الأحد 9 فبراير 2025
طرح مبدأ "الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية" من أجل اقتراح أجوبة أفريقية لتحديات ومشاكل القارة، بعيدا عن التدخلات الخارجية ومقارباتها. يتأسس هذا المبدأ على تقديم مبادرات أفريقية من أجل إيجاد حلول للمعضلات المحلية، تتخطى الرهان على الحلول الخارجية، ليؤكد أهمية الجهود الإقليمية لتعزيز السلام والاستقرار والتنمية، باستحضار الأبعاد المحلية لمقاربة هذه الملفات المركبة. ويتجدد الاستعمال المكثف للشعار في السنوات الأخيرة كإطار للتصدي لها والبحث عن مخرج بأقل الخسائر، لكن إلى أي حد استطاع هذا المبدأ أن يحقق هذا المبتغى؟
صاغ الخبير الاقتصادي الغاني جورج اييتي مصطلح "الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية" عام 1994، في مقال له حول الأزمة الصومالية، واستند على رؤية فشل التدخلات الأجنبية في حل الأزمة الصومالية، لأنها لا تقدم حلولا حقيقية تنطلق من المحددات المحلية، معتبرا بأن الحل لن يأتي إلا بجهود الأفارقة أنفسهم، وتطور المبدأ كبوصلة توجيهية للفاعلين المحليين والمؤسسات الإقليمية لمقاربة التحديات بالقارة.
الحجة الأساسية لهذه المقتضى أن القضايا الأفريقية لن يفهم تعقيداتها إلا الأفارقة، فالتركيز على المحلي يشكل جوهر مقاربة تحدياتها، بما يعنيه ذلك من تقديم حلول مستدامة وفعالة، لأن الارتهان للخارج عادة ما يتحول إلى عامل يساعد على استفحالها. فلا يمكن بلورة حلول للأزمات ما لم تستند على التجربة المحلية، ولا يتأتى ذلك إلا بالتركيز على جهود المؤسسات الأفريقية والنخب المحلية في تقاطع مع تعزيز الأمن الإقليمي.
وما لم تؤسس الحلول الأفريقية على قاعدة معالجة الأسباب الجذرية للمعضلات، ستعتبر مجرد رسم على الرمال، إذ لا يمكن إرساء دعائم الاستقرار والتنمية دون تفكيك إكراهات الوقائع السياسية والمجتمعية؛ فالتحديات بالقارة تستمد جذورها من عدم المساواة وهشاشة الأوضاع الاجتماعية، وتعقيدات الأوضاع السياسية والتنموية، ولا يمكن تحقيق ذلك دون إدارة هذه الّأزمات والقضاء على مسبباتها.
بالعودة إلى مسارات التاريخ الأفريقي، يظهر بأن الحلول الأفريقية كانت دائما هاجسا حاضرا في تقديرات قادتها؛ فقد اكتسبت حركات الاستقلال في القارة زخما بعد الحرب العالمية الثانية، واستندت على حق الشعوب في تقرير المصير لإنهاء الاستعمار، ثم بدأت الحركات الوطنية في بناء الدولة، مستندة على شعار "أفريقيا للأفارقة"، غير أنها سقطت بعد سنوات في تحديات عدم الاستقرار السياسي، وانزلقت نحو حروب أهلية دموية، ساهمت العوامل الخارجية ولا تزال في تأزيم أوضاعها.
تطورت المقاربة الأفريقية من مناهضة الاستعمار بمختلف أشكاله إلى محاولات بناء الدولة، ثم تجسدت كإطار لمجابهة التحديات الاقتصادية والتنموية بعد نهاية الحرب الباردة. في السنوات الأخيرة، تعقدت دروب القضايا الأفريقية، بعد تطور مستويات التهديدات الأمنية والاقتصادية والمناخية، وتشعب مساراتها، ولم تستطع دول القارة أن تتجاوزها بشكل منفرد، مما يستدعي رؤية جماعية لها.
حاولت الدول الأفريقية تشكيل مؤسسات إقليمية، فتأسست منظمة الوحدة الأفريقية لإنهاء الاستعمار، وتشجيع التكامل بين الدول الأعضاء، وجاهدت من أجل التصدي للمعضلات السياسية والأمنية، غير أن تحديات الحرب الباردة انعكست على تحركاها. لقد أدرك الزعماء الأفارقة بعد نهاية هذه الحرب مدى الحاجة إلى تجديد آلياتها، فاستعاضوا عنها ب "الاتحاد الأفريقي"، الذي وسع نطاق أهدافه واهتماماته، لتشمل الجوانب الأمنية والتنموية ورسم مساراته على فلسفة أفريقيا للأفارقة، وما يحتم ذلك من بحث عن حلول أفريقية أيضا.
يراهن الاتحاد على ترسيخ دعائم السلام والأمن والاستقرار كقاعدة لمجابهة باقي التحديات الداخلية، فرسم آليات للتصدي لهذه المعضلات؛ كمجلس السلم والأمن، ويتحرك لمواجهة التقلبات الأمنية الإقليمية بجهوده من خلال بعثاته إلى مناطق النزاع، كبعثة الاتحاد في الصومال، والتي برزت محوريتها، رغم التحديات التي تواجهها، في دعم الحكومة الاتحادية الصومالية نحو تحقيق الاستقرار. كما نجحت بعثة الأمم المتحدة المشتركة مع الاتحاد الافريقي لحفظ السلام في دارفور، بعد 13 عاما على توقيع اتفاق سلام أنهى الصراع هناك. وتوّج الاتحاد تحركاته بإصدار مواثيق ومعاهدات ورؤى متعددة الأبعاد، إيمانا من أعضائه بالتقاطع بين الأمن والتنمية، فأرسى دعائم هذه التوجهات في "أجندة 2063"، التي تأسست على بناء أفريقيا متكاملة مزدهرة مسالمة، ترسم لنفسها معالم قوة عالمية في المستقبل.
بالمحصلة، تتجدد في السنوات الأخيرة إعلاء مبدأ الحلول الأفريقية في مختلف السياقات، وتعزز كشعارات سياسية، فرضت التحولات الإقليمية والدولية التركيز عليها لمقاربة المشكلات المستعصية، الحائلة دون دوران عجلة التقدم والازدهار بالقارة، رغم امتلاكها كل إمكانيات تحقيق ذلك.
عادت أنظار القوى العالمية إلى القارة الأفريقية في سياق التنافس المحموم لإعادة بناء نظام عالمي جديد، من أجل تعزيز حضورها وتوسيع نفوذها وحماية مصالحها، وجسد ذلك حدة التنافس بينها في منطقة الساحل وبالقرن الأفريقي. في المقابل، تعقدت مسارات التهديدات الأمنية بالقارة، فساهمت الأزمات الكثيرة الممتدة لسنوات في كل محاور القارة (القرن الأفريقي وليبيا وخليج غينيا والكونغو وموزامبيق...) في ديمومة عدم الاستقرار، وأعادت تحديات الحرب السودانية بشرق القارة، وارتفاع مستوى النشاط الجهادي بالساحل ارتباطا بالتحولات السياسية بغرب أفريقيا، إحياء هذه الهواجس مكرسة مخاطرها وامتداداتها الإقليمية.
برزت هنا محاولات للوساطة من أجل تسوية النزاعات بالقارة، فنجحت جهود الاتحاد الأفريقي في إنهاء الصراع الإثيوبي وقوات متمردي التيغراي، واعتبر الرئيس الإثيوبي اتفاقية "بريتوريا للسلام" بين الطرفين تجسيدا لمبدأ الحلول الأفريقية. في المقابل لم تكلل مساعي الوساطة السنيغالية لتجاوز تحديات الصراع بمنطقة الساحل بين مالي وبوركينافاسو والنيجر مع دول مجموعة الايكواس بالنجاح، يتكرر الأمر في الأزمات الممتدة بالمنطقة؛ من ليبيا إلى السودان، ومن الكونغو إلى موزمبيق.
تأكدت الحاجة لإعادة إحياء مبدأ الحلول الأفريقية لمقاربة هذه التحديات، وإرساء دعائم الاستقرار والتنمية، ويؤكده مقتضى أن مختلف الأزمات الأفريقية تحتاج إلى توافقات الفاعلين المحليين؛ كالأزمة السودانية الليبية، والتحديات الأمنية والاجتماعية بشرق وغرب القارة، التي يتوقف إخمادها على توحيد الرؤى الداخلية فضلا عن التنسيق مع القوى الإقليمية لضمان حلول ناجعة ومستدامة.
وفق هذا المقتضى، تبدو الحاجة ماسة إلى تعزيز مسارات الدبلوماسية الوقائية من خلال أدوار الزعماء واللجان الأفريقية لمقاربة هذه المعضلات، فلئن استطاعت الوساطة التركية تخفيف حدة التوترات الدبلوماسية الجديدة بشرق أفريقيا بين إثيوبيا والصومال بالتأكيد على تجميدها، وإن ظلت بذور تفجيرها لا تزال حاضرة، غير أن هذه الأزمات تظهر محدودية الجهود الأفريقية. كما تأكدت محدوديتها في إنهاء الخلافات الإثيوبية المصرية بخصوص سد النهضة، فيما تستمر الحرب السودانية أمام فشل كل المحاولات الأفريقية لوضع حد لهذه الأزمة.
يتكرر الأمر ذاته في غرب أفريقيا، فقد فشلت جهود الوساطة في نزع فتيل التوترات بين دول (مالي بوركينافاسو والنيجر) والمجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا (الايكواس)، ما يؤكده مواصلة تلك الدول جهودها لإنشاء كونفدرالية الساحل، والاتجاه نحو قطيعة مع دول التكتل، مما يؤشر على أن هذه الخطوات ستزيد المشهد السياسي والأمني بالمنطقة تعقيدا.
يتأكد أمام هذه المشاهد عجز الاتحاد الأفريقي والمنظمات الإقليمية عن مقاربة الأزمات المحلية، بما يكفل ترسيخ التنمية وإنهاء الانقسامات رغم تعدد آلياتها وتشعب مقارباتها، فلا تساهم في إرساء حلول للمعضلات، إما نتيجة لمحدودية الموارد وضعف السياسات، أو لصعوبة فرض مقاربات نهائية متوافق عليها، تكفل تفكيك تعقيدات هذه الأزمات، غير أن هذه المحدودية لا يجب أن تغيب دور الحضور الخارجي المساهم في تكريس هذه التحديات، والمعرقل لجهود هذه المحاولات الإقليمية والمحلية.
لا يفتقر الأفارقة إلى إبداع وتصور مقاربات محلية للمشهد المأزوم، كما لا تعوزهم الإرادة والإمكانيات لتجسيد تحركاتهم على أرض الواقع لمقاربة المشاكل، غير أن إرساء دعائم حلول أفريقية إقليمية يصطدم بعراقيل وإكراهات داخلية وخارجية، تجعل هذا المبدأ في أحيان كثيرة مجرد شعار للاستهلاك الإعلامي، أكثر منه مقاربة سياسية للتحديات وإكراهاتها.
تراجعت تحركات المقاربات المحلية لتفكيك المعضلات الأفريقية، وعزز ضعف المؤسسات الأفريقية من ذلك؛ فالاتحاد الأفريقي تتعثر في القضاء على التحديات، وتحكم هذه المحدودية تقاطع الاعتبارات السياسية للقوى الإقليمية. كما أن أغلب المنظمات الإقليمية تشهد تراجعا في مقاربتها؛ فمنظمة الإيكواس سقطت في إكراهات داخلية فرضتها التحولات السياسية بالمنطقة، وانعكس ذلك على مستقبلها. فيما تنكفئ منظمة شرق أفريقيا عن نفسها، بينما لا تزال منظمات أخرى غارقة في أتون تحدياتها الداخلية وصفرية تحركاتها، كالاتحاد المغاربي وتجمع دول الساحل والصحراء.
تقهقرت جهود الوساطة من القادة الأفارقة لإيجاد تسوية نهائية للنزاعات القائمة، ما يؤكد راهنية تجديد الدماء وتعزيز هذه التحركات. إذ تُستحضر باقتدار جهود وأدوار الزعيم الأفريقي الراحل نيلسون مانديلا، كأيقونة للنضال من أجل أفريقيا للأفارقة، ورمزا للعمل الإنساني والدبلوماسي الذي تعدت أفضاله حدود القارة إلى أرجاء العالم، بجانب شخصيات كثيرة (كالملك المغربي الراحل الحسن الثاني والزعيم المصري جمال عبد الناصر ...)، ساهمت جهود هؤلاء في إرساء دعائم الاستقرار والسلام بالقارة. لكن ما يتضح في السنوات الأخيرة، هو التراجع البين لتحركات السياسيين الأفارقة، ومحدودية فاعلية مقارباتهم للنزاعات بالقارة.
في السياق ذاته، يمكن اعتبار آليات الحوار والوساطة كمحددات للحلول الأفريقية، حيث تتأكد أهمية لجنة حكماء أفريقيا؛ الهيئة التابعة للاتحاد الأفريقي، بتقديم الاستشارة لمنع وإدارة وحل الصراعات بالقارة، بناء على طلب مجلس السلم والأمن أو بمبادرة منها، وتتحرك لتفعيل الدبلوماسية الوقائي لحل النزاعات بالقارة. وتطورت منذ إقرارها في ديسمبر/كانون الأول 2007، وألحقت بها "مجموعة أصدقاء لجنة الحكماء". لكن الضرورة تستوجب تطوير هذه الآليات، وتعزيز مهامها، بما يكفل تقدير دورها في تقديم حلول أفريقية للمشكلات الأفريقية، إذ تظهر محدودية أدوارها أمام حجم التحديات.
إن تحميل المؤسسات والهيئات والشخصيات كل المسؤولية إجحاف في حق جهودها، مادامت المحدودية ترتبط بعوامل موضوعية أكثر منها مؤسساتية وشخصية، فالانقسامات والتقاطعات في المصالح بين القوى الأفريقية هي المحدد الأساسي لهامشية الحلول الأفريقية، وتنعكس التعقيدات السياسية على مسارات تعقد الأزمات بالمنطقة؛ إذ تشكل عاملا على استفحالها، وإفشال مختلف المبادرات الإقليمية والدولية، والأمثلة على ذلك كثيرة، إما من خلال تكريس التقاطعات المحلية أو بعرقلة الجهود المبذولة، وفي محطات كثيرة التحالف مع القوى الأجنبية، بما يضمن أن تنعكس هذه التفاعلات على مسارات الصراعات.
وفي هذا تتأكد، بالدرجة الأولى، الأدوار السلبية للقوى الأجنبية في إدامة هذه التحديات، إذ تتدخل لحماية حلفائها، ولضمان مصالحها. كما تساهم في تعقيد الصراعات بالدعم المالي واللوجيستي لجهة على حساب أخرى، وتكريس المعادلات الصفرية بانحيازها الدبلوماسي، وتحويلها المناطق الأفريقية إلى ساحة لتصريف صراعاتها الدولية، وأخيرا، تعزيز الانقسامات الداخلية والتدخلات المباشرة وغير المباشرة من أجل ضمان استمرار الأزمة، لا لصالح حلحلتها.
بالمحصلة، فرضت الأحداث العالمية على القارة السمراء تحديات جديدة، وتقهقر مبدأ الحلول الأفريقية مع عودة التدخلات الخارجية بقوة، ومحدودية القوى الإقليمية في مقاربة هذه المعضلات، فأضحى مجرد شعار يرفع في المؤتمرات، دون أن يؤسس لرؤية تستحضر قدرة الفاعل المحلي على مقاربة مختلف هذه التحديات، وتضمن أن يحقق الأفارقة شعوبا وحكاما حلم "أفريقيا التي نريد".