تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
كتب

محاولة لفهم أطروحة كتاب"الإسلام وعلمانية الدولة" لعبد الله النعيم

24 فبراير, 2025
الصورة
Nciim
Share

حاز عبد الله أحمد النعيم على اهتمامي حين وجدت له ذِكرًا معتبرًا عند فيلسوف السياسة الأبرز في السياق المعاصر، جون رولز. فهذا الأخير لا يخفي إعجابه بأفكار النعيم، بل يرجّحها على غيرها من الأفكار ضمن السياق الذي تحرّك فيه النعيم، والذي لقي اهتمامًا من جون رولز، خاصة في كتابه الهام "الليبرالية السياسية" (Political Liberalism)

ومكمن إعجاب رولز بالنعيم متعلق أساساً بتخريجه الدستوري الذي أعاد فيه قراءة الشريعة في الإسلام من منظور دستوري، فصّل فيه بين القيم التشريعية في مرحلة مكة المبكرة وبين نظيراتها في مرحلة المدينة المنورة. ويرى أن أي محاولة للإصلاح الديمقراطي الدستوري في الإسلام، يجب أن تتبلور في مرحلة مكة. ووجد رولز في هذا التخريج نموذجاً واضحاً وفريداً للإجماع التقاطعي.

حسب اعتقادي، لم يكن إعجاب جون رولز ببعض أفكار النعيم أمرًا يمكن استغرابه، فمسيرة النعيم الحافلة بالعطاء العلمي تجعله محط أنظار كبار الفلاسفة، مثل رولز. فالنعيم جمع بين اختصاصه في القانون، وباعه الكبير في الشريعة الإسلامية، واهتمامه الكبير بالفلسفة، إضافة إلى أنه ينتمي إلى المجال الأكاديمي الأنجلوفوني، إذ دَرَّس بالمملكة المتحدة لعقود من الزمن، والآن يُدَرِّس بجامعة إيموري بمدينة أتلانتا بولاية جورجيا الأمريكية. 

النعيم رجل القانون الذي فكّر بالقانون الحديث، واستثمر هذا التفكير ليجادل به في مسألة علاقة الإسلام بعلمانية الدولة. وتميّزت مجادلته في هذا المنحى بالعمق والطرافة والجِدَّة؛ فلم يكن ذلك الحداثي الذي يعلن الفصل النهائي بين الدين والسياسة، ولم يَنهه حبّه للشريعة الإسلامية عن الاعتراف بأن علمانية الدولة حقيقة واقعية، وأهم مقوم من مقومات الدولة الحديثة، بل أخذه اعتزازه بالقانون الدولي لجعل هذا الأخير مركزيًا في الخروج مما ساد من تنابز بين الإسلام والعلمانية.

إن حضور الدين في السياسة بالنسبة للنعيم أمر له محدِّداته وشروطه، كما أن الفصل بين الدين والسياسة يسوقه النعيم ضمن جملة من المقومات النظرية والأسس الواقعية. فكيف قارب عبد الله أحمد النعيم إشكالية العلاقة بين الإسلام والعلمانية؟ وما هي أهم الأفكار التي يمكن أن ترسم لنا صورة واضحة عن مقاربة النعيم؟

"لم يكن إعجاب جون رولز ببعض أفكار النعيم أمرًا يمكن استغرابه، فمسيرة النعيم الحافلة بالعطاء العلمي تجعله محط أنظار جهابذة الفلاسفة مثل رولز"

النعيم يقول بصريح العبارة في مقدمة كتابه الإسلام وعلمانية الدولة، إنه يدعو إلى علمانية الدولة، لكنه لا يدعو إلى علمانية الفرد والمجتمع. فهذا يعني، بالنسبة له، بطلان مفهوم الدولة الدينية، ولزوم الدولة العلمانية من منظور إسلامي، وليس من زاوية موقف فلسفي يرى في العلمانية تهميشًا للدين برمته.

إن الدولة الدينية، بالنسبة للنعيم، لا تستقيم عقلًا ولا شرعًا، فهذه الدولة تنسب التدين إلى الدولة، والدولة مؤسسة سياسية تعوزها القدرة على الاعتقاد في أي دين وممارسة شعائره. فالدولة، بطبيعتها، شأن بشري، المعني الأول بها هم المواطنون، أي أنها تبقى في دائرة "غير المقدس". بينما إذا كانت الدولة هي الدين، فالدين حينئذ مُعرَّض لأن تُمارَس بحقه انتهاكات، الحريصون على الدين يجب أن يدركوا أنهم في غنى عنها.

هذا فيما يتعلق بموقف النعيم من الدولة الدينية، أما اقتراحه لدولة علمانية ذات مرجعية إسلامية، فهو موقف طريف، تُراعى من خلاله الشريعة الإسلامية في السياسة في ظل الدولة المدنية. الأطروحة الأساسية لكتاب النعيم هي ضرورة فصل الشريعة الإسلامية عن أجهزة الدولة، مع تشديده على ضرورة أن تكون هناك علاقة عضوية بين الشريعة والسياسة. 

هذه الأطروحة تفضي بالضرورة إلى أن تكون الشريعة الإسلامية هي الموجّه الأول للأفراد والمجتمع، في قالب يراعي شكل المجتمعات المعاصرة. كأني بالنعيم هنا في تقارب مع موقف محمد عابد الجابري وحسن حنفي في حوارهما المشهور حوار المشرق والمغرب، وإن اختلفت التسميات. فحنفي والجابري يرفضان تسمية الدولة المدنية المقترحة منهم بالدولة العلمانية، بل يريدونها دولة مدنية معتمدة على الديمقراطية العقلانية، تراعي خصوصية المجتمعات العربية الإسلامية من حيث المعتقد والثقافة والتاريخ.

"نعيم رجل القانون الذي فكّر بالقانون الحديث واستثمر هذا التفكير ليجادل به في مسألة علاقة الإسلام بعلمانية الدولة"

ألا تشبه الديمقراطية العقلانية التي نادى بها كل من الجابري وحنفي دولة النعيم العلمانية ذات المرجعية الإسلامية؟ أليس هناك مجال لأن تستوعب الدولة المدنية في المجتمعات العربية الإسلامية طرح النعيم، في أفق يتحتم فيه عليها أن تكون علمانية، لكن في نفس الوقت ترعاها قيم إسلامية؟

هذا الحوار بين الإسلام والدولة العلمانية أفضى إلى أن يكون النعيم قادرًا على أن يعطي الوصفة اللازمة للخروج من التدافع الوهمي بين الإسلام والعلمانية. فلم يكن هناك بد من أن يعلنها النعيم مدوية: أن دولته التي ينظر لها هي دولة علمانية ذات مرجعية إسلامية، يُفصل فيها الدين عن السياسة، بطريقة يبقى فيها الدين حاضرًا، بطريقة أو بأخرى، داخل القوانين المدنية للدولة. وهذا تقريبًا ما ذهب إليه كارل شميت في كتابه اللاهوت السياسي، وإن اختلف السياق الديني الذي تحدث فيه كارل شميت عن السياق الديني الذي ناقشه عبد الله أحمد النعيم.

إن أفكار عبد الله النعيم تقودنا إلى ترجيح فرضية، مفادها أن أطروحته الأساسية، تتعلق بالكيفية التي سيكون فيها القانون هو الراعي الرسمي لحضور الدين في السياسة. وبطبيعة الحال، القيم الدينية يجب أن تكون مبثوثة في روح هذه القوانين، التي هي الشريان الأكبر للدولة المدنية الحديثة.

لقد حازت أفكار عبد الله أحمد النعيم، كما أسلفت، على اهتمام كبير في الأوساط الأكاديمية الغربية، وأعطيت مثال جون رولز الذي استشهد بأطروحاته وأفكاره في أحد أهم كتبه. لكن، حسب اعتقادي، أن عبد الله النعيم لم يُقرأ بعد في الأوساط الثقافية العربية، بل يكاد يكون مجهولًا تمامًا. يعزى ذلك في نظري إلى أن القارئ العربي ظل أسير القراءات الأيديولوجية المتشنجة، بعيدًا عن القراءات العلمية الموضوعية العميقة، حتى صارت بمثابة المخدر الذي خدر عقل الإنسان العربي عن رؤية الدراسات العلمية البارزة في مجالات المعرفة المختلفة.

"حضور الدين في السياسة بالنسبة للنعيم أمر له محدِّداته وشروطه، كما أن الفصل بين الدين والسياسة يسوقه النعيم ضمن جملة من المقومات النظرية والأسس الواقعية"

بالعودة إلى النعيم، أستطيع أن أقول إن النعيم مفكر سوداني استطاع أن يحتل مكانا عليا في مجال تحركه الأكاديمي، سواء على صعيد التحصيل العلمي، أو فيما يتعلق بالمسار المهني، وأيضًا في جانب إنتاجه المعرفي. فمثلًا، الكتاب الذي حاولت أن أضيء على أطروحته الرئيسة، كتاب نفيس، يعدّ الكتاب أحد أهم كتب الرجل، يقدم فيه رؤية طريفة وجديدة لجدلية العلاقة بين الإسلام والعلمانية. والسمة التي تميز بها أنه كتاب حضرت فيه المفاهيم القانونية بقوة، كما لم تكن المصطلحات الدينية غائبة عنه، وامتاز بعمق الأفكار التي قارب بها الجدلية سالفة الذكر.

فكما بينت بشكل موجز جدًا الأطروحة الرئيسة للكتاب، فإنني سأختم هذا المقال بكلمات موجزة: أننا أمام مفكر عبقري لم ينل حقه من الاهتمام في مجالنا العربي الإسلامي، لذلك وجدت من المناسب جدًا أن أكتب عن الرجل في هذه الفرصة. وأريد في المقام الأول أن أبرز قيمة أفكاره بشكل مبسط جدًا، بعيدًا عن التعقيد الذي قد يأتي مع قراءة الرجل قراءة فلسفية. فالرجل، حسب اعتقادي، ميدان لتحقق القراءة الفلسفية العميقة، إن صح التعبير. لكن آثرت أن أكتب بطريقة مبسطة وموجزة، ليفهم القارئ غير المتخصص قيمة الرجل الفكرية، بعيدًا عن صعوبة التناول الفلسفي المعمق، الذي يجد أرضه المناسبة في الأبحاث العلمية.

المزيد من الكاتب