلك برامج التبادل الثقافي، كما تحضر المنح الدراسية، ولا سميا آلية التبادل الطلابي، حتى أضحت ثاني دولة بعد فرنسا في توفير المنح للشباب الأفريقي، وفق إحصاءات منظمة اليونسكو، يؤازرهما التدريب المهني في مختلف المجالات، وعماده إقامة مدارس مهنية، وتدريب الطلاب الأفارقة، وتأهيليهم مهنيا، مع التركيز على مجالات الإنشاءات والتعدين والتجارة والصناعة.
أثارت هذه النجاحات الاستثنائية إشكالية الشكوك من الأبعاد الخفية لهذه االمعاهد، مع توارد اتهامات لها بالتجسس وخدمة سياسات الصين، حيث صنف ضمن أدوات تغلغل الحزب الشيوعي لغايات سياسية في هذه الدول. وقد ساير بعض الدول الغربية هذه المخاوف، ما دفعها إلى إغلاق بعض المراكز. لكنها إلى حدود الساعة لم يغلق أي مركز في أفريقيا، بل توسعت هوامش تغلغلها الثقافي بدوراتها وأكاديمياتها السياسية الخاصة.
يمثل تعليم اللغة والثقافة بوابة أخرى للصين في تعزيز علاقاتها الرسمية، بالموازاة مع العمل الحزبي، فقد راهنت على توطيد العلاقات الحزبية، بين الحزب الشيوعي والأحزاب الأفريقية، وذلك استمرارا لعلاقات تاريخية ممتدة. تتربع الأحزاب السياسية في جنوب أفيريقا وموزمبيق وأنغولا وناميبيا وزيمبابوي وتتنزانيا، على قائمة الأحزاب المرتبطة بعلاقات وطيدة مع الحزب الشيوعي الصيني، والتي تتجاوز أكثر من 110 حزبا سياسيا أفريقيا في أكثر من 50 دولة أفريقية، تحاول استلهام تجربته في السياسة والاقتصاد والتنمية.
يمثل ربط الصين لعلاقات ودية مع صناع القرار الأفارقة هدفا استراتيجيا بعيد المدى لرؤية بكين، بما يمكنها من الاستمرار في ريادة الأعمال وتوسيع الشراكات معها في كافة المجالات، وتعزيز حضورها بالمنطقة
تعتبر مدرسة الحزب الشيوعي المركزية، تأسست عام 1933، الجناح التكويني لكوادر الحزب، والتي أدمجت وفق خطة إصلاح مؤسسات الحزب والدولة في الأكاديمية الصينية للحكم في مارس/ آذار 2018. تتولى مهمة تدريب المسؤولين الحكوميين الصينين، وتقوم بمهمة التنسيق والتدريب لشركاء الأجانب، وفي مقدمتهم الأفارقة.
شكلت هذه الأكاديمية إطارا للتغلغل الصيني في الأوساط الحزبية الأفريقية، مراهنة على الارتباطات التاريخية والفكرية المتقاطعة بينهما، ومحاولة تصدير النموذج الصيني وتكريس العلاقات بينهما، وقد تطور إلى استثمارها في تدريب الكوادر الأفريقية. في هذا السياق، يعبتر الاتفاق مع الحزب الشيوعي الكيني أحدث حزب أفريقي يستعد لبناء مدرسة للحزب في نيروبي، فيما كانت مدرسة جوليس نيريري للقيادة أول مدرسة للأحزاب السياسية في تنزانيا، استقبلت قادة من ست دول بجنوب القارة.
حدد الحزبي الشيوعي الصيني جملة من الأهداف يتوخى أن تحققها هذه المدارس، تتخطى تبادل تجربة الحكم الصيني مع الأفارقة، إلى تعميق مستويات التعاون والدعم، لبناء مصير مشترك بين الصين وأفريقيا، مراهنة على ترسيخ ولاء هؤلاء المكونين داخلها وارتباطاتهم الصين. ما يطرح إشكالية تصدير نموذجها لصناعة الولاء للحزب الواحد ومحاولتها نشر الأفكار الشيوعية في المنطقة، بترسيخ وجودها وارتباط النخب بمؤسساتها، فمن خلال الراهان عليها لبناء نخبة أفريقية تسير على نهجها وتدافع عن مصالحها.
يمثل ربط الصين لعلاقات ودية مع صناع القرار الأفارقة هدفا استراتيجيا بعيد المدى لرؤية بكين، بما يمكنها من الاستمرار في ريادة الأعمال وتوسيع الشراكات معها في كافة المجالات، وتعزيز حضورها بالمنطقة، في أفق تعزيز مقاربتها أدوارها العالمية، مراهنة على أن تكوين وتأهيل الشباب الأفارقة، وتأهيليهم وتدريبهم وإعدادهم الحزبي والأكاديمي، سيضمن لها استمرار الروابط الثقافية واللغوية والفكرية بينهم وبينها، كما سيشكل قاطرة للتعاون المتعدد الأبعاد الذي ترسم ملامحه بالقارة بخطواتي دقيقة.
يتحدد الاستثمار الصيني في النخب الأفريقية من أجل بناء مجتمعات ونخب متعاطفة معها، ومسايرة لمقارباتها السياسية والاقتصادية، فتبدو المراكز والمعاهد واتفاقيات الشراكة الأكاديمية الأفريقية-الصينية مدخلا لتعزيز الروابط معها، كما تشكل رهانا لبكين على توسيع هوامش تداخلها، بما يحقق بناء قنوات غير رسمية مع المجتمعات الأكاديمية والسياسية.
تتقاطع هذه الخطوات المستقبلية في تركيبة من المبادرات تشكل القوة الناعمة الصينية في برامجها الثقافية الطموحة، ومشاريعها واستثماراتها ودعمها التنموي والسياسي للأفارقة بديلا عن القوى الغربية، وبعيدا عن الشروط المجحفة، تؤازرها سردية تسوق الصين شريكا من أجل تنمية وازدهار القارة، وتوسعت هوامشها وأنديتها وبرامجها من التجارة والاقتصاد إلى السياسة والثقافية، مشكلة في مجملها الخلطة الصينية للنجاح في القارة.
لضمان ديمومة استمرار تدفقاتها، تبرز ملامح شبكاتها وعلاقاتها التي ترسم لها ولاءات، تعتبر بمثابة مفتاحها للسنوات القادمة، مستثمرة فشل القوى الغربية في الوفاء بالتزاماتها مع المجتمعات الأفريقية. وتراهن من ناحية أخرى على حمولة الثقافة الصينية بمدلولات متسقة مع الروى الأفريقية، مثل: التضامن والشراكة والأخوة والتعاون كفلسفة لشراكاتها بالمنطقة. وتستحضر أيضا فشل القوى الغربية في كسب معركة العقول والقلوب، بفشلها في تحقيق اختراقات ممتدة في المجتمع الأفريقي، وتراجع تأثيرها على النخب المحلية، لاسيما مع تنامي موجة مناهضة الاستعمار وصعود فكرة التحرر الثقافي من الهيمنة الغربية.
يتحدد الاستثمار الصيني في النخب الأفريقية من أجل بناء مجتمعات ونخب متعاطفة معها، ومسايرة لمقارباتها السياسية والاقتصادية، فتبدو المراكز والمعاهد واتفاقيات الشراكة الأكاديمية الأفريقية-الصينية مدخلا لتعزيز الروابط معها. كما تشكل رهانا لبكين على توسيع هوامش تداخلها، بما يحقق بناء قنوات غير رسمية مع المجتمعات الأكاديمية والسياسية.
يبدو أن الصين تستثمر ما استثمرته القوى الغربية سابقا، لكنها وعت بأن مدخل التعاون الثقافي يشكل مبحثا أساسيا لتكريس وجودها بالمنطقة. لئن كان التعاون والتكوين السياسي والحزبي مفتاحا لارتباطها بالقوى السياسية، فإن التدريب والتعاون والتكوين العسكري مدخلا لتعزيز ارتباطها بالنحب العسكرية، كما تمزج بين تقديم المساعدات والخدمات الطبية وتكوين الأطباء الأفارقة كإطار لتثمين روابط النخب الطبية بشبكاتها، وبنفس الآليات تتوسع هوامش ارتباطاهتها بالنخب الأكاديمية والتقنية والهندسية وغيرها.
يتأكد بأن الصين، على المدى القصير والمتوسط، ترسم معالم الشراكة بروح نشيطة، فنجحت في توسيع هوامش علاقاتها بالأفارقة، واستطاعت أن تقنعهم بأن شراكاتها التجارية والاقتصادية مكسب للجميع، وأن التعاون الثقافي ليس إلا امتدادا لتلك الشراكات. كما تؤكد أن الادعاءات الغربية بتدخلها وفخاخها السياسية والتجارية لا تعدو أن تكون وجها آخر لمنافسة تنامي النفوذ الصيني، ولتسميم علاقاتها مع النخب الأفريقية، وحجتها توسع عدد معاهدها، وانفتاح دول على تدريس لغاتها، فيما أعداد البعثات التعليمية الأفريقية إلى الصين تتنامى سنة بعد أخرى.
تتوخى بكين، في المدى البعيد، توسيع نطاق تغلغلها داخل المجتمعات وشبكات النخب الإفريقية وصناع القرار، وعبرهم لمختلف محاور المجتمع، وتستثمر في المجال لأنها تعي بأن ما تنفقه على معاهدها للتعليم وتثقيف الأفارقة سيحقق لها لا محالة أضعافا مضاعفة من الارتباطات. لكن هل سيضمن استمرار تنامي تحركاتها بما يمكنها من التمدد وكسب رهان تعويض القوى الغربية وشبكاتها؟
إجمالا، تسير الصين بمبادراتها المتنوعة بالقارة السمراء، والتي يشكل الحزام والطريق عمادها، وتؤازرها العلاقات والارتباطات الاقتصادية، وتحضر الثقافة واللغة أساسا لتعزيزها. لكن الرهان يرتبط بمدى قدرة النخب الأفريقية على استثمار هذه الفرص من ّأجل بناء كينونتها المحلية وأنظمتها الإقليمية، عوض تعويض الوكلاء وشبكات الارتباطات الخارجية السياسية والاقتصادية والثقافية من حين لآخر دون أن تتغير أوضاع مناطقها.