السبت 8 فبراير 2025
غذّت دوائر التفكير الأميركية، بما فيها الأكاديمية، هذا التفكير في العقود الأخيرة، وكذا وسائل الإعلام العالمية، التي لم تتوقف عند هذا الحد، بل عمدت إلى الربط بين الإرهاب والدولة الفاشلة، وأضحى الصومال حالة تحقّقت فيها هذه التوليفة؛ ويمكن عدّ فيلم "بلاك هوك داون" من إخراج ريدلي سكوت مثالًا يكرّس هذا الطرح، وهو تقريبا الفيلم المؤسس للمخيلة الأميركية - وربما العالمية - عن الصومال، والذي أنتِج عن التدخل الأميركي في الصومال عام 1992، في سياق التبرير للغزو الأميركي لأفغانستان في 2001.
يفحص هذا المقال نجاعة إعادة بناء الدولة، عبر التدخل الأجنبي، وخاصة الغربي أو من خلال حلفاء إقليميين للغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة التي سعت، على غرار الحالة الأفغانية، إلى إعادة بناء الدولة في الصومال، بعد هزيمة نظام المحاكم الإسلامية. لكن مع اختلاف يتمثّل في خوض إثيوبيا الحرب المباشرة بدعم وتمويل من واشنطن، والاعتماد على بعثات الاتحاد الأفريقي المُفوضة أمميًا لدعم القوات المحلية ضدّ حركة الشباب.
دفعت الولايات المتحدة إلى تدخل عسكري في الصومال بعد إسقاط نظام سياد بري بيد المعارضة المسلحة، وبادرت إلى إرسال قوة مكونة من 25 ألف جندي، بعد موافقة الأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول 1992، تحت اسم عملية "إعادة الأمل"، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 751، وضمن جهود الأمم المتحدة للتخفيف من الآثار الإنسانية الكارثية للحرب بين الفصائل المسلحة في الجنوب.
توسع التدخل الأجنبي مع تشكيل مهمة الأمم المتحدة الثانية، التي شاركت فيها إلى جانب القوات الأمريكية قوات من 24 دولة، ثم خفضت واشنطن قواتها إلى 1200 جندي في يونيو/ حزيران 1993. أخفقت مهمة البعثة الأممية نتيجة استمرار القتال بين الفصائل، وغياب قيادات صومالية قادرة على إدارة المشهد، بالإضافة إلى الخسائر البشرية بين المدنيين، نتيجة العمليات العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة لمطاردة الجنرال محمد فارح عيديد.
فُسّر التدخل الأميركي الأول في الصومال، في عام 1992، من منظور إنساني؛ وجرى تبريره من باب "مبدأ مسؤولية الحماية" في خضم الأزمة الإنسانية التي شهدتها البلاد، بعد انهيار نظام سياد بري. لكن الولايات المتحدة أُجبرت على سحب قواتها سريعًا، بعد صدمة مدوية، بسبب مقتل وسحل جنود أميركيين، من قبل ميليشيات عيديد، وبثّ صورهم على الشاشات، وهو ما حدا بالمؤسسات الأميركية إلى إنتاج العديد من الأفلام المختلفة، لتخفيف حدّة تلك الصورة في ذهن المواطن الأميركي. انسحبت هذه القوات بشكل كامل في مارس/ آذار 1994، وتبعتها القوات الأممية بعد عام، تاركة البلد في خضم حرب أهلية.
جذبت أحداث تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام، في أغسطس/آب عام 1998، أنظار الولايات المتحدة ثانية إلى شرق أفريقيا، وخاصة الصومال، حيث استقر فيها الثلاثي المنتمي لتنظيم القاعدة، الذين اتهمتهم واشنطن بالتخطيط للعملية.
حدث تدخل عسكري أجنبي آخر في 1996 من قِبل إثيوبيا، واقتصر على إقليم غدو في جنوب غرب البلاد، بهدف تقويض الإمارة الإسلامية التي أعلنتها جماعة الاتحاد الإسلامي، وحظيت بدعم من ميليشيات قبلية، ولم تسع أديس أبابا لفرض سلطة جديدة في البلاد، مكتفية بتعزيز قدرات حلفائها من أمراء الحرب في مواجهة الجماعة الإسلامية.
جذبت أحداث تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام، في أغسطس/آب عام 1998، أنظار الولايات المتحدة ثانية إلى شرق أفريقيا، وخاصة الصومال، حيث استقر فيها الثلاثي المنتمي لتنظيم القاعدة، الذين اتهمتهم واشنطن بالتخطيط للعملية، وهم: الكيني-الصومالي صالح نبهان، وأبو طلحة السوداني، ومحمد فزول "فاضل عبد الله محمد" من جزر القمر، بجانب شخصيات عربية وشرق أفريقية وصومالية. تعزز هذا المنظور أكثر في فترة بوش الابن، حيث أدّت اعتبارات الأمن القومي الأميركي، وظهور ما سُمى بـ"عقيدة بوش" والحرب الطموحة التي أعلنها على الإرهاب، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول، إلى تأكيد الفرضية القائلة بأن الدولة الفاشلة تشكّل مصدر تهديد للأمن القومي الأميركي، وتهديد للسلام الدولي أيضًا.
أوعزت واشنطن إدارة ملف الصومال لوكالة المخابرات المركزية، التي وضعت بنك أهداف قاصر، تمثّل في مطاردة واستهداف العناصر المحسوبة على تنظيم القاعدة من الأجانب في البلاد، من خلال التعاون مع أمراء الحرب، الذين زودتهم بالمال والسلاح. شكلت الوكالة مع أمراء الحرب ما عُرف بـ"التحالف من أجل استعادة السلام ومكافحة الإرهاب" (ARPCT). وكما توقع الكثيرون، اتسم سلوك أمراء الحرب، المدعومين أميركيًّا، بالعنف المليشياوي المفتوح، والبعيد كل البُعد عن الثقافة الديمقراطية التي كان يُسهب بوش الابن في شرحها، في خطبة إعادة تنصيبه، عام 2005، حين ذكر: "أن بلاده تسعى لدعم نمو الحركات والمؤسسات الديمقراطية في كل دولة، وفي كل ثقافة".
لقد أدت سلوكيات أمراء الحرب، المدعومين أميركيًّا، إلى محاولة فصائل محلية إسلامية الحد من ممارساتهم، تحت اسم المحاكم الإسلامية. ونجحت في وقت وجيز في التغلب على أمراء الحرب، وبالفعل بدأ وضع الصومال في التحسن على المستوى الأمني والمعيشي.
لكن واشنطن رأت في مشروع "المحاكم" تهديدا إسلاميا قادما من القرن الأفريقي، وباتساق مع التقرير الأمني القومي للولايات المتحدة لعام 2006 الذي اعتبر "الدولة الفاشلة ملاذًا آمنا للعناصر الإرهابية"، قامت الولايات المتحدة بتدخلها الثاني المباشر في الصومال، وأرسلت قوات خاصة، وعناصر من الاستخبارات الأميركية، لدعم التدخل الذي قامت به إثيوبيا تحت مزاعم "القضاء على التهديد الإسلامي"، وكان قوام تلك القوات 50 ألف جندي إثيوبي.
رأت واشنطن في مشروع "المحاكم" تهديدا إسلاميا قادما من القرن الأفريقي، وباتساق مع التقرير الأمني القومي للولايات المتحدة لعام 2006 الذي اعتبر "الدولة الفاشلة ملاذًا آمنا للعناصر الإرهابية".
يرى هارون معروف ودان جوزيف في كتابهما "داخل حركة الشباب.. التاريخ السرّي لأقوى حليف للقاعدة"، أنّ وحشية أمراء الحرب المدعومين من الولايات المتحدة أدت إلى بزوغ نجم الفصيل الأكثر ارتباطًا بتنظيم القاعدة، وهم مجموعة معسكر صلاح الدين بقيادة أحمد عبدي غوداني، الأمير الثاني والمؤسس الفعلي لحركة الشباب المجاهدين، حيث كوّن غوداني قوة ضاربة استهدفت أمراء الحرب، وشاركت بفعالية في هزيمتهم.
تكرر نفس الأثر على نطاق واسع بعد الغزو الإثيوبي للبلاد؛ حيث لم تكن المحاكم الإسلامية أكثر من مجرد تكتلات صغيرة من الميليشيات تسعى إلى ما تسميه "تطبيق الشرعية الإسلامية"، وتوفر الخدمات الاجتماعية في المناطق التي يسيطرون عليها، وقام رجال الأعمال المحليين بتمويلهم ودعمهم، مما سمح لهم بشراء أسلحة لمواجهة أمراء الحرب. استفادت حركة الشباب من الغزو الإثيوبي، والانتهاكات الوحشية التي ارتكبها بحق المدنيين، فتبنت خطابًا يدعو إلى المقاومة. كما استفادت من المشاعر المعادية للغزو الأجنبي، ما مكنها من التحول من فصيل منظم صغير العدد إلى القوة الأكبر في المعارضة الإسلامية.
تم تنصيب أول رئيس حكومة صومالية، في العاصمة مقديشو، عام 2007، بفضل الإثيوبيين والأميركيين. لكنها كانت عاجزة على البقاء والصمود وحدها أمام الإسلاميين، ولم يكن أمرا مفاجئًا ولادة حركة الشباب المجاهدين، نتيجة لعدة عوامل في مقدمتها التدخل الإثيوبي-الأميركي؛ حيث وجدت الفصائل والألوية المتطرفة في الجناح العسكري في اتحاد المحاكم الإسلامية، مشروعا لاستقطاب الشارع في مقاومة الوجود الأجنبي، ما أدخل الصومال في مرحلة جهادية مختلفة، يتزاحم فيها المقاتلون الأجانب من أنحاء العالم "للدفاع عن الأراضي المسلمة".
لم يرّ سكان مقديشو في الحكومة الاتحادية التي دخلت المدينة بدعم من قوات أجنبية مشروعًا لبناء الدولة، ولم تحظ بشعبية في البداية حتى الانسحاب الإثيوبي من البلاد في 2009، وتنصيب رئيس المحاكم الإسلامية السابق، شريف شيخ أحمد رئيسًا للبلاد. شُكّلت بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (AMISOM) من قبل مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، في يناير 2007، لتثبيت دعائم الحكومة الصومالية المهدّدة من قبل المليشيات الإسلامية، وهي بعثة تألفت من عدة قوات: أوغندا وجيبوتي وسيراليون وبوروندي، وانضمت إليها لاحقًا إثيوبيا وكينيا، الدولتان الجارتان للصومال، اللتان تشهدان نزاعات حدودية تاريخية معها. نصّت مهام البعثة على الحدّ من تهديد حركة الشباب، ومساعدة القوات الصومالية على توفير الأمن على جميع المستويات، ومن ثم العمل على التسليم التدريجي للمسؤوليات الأمنية إلى قوات الأمن الصومالية، وهي المهمة التي لم تُنجز بعد 18 عامًا.
اُستبدلت "أميصوم" ببعثة "أتميس" مطلع 2022، وتشكلت من قوات عسكرية من دول إثيوبيا وكينيا وجيبوتي وبوروندي وأوغندا، ومن المنتظر إحلالها ببعثة "أصوم" خلال الأيام المقبلة، وستتكون من دول مصر وإثيوبيا وكينيا وجيبوتي وأوغندا، دون مشاركة بوروندي. تحظى دولتا إثيوبيا وكينيا بوضع خاص، حيث تدخلت قواتهما عسكريًا في الصومال دون تفويض أو طلب من الحكومة الفيدرالية من البداية، ودعمتا حلفاء محليين ضدّ حركة الشباب، ثم انضمتا لاحقًا إلى بعثة أميصوم.
شنت كينيا عملية عسكرية في عام 2011 في جنوب البلاد، وطردت حركة الشباب من كسمايو، ورعت تنصيب حليفها أحمد مدوبي رئيسًا للولاية، في حين انضمت القوات الإثيوبية العاملة في الصومال إلى البعثة عام 2014.
لم يتحقق الكثير بعد مرور 18 سنة من بدء مهام البعثة. صحيح أن الحكومة الصومالية الضعيفة استقرت في العاصمة، ونالت الاعتراف الدولي عام 2012، لكن البعثة الأفريقية المموّلة غربيًا تستمر في محاربة "الشباب"، بدون حسم، حتى إنها أضحت أطول بعثة سلام في القارة بأكملها، بل حوّلت الصومال إلى سوق للعسكرة والشركات الأمنية، وأطماع القوى الإقليمية المتنافسة.
اُستبدلت "أميصوم" ببعثة "أتميس" مطلع 2022، وتشكلت من قوات عسكرية من دول إثيوبيا وكينيا وجيبوتي وبوروندي وأوغندا، ومن المنتظر إحلالها ببعثة "أصوم" خلال الأيام المقبلة، وستتكون من دول مصر وإثيوبيا وكينيا وجيبوتي وأوغندا، دون مشاركة بوروندي.
لا يبدو الجيش الوطني قادرًا على تسلم المهام الأمنية من بعثة الاتحاد الأفريقي. وكما لم تحرز البعثة تقدمًا حاسمًا في أهدافها الأمنية والعسكرية، كذلك لم تحرز بعثة الأمم المتحدة المتكاملة في البلاد نجاحات كبيرة في ملف المصالحة وتعزيز السلام! يعدد الأكاديمي الأمريكي بول دي وليامز، في حوار مع "جيسكا"، إنجازات وإخفاقات البعثة، والأسباب وراء ذلك. ويرى أنّ البعثة حققت نجاحات أمنية معقولة، وعلى رأسها طرد حركة الشباب من مقديشو والمدن الكبرى، ومقابل هذا اُتهم أفرادها بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان. يذهب وليامز إلى أنّ الساسة المحليين مسؤولون عن إخفاقات البعثة جزئيًا، حيث سعت الطبقة السياسية لتوظيف البعثة في مواجهة خصومها، على غرار الإدارات الإقليمية ضد الحكومة الفيدرالية. علاوةً على هذا، فهناك دول مشاركة بقواتها وظفت ذلك في إدارة علاقاتها مع مقديشو، وخاصة دولتي الجوار اللتين تجمعهما خلافات سياسية تاريخية مع الصومال.
أما عن الوجود العسكري الأميركي، فيحيط به طابع السرية والغموض. كتب الصحافي الاستقصائي جيريمي سكاهيل، بأن الولايات المتحدة تملك قواعد وسجون سرية في الصومال، بينما لم يتعد الوجود المُعلن عنه 800 جندي، تمّ سحبهم في نهاية عهد الرئيس دونالد ترامب، ولم تنه واشنطن عملياتها بالكلية، وحافظت على استهدف حركة الشباب وداعش من خلال غارات الطائرات. بيد أن التواجد الأمريكي عاد ثانيةً إلى الصومال في عهد الرئيس بايدن، الذي أصدر أمرًا تنفيذيًا بإعادة نشر مئات الجنود على الأرض لمساندة لواء القوات الخاصة المدربة أمريكيًا "دنب"، كما وقعت واشنطن مع مقديشو مذكرة تفاهم لإنشاء خمس قواعد عسكرية للواء.
لا يزال التدخل الأمريكي قاصرًا على مكافحة الإرهاب، وهي التعويذة السحرية التي تبنتها واشنطن للقضاء على الإسلاميين، وبناء الدولة الديمقراطية. أدى هذا السلوك في الواقع إلى نتائج عكسية، تمثلت في ولادة حركة الشباب المجاهدين؛ إحدى أعنف الحركات الجهادية في العالم. والملاحظ هنا أن فرضية ربط الإرهاب بالديمقراطية غير صحيحة في الأساس، فهناك الكثير من الدول القوية والديمقراطية التي تنشط فيها الحركات المصنفة بالإرهاب. وقد بيّنت دراسة أنجزها أيدن ههير عدم وجود صلة سببية أو علاقة واضحة بين الدول الفاشلة وبين انتشار الإرهاب، أو بين الديمقراطية وبين الحد من الإرهاب.
ذهبت بعض التحليلات إلى إمكانية تكرار سيناريو سقوط كابول بين يدي حركة طالبان في واقع الحركات الجهادية الأخرى، وبالأخص في الحالة الصومالية، في ظل اضطراب سياسة الولايات المتحدة، التي انتقلت سريعًا من أولوية مكافحة الإرهاب في مطلع القرن، إلى مواجهة الصين وروسيا، ولم يعد الإرهاب أولوية في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2022. حدث تحول آخر في رؤية واشنطن لمكافحة الإرهاب؛ حيث انتقلت من قيادة الحرب ضد الإرهاب، إلى دعم قيادة إقليمية في مواجهة الإرهاب.
يتربص الخطر الجهادي في أجزاء معتبرة من الصومال، مثل ولاية بونتلاند، حيث يعزز تنظيم داعش وجوده في الولاية. بعد خسائره في سوريا والعراق، مما يزيد من المخاطر التي تواجهها الدولة الصومالية. كما تراجعت عمليات الحكومة الفيدرالية ضدّ حركة الشباب، بسبب الصراع مع ولايتي جوبالاند وبونتلاند، والخلافات حول التعديلات الدستورية المثيرة للجدل، التي تهدد بتقويض النظام الفيدرالي، وتسمح لحركة الشباب بالتقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب الصفوف.
وفي هذا السياق، أفادت تقارير صحفية برفع حركة الشباب من وتيرة تجنيدها للمقاتلين، مستفيدة من الأزمة السياسية في البلاد، ومن علاقات محتملة مع جماعة أنصار الله المعروفين بـ"الحوثيين". في سياق أوسع مثّلت سيطرة هيئة تحرير الشام الحليف السابق للقاعدة على سوريا تحولًا كبيرًا في الظاهرة الجهادية، وقد يكون تأثيرها على المنطقة أكبر من تأثير طالبان، حيث الأخيرة استعادت سلطة مفقودة.
يتربص الخطر الجهادي في أجزاء معتبرة من الصومال، مثل ولاية بونتلاند، حيث يعزز تنظيم داعش وجوده في الولاية. بعد خسائره في سوريا والعراق، مما يزيد من المخاطر التي تواجهها الدولة الصومالية.
تنظر حركة الشباب -كغيرها من الحركات الجهادية حول العالم - إلى استحواذ طالبان ثم هيئة تحرير الشام على السلطة باعتبارهما نموذجين ملهمين في الصبر، على طريق تحقيق الجهاد العالمي. إلا أن توقعات سيطرة الشباب على الحكم مرة أخرى في الصومال، على غرار حركات مشابهة تبدو مبالغة، ويعود ذلك إلى اختلاف طبيعة وبنية الحركات الثلاث العسكرية والأيدولوجية، فحركة الشباب، إلى جانب تقهقرها العسكري تعاني من أزمة هوية فعلية؛ ولا تزال منقسمة بين قوميين صوماليين، يمثل الجهاد بالنسبة لهم شأنًا محليًّا لمجابهة التدخلات الخارجية، وعناصر جهاديين دوليين. فضلا عن هذا، تفتقر الحركة إلى القاعدة الشعبية التي تؤهلها لحكم مناطق واسعة من الصومال، ولا تحظى بشعبية في البلاد، بعد قرابة عقدين من استهداف المدنيين.
إلا أن الفيلة في الغرفة هنا، ليس أن حركة الشباب تشبه نظيرتها الأفغانية: حركة طالبان أو هيئة تحرير الشام، وإنما تطابق مشروع بناء الدولة الصومالية مع نموذج بناء الدولة الأفغانية من قبل المشروع الإمبريالي الأميركي لمحاربة "التهديد الإسلامي" أو "الإرهاب"، مع بعض الفوارق الهيكلية. فلو أخذنا مؤسسة الجيش الصومالي، وبالمقارنة مع نظيره الأفغاني الذي انهار في غضون أيام معدودة، يتضح أن الجيش الصومالي أضعف منه في كل المستويات؛ بصرف النظر عن كونه أقل بقليل من أعداد الجيش الأفغاني الذي كان يبلغ بين 104 ألف جندي بحسب حديث قادة ميدانيين، و300 ألف جندي بحسب التصريحات الرسمية، فيما تعداد الجيش الصومالي لا يتعدى 20 ألف جندي فقط، مدعومين بآلاف المقاتلين العشائريين الغير نظاميين.
تعاني القوات الصومالية من تعددية في العقائد العسكرية، حيث تتولى العديد من الدول تدريب هذه القوات، مثل: تركيا والولايات المتحدة والإمارات وأوغندا ومصر وإريتريا. كما تفتقر إلى التمويل المستدام، وتدفع العديد من الدول والمنظمات الدولية رواتب الجنود، فضلًا عن عدم توحيد المفاهيم العملياتية والافتقار إلى الانضباط والتنافس بين وحدات الجيش.
بالرغم من كل ذلك، من المستبعد أن تسيطر حركة الشباب مرة أخرى على الحكم بشكل مطلق، ويعود ذلك إلى بنية الحركة العسكرية والأيديولوجية، ومحدودية فاعليتها أمام واقع الفيدرالية الصومالية الحالي القائم على الأسس العشائرية، وأبعد مدى يمكن أن تذهب إليه الحركة في هذا الاتجاه، هو الاستفادة من تفاقم الخلافات السياسية بين الفرقاء السياسيين الصوماليين عبر توسيع عملياتها الانتحارية، ومن الاغتيالات السياسية في العاصمة. والجدير أنه في كثير من الأحيان، تُستخدم تلك التفجيرات من قبل أطراف داخلية وخارجية غير جهادية.
إن أهم ما تفصح عنه إعادة قراءة ربط الحروب الأميركية على "الإرهاب" أو "التهديد الإسلامي" بالدولة الفاشلة، هي أنها وفرت بيئة حاضنة للجهاديين. وكما بينت بعض الأبحاث الميدانية، مثل كتاب أنطونيو جوستوزي "طالبان في الحرب 2001 – 2018"، الصادر عن جامعة أكسفورد سنة 2019، فالمضايقات والاضطهاد من قبل الجيوش الأجنبية كانت عاملًا رئيسيًّا في التعبئة للتمرد الجهادي في الحالة الأفغانية. والأمر الملح في السياق الصومالي، هو أنه تم اختزال مشكلة الصومال، من النظام الدولي والإقليمي، في احتمالية كونها مأوى للإرهاب.
من المستبعد أن تسيطر حركة الشباب مرة أخرى على الحكم بشكل مطلق، ويعود ذلك إلى بنية الحركة العسكرية والأيديولوجية، ومحدودية فاعليتها أمام واقع الفيدرالية الصومالية الحالي القائم على الأسس العشائرية.
انشغل المجتمع الدولي بإعادة بناء الدولة في جنوب الصومال، واضعين استعادة الاستقرار أولويةً، لهذا تجاهل المطالب المشروعة لصوماليلاند في الاعتراف الدولي. إقليميًا، قدمت الجارة إثيوبيا نفسها على أنها الراعي الإقليمي الرسمي لحروب واشنطن على الإرهاب، وكان مليس زيناوي يردد بأن الحرب على الإرهاب هي "هبة الرب من السماء إلى إثيوبيا".
ظهر تنافس إقليمي للعسكرة في شرق أفريقيا منذ سنوات، وهو أمر لا يمكن بدونه فهم معضلة الحالة الأمنية الصومالية؛ فقد بيّن نموذج جنوب السودان أن هناك عائدًا تجاريًّا من عمليات حفظ السلام. وتنتظر أوغندا، التي لديها العدد الأكبر من الجنود في الصومال فرصة ماثلة هناك، لتحقيق طموحاتها الإقليمية في المنافسة العسكرية مع أنغولا وزيمبابوي. ويحتدم هذا التنافس في الساحة الصومالية، بطريقة تجعل مشروع بناء الدولة هامشًا تفصيليًّا، في خضم مشاريع إقليمية نحو العسْكرة. وليس هنالك مشروع قادر على استيعاب تلك المشاريع المتناقضة أكثر من مشروع محاربة الإرهاب: التعويذة التي وضعتها الولايات المتحدة لبناء الدولة الفاشلة.
قد يعود التدخل الأمريكي من جديد مع ترامب في ولايته الثانية، حيث تنخرط الولايات المتحدة بعد العدوان الإسرائيلي على غزة في مواجهة مع الحوثيين، بسبب استهدافهم إسرائيل مساندةً لفصائل غزة. بات الحوثيون أولوية لدى الولايات المتحدة وإسرائيل، ما يعني أنّ واشنطن ستعيد ترتيب المشهد في القرن الأفريقي ليحقق مصالحها، وفق المستجدات الأخيرة، فيما تترك الحالة الصومالية لفوضى التنافسات العسكرية الإقليمية، التي زادت لاعبًا بعد الاتفاق المصري الصومالي على المشاركة في بعثة الاتحاد الأفريقي المقبلة.
لا تزال عملية بناء الدولة في الصومال تواجه تحديات كبرى، وهي في أحسن أحوالها لم تراوح توازنات ومصالح القوى العشائرية المحلية، التي تعززت مكانتها بعد تطبيق النظام الفيدرالي. لقد مضى نحو ربع قرن منذ مؤتمر "عرتا" الذي مهد لتشكيل الحكومة الصومالية الفيدرالية، وصنع النظام السياسي العشائري الذي بات عائقًا أمام استكمال بناء الدولة. لا تتحمل بنية المجتمع العشائري وحدها مسؤولية إخفاق وتعثر الدولة في الصومال، وتتقاسم الطبقة السياسية دون استثناء المسؤولية. يجوز القول إنّ مشكلة بناء الدولة في الصومال تحتاج إلى طرح سؤال جريء حول إمكانيات بناء دولة في الصومال، حيث تفتقد الجغرافيا إلى تاريخ سياسي مشترك، وإن تشاركت الثقافة واللغة والعرق، كما أنّ التدخل الخارجي والمقاربات الأمنية الضيقة لم تلفح بإرساء دعم الدولة بعد مرور أكثر من 18 عاما من اطلاقها.