تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 17 فبراير 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

مأزق الفيدرالية الصومالية بين مركزية مقديشو وأطماع بونتلاند

11 يناير, 2025
الصورة
geeska cover
Share

تتسم العلاقة بين ولاية بونتلاند والحكومات الفيدرالية المتعاقبة بالتوتر، بسبب اختلاف وجهات النظر بين الطرفين حول شكل ونظام الحكم السياسي الأنسب في البلاد، حيث تدفع الأولى نحو نظام سياسي يضمن لها امتيازات، بينما تحاول الثانية استعادة المركزية بأشكال جديدة. ساءت العلاقة إلى حد إعلان بونتلاند سحب الاعتراف بمؤسسات الدولة الفيدرالية، ردًا على استمرار الرئيس حسن شيخ محمود في خطة تعديل الدستور، التي يرى فيها معارضوه تقويضًا للنظام الفيدرالي، وتركيزًا للسلطة في مقديشو، ويخشون من تكرار تجربة دولة ما بعد الاستقلال، التي سقطت عام 1991.

غروي في مواجهة مقديشو

ثمة خلافات شخصية تسببت في الأزمة الجارية بين رئيس الولاية، سعيد عبد الله دني، ورئيس الدولة، حسن شيخ محمود، بعد اختيار الثاني لحمزة عبدي بري رئيسًا للوزراء، بدلًا من الأول الذي كان طامعًا في المنصب. صحيح أنه قد يكون لمثّل هذه الخصومة الشخصية تأثيرها، إلا أنّ جوهر الخلاف هو بين رؤيتين لشكل النظام السياسي في البلاد، وليس حكرًا على شخصيات بعينها. تعود الخلافات إلى مرحلة تأسيس الحكومة الاتحادية في الصومال، مطلع الألفية الثالثة، بعد نحو عقد من الفوضى التي أعقبت الحرب الأهلية عام 1991، ووصلت ذروتها بعد طرح حسن شيخ مشروعه السياسي المثير للجدل.

يتخفى المشروع خلف عنوان مراجعة الدستور الانتقالي لعام 2012، وهي عملية كان من المفترض الانتهاء منها قبل سنوات، من خلال اشراك جميع أصحاب المصلحة من الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات الإقليمية وغيرهم، على أنّ يُعرض على البرلمان الفيدرالي، ثم الاستفتاء الشعبي العام، وفق المادتين 136 و137 منه، يتضمن المشروع الذي أجازه البرلمان الفيدرالي تركيز معظم صلاحيات السلطة التنفيذية بيد الرئيس على حساب رئيس الوزراء، وإلغاء نظام الانتخابات العشائري المعروف بـ 4.5 لصالح نظام انتخابي عام مباشر، ينال فيه كل مواطن صوتا واحدا، وتطبيقه على كافة الاستحقاقات الانتخابية، بدايةً من البلدية والبرلمانية الإقليمية والفيدرالية، ورئاسة الجمهورية والولايات. ونصّ على تعددية حزبية مقتصرة على منح الصفة القانونية لثلاثة أحزاب، تحتكر الحق في التنافس في كافة الاستحقاقات.

غاب رئيس بونتلاند عن كافة اجتماعات المجلس الاستشاري الوطني، وهو هيئة عليا تجمع الرئيس ورئيس الوزراء ورؤساء الولايات وحاكم بنادر عمدة مقديشو، وتوصل المجلس في غيابه إلى اتفاقيات متعددة حول المشروع السياسي للرئيس، حتى انسحاب رئيس ولاية جوبالاند أحمد مدوبي من آخر اجتماع، وإعلانه رفض التعديلات الدستورية. 

اتخذ دني ومدوبي الموقف ذاته في مواجهة خطة الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو لتعديل الدستور، والانتقال إلى الانتخابات العامة المباشرة، رغم أنّ فرماجو لم يطرح التعددية الحزبية القائمة على ثلاثة أحزاب، التي تناقض جوهر الدستور، ولا تتسق مع النموذج الفيدرالي. يبدو أنّ معارضة رئيسي بونتلاند وجوبالاند ليست للتعديلات الدستورية التي طرحها حسن شيخ فقط، بل لقضية مراجعة الدستور بالكلية، لأسباب مختلفة؛ حيث يريد مدوبي البقاء في السلطة، بينما يرفض دني التنازل عن مكاسب ولايته شبه المستقلة لصالح الحكومة الفيدرالية.

تشخيص الأزمة

تختلف أزمة بونتلاند مع مقديشو عن أي من الولايات الأخرى، ففي حين تتمحور أزمة جوبالاند حول شخص أحمد مدوبي، تتجاوز قضية بونتلاند الأشخاص، ولا ترتبط بهوية رئيسها. تأسست الولاية عام 1998 بعد مبادرات قادتها الجبهات المسلحة وشيوخ العشائر، وسبقت بهذا إنشاء الحكومة الاتحادية في مقديشو بسنوات، في حين لعبت الأخيرة دورًا بارزًا في تأسيس وترسيخ جميع الولايات الأخرى. لم يصرح قادة الولاية بالرغبة في الانفصال، وينصّ دستورها على أنّها جزء من الصومال الفيدرالي.

يفرق علي الجرباوي في دراسة بين الحكم الذاتي بأنواعه وأهمها التشريعي والفيدرالية، بأنّ "الحكم الذاتي نموذج وُجد ليعالج خصوصية حالة أو حالات، كلّ بالترتيب المناسب، بينما الفيدرالية هي تعميم لنموذج واحد بين جميع مكونات الاتحاد. تتمتع الوحدات في النظام الفيدرالي ببقايا سيادتها الأصلية، بعد تنازلها عن الجزء الأكبر منها للحكومة الفيدرالية، لهذا فموافقة هذه الهيئات التمثيلية الخاصة بالوحدات مطلوبة لتعديل الدستور الاتحادي". 

تنبع مشكلة الفيدرالية في الصومال من عدم تساوي وحداتها الإدارية في الوزن، حيث تأسست بونتلاند قبل النظام الفيدرالي، وانضمت إليه، وهي تشكل وحدة إدارية ناضجة، في حين قام هو بتأسيس أو تعزيز بقية الوحدات الإدارية أو الولايات. لذا ترى بونتلاند أنّ مقديشو ستعزز الحكم المركزي، مستفيدة من ضعف الولايات الأخرى. قد يظهر من هذا أنّ بونتلاند هي المدافع الوحيد عن النظام الفيدرالي، لكن ممارساتها تكشف عن عدم قناعة بما يمنحه لها النظام من صلاحيات.

من جملة هذه الممارسات نذكر؛ عقد اتفاقيات دولية على غرار اتفاقية ميناء بوصاصو مع شركة موانئ دبي العالمية، وإدارة التجارة عبر الحدود الدولية. كما تمثلت في منح تسهيلات جمركية للشاحنات الإثيوبية، وإقامة علاقات دبلوماسية مع إثيوبيا، ورفض تعليمات وزارة الخارجية بشأن القنصلية الإثيوبية في جروي، إبان الأزمة بين البلدين. ناهيك عن رفض بونتلاند نشر وحدات الجيش الوطني ووحدات من الشرطة الوطنية داخل حدود الولاية الإدارية، ولا يوجد في الولاية مؤسسات فيدرالية سوى إدارة الجنسية والجوازات. لم تكتف الولاية بهذه الممارسات، بل أعلن رئيسها عن نوايا لإصدار عملة للولاية، في مخالفة صريحة لسلطات الحكومة الفيدرالية، وغير ذلك من الممارسات التي تتداخل مع السلطة الحصرية للحكومة الفيدرالية.

أفق الحل

تقع مسؤولية تعطل استكمال الأسس الدستورية والمؤسساتية في الجمهورية الصومالية الفيدرالية على عاتق كل من إدارتي بونتلاند ومقديشو، الطرفين الأجدر بإنجاز المهمة. لم تخل محاولات فرماجو وحسن شيخ لإكمال الدستور من المصالح الشخصية؛ المتمثلة في تمديد البقاء في السلطة أو ضمان ولاية رئاسية جديدة، بينما لا تريد بونتلاند بدورها التنازل عن صلاحياتها للاتحاد الفيدرالي. ليس مبالغة في القول، إنّه لولا المجتمع الدولي لأعلنت بونتلاند استقلالها عن الصومال، وهو ما نصّت عليه المادة الرابعة من دستور الولاية، بعنوان "نظام الحكم"، وتتكون المادة من خمس فقرات، تنصّ الأولى على أنّ بونتلاند جزء من الصومال، ومهمتها تأسيس وحماية الحكومة الفيدرالية، وتقول الثانية إنّه يجب إجراء حوار مع الحكومة الفيدرالية حول الصلاحيات التي ستتنازل عنها الولاية، والتي ستحتفظ بها. تمنح الفقرتان الثالثة والرابعة للولاية حقّ الانسحاب من الاتحاد، وإعلان دولة مستقلة، في ثلاث حالات؛ عدم إكمال مراجعة الدستور بالتوافق وعرضه للاستفتاء الشعبي، وإخفاق تأسيس نظام فيدرالي، واستمرار الحروب في المناطق الأخرى من البلاد. فضلًا عن هذا، كُتب الدستور، للمفارقة، وكأنّه لدولة مستقلة، حيث نصّ على صدور قوانين لتعريف هوية "المواطن البونتلاندي"، وكيفية اكتساب هذه المواطنة.

تُقرن الولاية تعديل دستورها بمراجعة وإكمال الدستور الفيدرالي، وهو الأمر الغائب عن مقديشو، حيث من المفترض إجراء مراجعات شاملة لدساتير الولايات بعد مراجعة الدستور الفيدرالي، وقبوله من الولايات، وهو ما يعتبر الشرط الأساسي في بناء النظام الفيدرالي. تقدم دساتير الولايات نموذجًا عن الفوضى في بناء الجمهورية الفيدرالية، إذ بإمكان الولايات الاستناد إلى دساتيرها لمنازعة الحكومة الفيدرالية في صلاحياتها الحصرية، ما يكشف عن غياب النضج القانوني، والافتقاد إلى مؤسسات قضائية فيدرالية، حيث لم تُنشأ المحكمة الدستورية بعد مرور 13 عامًا من الاتفاق عليها.

يبدو أنّ جولة حسن شيخ الصراعية مع بونتلاند حول التعديلات الدستورية ستنتهي لصالح الأخيرة وحلفائها، حيث لم يبق في عمر ولاية الأول سوى أقل من عام ونصف، من المرجح أنّ تُستهلك في النزاع مع جوبالاند. وقد يلجأ الرئيس لتمديد ولايته عبر البرلمان الفيدرالي، ما لم تنجح المعارضة في إجباره على التنازل، والعودة إلى نظام الانتخاب العشائري على غرار سلفه فرماجو.

 منعًا لتكرار نفس الأزمة التي تستهلك أعوامًا وقدرات مالية لا يملك البلد المُنهك رفاهية إنفاقها، فضلًا عما تخلقه من انقسامات بين المجتمع، ينبغي البدء في عملية إصلاح سياسي متكاملة ومصالحة عامة، للانتهاء من المرجعية الدستورية والقانونية للنظام الفيدرالي، وبناء المؤسسات الدستورية الفيدرالية، لتكون المرجع للفصل في التنازع حول الصلاحيات، وقد تشمل الأهداف التالية.

 أولًا، الانتهاء من مراجعة الدستور الانتقالي، بالتوافق وفق أسس النظم الفيدرالية، وباختيار الأنسب للحالة الصومالية، ثم عرضه على البرلمان الفيدرالي، تمهيدًا لطرحة للاستفتاء العام. ثانيًا، مراجعة دساتير الولايات الفيدرالية، لتتوافق مع دستور الاتحاد، وطرحها للاستفتاء داخل كل ولاية. ثالثًا، استكمال بناء المؤسسات الفيدرالية وفق أسس سليمة، وعلى رأسها المحكمة الدستورية والقضاء والمؤسسات الأمنية والعسكرية. رابعًا، تنظيم الانتخابات، وفق النظام الانتخابي المباشر، بالتزامن في كافة البلاد، وعلى مختلف مستويات الحكم، دون ربطها بمصالح شخص رئيس الجمهورية أو رؤساء الولايات. 

يعتبر تحقيق هذه الأهداف فرصة لإنقاذ النظام الفيدرالي، حيث سيعيد ترتيب المؤسسات وفق مستويات الحكم المختلفة، وخاصة المؤسسات الأمنية والعسكرية، والتي ستؤدي إلى تكامل جميع القدرات لمواجهة الانفلات والفوضى الأمنية، التي تسببها حركة الشباب والصراعات العشائرية والجريمة المنظمة. 

تحتاج بونتلاند إلى دعم الحكومة الفيدرالية في مواجهة خطر تنظيم داعش المتنامي، واُتهمت مقديشو بالتخلي عن الولاية في الوقت الذي بدأت فيه عمليات شاملة ضدّ معاقل التنظيم في جبال علمسكاد، وهو ما ينفيه مسؤول رفيع في الحكومة، تحدث لـ"جيسكا" مشترطًا حجب هويته. ويضيف بأنّ بونتلاند رفضت استقبال مساعدات من مقديشو، كما أنّ رئيسها لم يقبل عرض الشرطة الوطنية بتقديم المساعدة. 

لا تبدو انفراجة قريبة لأزمة بونتلاند ومقديشو، حيث يحتمي ساسة الولاية خلف راية القبلية، ويسلكون دربًا يقوض النظام الفيدرالي الذي طالما تغنوا به. وعلى نفس المنوال تسير النخب الحاكمة في فيلا صوماليا، بتوظيف الصالح العام لتحقيق مكاسب شخصية. كما تغلب الأهواء على الطرفين، وتُستبدل المبادئ إن لم تخدم المصالح الخاصة، ففي تجلّ واضح لمفارقات السياسة الصومالية، يرفع اليوم حسن شيخ راية نظام الانتخاب المباشرة، وهو كان من أشد معارضي ذلك النظام، في الأمس القريب إبان عهد فرماجو، في حين خاض سعيد دني حربًا ضروسًا لفرض الانتخاب المباشر في ولايته، ويخوض واحدة مماثلة لتعطيل نفس الشيء خارجها.