الخميس 15 مايو 2025
تعدّ ماريام ماكيبا (1932-2008) واحدة من أكثر الشخصيات الثقافية تأثيرًا في تاريخ الفن والمقاومة ضدّ الاستعمار ونظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا. إنّ صوتها ليس مجرّد أداة تعبير موسيقي بل يحمل في طيّاته ذاكرة جماعيّة تتجاوز حدود الزمان والمكان، حيث يتداخل الصوت مع الهوية، والجسد مع التاريخ، والمنفى مع الذاكرة.
نطرح هنا مقاربة متعددة الأبعاد لفهم تجربة ماكيبا الفنية، بدءًا من تشكّل وعيها في ظل العنف الهيكلي الذي تعرضت له في جنوب أفريقيا، مرورًا بفرادة موقفها في المنفى كشرط معرفي وفني، وصولًا إلى استخدام صوتها كأداة مقاومة جندريّة وسياسيّة. كما نستكشف تأثيرها في إرساء خطاب فنّي يتجاوز حدود القوميّة، متفاعلًا مع قضايا الدياسبورا والتضامن العابر للقوميّات.
سيتمّ تناول هذه الجوانب من خلال تحليل موسيقي، حيث يُظهر كيف أنّ أعمال ماكيبا كانت ساحة لصراع رمزي، وحقلًا لإنتاج الذاكرة الجماعيّة في مواجهة محاولات المحو الكولونيالي.]
وُلدت ماكيبا في جنوب أفريقيا عام 1932، في لحظة زمنيّة شهدت تصاعد العنف الاستعماري، وتكريس الفصل العنصري بوصفه نظامًا مؤسسيًا. ومنذ طفولتها، انكشفت أمامها ممارسات الإقصاء الهيكلي، سواء في التعليم أو السكن أو فرص العمل. وبهذا، تشكّل وعيها الفنّي في تربة مشبعة بآثار "العنف الرمزي"، بتعبير بيير بورديو، حيث الهيمنة تُمارَس لا فقط عبر القوّة، بل عبر تشكيل الحقول الرمزيّة ومعايير الذوق العام. إن أغانيها المبكّرة، مثل "Lakutshon’ Ilanga" و "Qongqothwane" لم تكن مجرّد محاكاة للتراث، بل كانت عمليّة إعادة تدوير للذاكرة الجماعيّة بلغة صوتية حداثيّة. لقد جسّدت تلك الأغاني مقولة بول ريكور حول "الذاكرة كفعل سردي"، إذ صارت الأغنية سردًا بديلًا للتاريخ الرسمي، وموقعًا لتمثيل المسكوت عنه.
عندما سُحب جواز سفرها في أوائل الستينيّات، لم يتحوّل المنفى إلى قطيعة مع الذات، بل إلى شرط معرفي وفنّي. ففي ضوء مقولات إدوارد سعيد حول "المنفي باعتباره كاتبًا هامشيًا"، يمكن القول إنّ ماكيبا أعادت موضعة صوتها داخل سرديّة عالميّة للمُهمَّشين. لقد أصبح فنّها شكلًا من "الكتابة من الخارج"، تتّخذ من الغناء بُعدًا خطابيًا ضدّ محو الهويّات.
في خطاباتها المتكرّرة في المحافل الدوليّة - وعلى رأسها خطابها في الأمم المتّحدة عام 1963 - لم تكتف بالمرافعة ضد نظام الأبارتايد، بل قدّمت سرديّة بديلة للتاريخ الكولونيالي، مستخدمة أسلوبًا هجينا بين السيرة الذاتيّة والاحتجاج السياسي. لقد جسّدت نموذج المثقف العضوي بالمعنى الغرامشي، لا كفاعل من داخل النخبة، بل كمنبثق من الجماعة الشعبيّة، حاملةً أصواتهم وآلامهم.
لقد رفضت منذ بداياتها النماذج الغربيّة المفروضة للجمال والأداء، فظهرت بملامحها الطبيعيّة، وتحدّثت بلغاتها الأم، وغنّت بلغات أفريقيّة عدّة
لا يمكن قراءة تجربة ماكيبا دون استحضار إسهامات النقد النسوي الأسود، الذي يرى في الجسد الأسود الأنثوي موقعًا مزدوجًا للتهميش والمقاومة. في هذا السياق، لا يُعدّ غناؤها مجرّد فعل فنّي، بل ممارسة خطابيّة تعيد تمثيل الجسد الأنثوي خارج المنظور الاستشراقي أو النظرة الذكوريّة. لقد رفضت منذ بداياتها النماذج الغربية المفروضة للجمال والأداء، فظهرت بملامحها الطبيعيّة، وتحدّثت بلغاتها الأم، وغنّت بلغات أفريقيّة عدّة. هذا التمرّد الجمالي على "الامتثال الثقافي" يُقارب مفهوم "سياسة التمثيل" لدى ستيورات هول، حيث تصبح الذات السوداء فاعلة في إنتاج الصور لا مجرّد موضوع لها.
تنقّلت بين غينيا ونيويورك وأمريكا اللاتينيّة، حتى باتت تجسّد الجسد المتنقّل للدياسبورا السوداء. لقد ساهمت أغانيها في خلق "وعي دياسبورِي"، كما يصوغ بول جيليوري مفهوم "الأتلاتنتيسية السوداء" بوصفها شبكة من التبادلات الثقافيّة العابرة للحدود. في هذا السياق، لم يكن تعاونها مع هاري بيلافونتي أو نينا سيمون مجرّد تحالف فنّي، بل فعلًا من أفعال التضامن السياسي بين الشعوب المستعمَرة سابقًا. وقد مزجت بين إيقاعات الجنوب الأفريقي والجاز، فخلقت طيفًا صوتيًا هجينًا يُقوّض الحدود الثقافيّة المصطنعة.
عقب عودتها إلى جنوب أفريقيا عام 1990، بقيت حاضرة في المشهدين السياسي والفني، لكن حضورها أخذ يتغيّر تدريجيًا. فقد تحوّلت إلى "أيقونة" تُعاد صياغتها ضمن خطابات مؤسّساتية، قد تُفرغ إرثها من راديكاليته. وهنا يبرز سؤال إدوار غليسان: "كيف نحفظ ذاكرة المتمرّد دون أن أسطرته؟" لقد حاولت بعض المؤسّسات الثقافيّة تأطير ماكيبا ضمن سرديّات وطنيّة موحّدة، إلا أنّ إرثها الحقيقي يظلّ في انفتاح صوتها على طبقات متعدّدة من المعنى: رمزًا للأنوثة السوداء، للمنفى، وللغة الهجينة، وللرفض النبيل في وجه الاستعمار.
تشكّل موسيقى ماريام ماكيبا نموذجًا فريدًا لما يُعرف بـ"الصوت المؤدلج" (Ideological Voice)، حيث لا يُفهم الأداء الغنائي بوصفه تعبيرًا جماليًا فقط، بل كبنية دلاليّة حاملة لمعانٍ اجتماعيّة وتاريخيّة. يتجلّى هذا في توظيفها الواعي لعناصر موسيقى الشعوب الأصليّة، من خلال الإيقاعات البوليفونية، المقامات غير الغربيّة، والاعتماد على بنى نَسْجِيّة تُعيد إنتاج سرديات ثقافيّة جماعيّة.
تغنّي ماكيبا بلغات عديدة، من بينها الزولو والكوسا والسوتو والسواحيلية، فضلًا عن الإنجليزية والفرنسية. هذا التعدّد اللغوي لا يُقرأ بوصفه مجرّد تمظهر فولكلوري، بل باعتباره تفكيكًا للهيمنة اللغويّة الاستعماريّة. كما تقول الباحثة "Deborah Wong"، فإن "تعدّد اللغات في الصوت الغنائي يخلق فضاءً هجينًا يُقوّض الهيمنة الأحاديّة للغة السلطة". أغنيتها "Malaika" على سبيل المثال، ليست فقط رومانسيّة بل تنطوي على استعادة ثقافيّة لصوت أفريقي يتجاوز حدود الاستعمار اللغوي.
جسّدت تلك الأغاني مقولة بول ريكور حول 'الذاكرة كفعل سردي'، إذ صارت الأغنية سردًا بديلًا للتاريخ الرسمي، وموقعًا لتمثيل المسكوت عنه
تعتمد العديد من أغاني ماكيبا على إيقاعات موسيقى mbube، إضافة إلى أنماط marabi وkwela ذات الجذور الشعبيّة الحضريّة في جنوب أفريقيا. يُلاحظ أنّ هذه الإيقاعات ترتكز على تكرارات بوليفونية، ومزج بين البنية الدائرية والتدفق الحُرّ، ما يُشكّل، بحسب Thomas Turino، "نموذجًا للمجتمعات الشفوية التي ترى الزمن بوصفه تراكبًا لا خطيّة".
في أغنيتها Pata Pata"" (1967)، تبدو الأغنية خفيفة السطح، ولكنّها تنطوي على بنية رمزيّة تُعيد تمثيل الجسد الأسود في الحيّز الحضري، من خلال رقص جماعي علني، بما يتجاوز قوالب الترفيه ليُصبح شكلًا من المقاومة الجسديّة ضد القيود الاجتماعيّة والسياسيّة.
كما تبدأ كثير من أغاني ماكيبا بصيغ حواريّة، أقرب إلى call and response، كما في التقاليد الشفوية الأفريقيّة، حيث يؤدّي الغناء دور "الراوي الجمعي". في أغنية "Soweto Blues" التي كتبتها وأدّتها بعد مذبحة سويتو عام 1976، يتداخل السرد السياسي مع تعبير صوتي درامي، إذ تتحوّل الأغنية إلى مرثيّة وطنيّة، تُعيد كتابة تاريخ لحظة قمع لا تظهر في السرد الرسمي. يُلاحظ هنا أنّ الأداء الصوتي يتنقّل بين النبرة الحادّة، والتنهّدات، والانخفاض المفاجئ في التردّدات، ما يعكس، على مستوى الصوت، ما تسميه Nina Sun Eidsheim بـ"الهوية الصوتية المرهَقة"، أي التي تحمل في حنجرتها أثر الاضطهاد الاجتماعي.
في ضوء مقولات إدوارد سعيد حول 'المنفي باعتباره كاتبًا هامشيًا'، يمكن القول إن ماكيبا أعادت موضعة صوتها داخل سردية عالمية للمُهمَّشين
تمزج ماكيبا أيضًا بين الترانيم الدينيّة (gospel) والأنماط العلمانية، في إعادة صياغة للروابط بين الروحاني والسياسي. يظهر ذلك جليًا في أغنية "A Luta Continua" التي تُستعاد فيها صيغة المقاومة السياسيّة عبر لحن يحمل إيقاعًا شبه طقسي، ما يجعل من الحفل الغنائي طقسًا جماعيًا للذكرى والمقاومة.
حسب " Judith Butler"، فإن الجسد الذي يتكلّم - أو يغنّي - يُنتج خطابًا من خلال حضوره الصوتي. وهنا، يصبح صوت ماكيبا ليس مجرّد ناقلٍ للمعنى، بل هو ذاته أثرٌ تاريخي وماديّ وحيّ. فالصوت عند ماكيبا يحمل طبقات من الزمن: الماضي القَبلي والمنفى والنضال والحنين. يُمكن فهم هذا من خلال تحليلات علم الأصوات الاجتماعيّة (Sociophonetics) التي تدرس كيف يُشفّر الصوت الانفعالات والانتماءات الطبقيّة والثقافيّة.
في ضوء ما تمّ استعراضه، يتّضح أنّ ماريام ماكيبا ليست مجرّد فنّانة غنائيّة، بل هي رمز ثقافي وجمالي يتجاوز حدود الفن، ليصبح أداة مقاومة وموقعًا لإعادة تشكيل الذاكرة الجمعيّة. إنّ تجربتها الفنّيّة، التي نشأت في سياق العنف الاستعماري والفصل العنصري، تقدّم نموذجًا فريدًا لكيفيّة استخدام الصوت كأداة للتحرّر والتمثيل الهويّاتي.
لم تقتصر ماكيبا من خلال أعمالها، على إحياء التراث، بل ساهمت في إعادة تدوير ذاكرة الجماعة بلغة فنّيّة حداثيّة، مدمجة بين الأبعاد السياسيّة والاجتماعيّة. كما أنّ تحليلات موسيقاها تكشف عن رؤية عميقة للأصوات الثقافيّة والهويّات الجمعيّة، حيث يتداخل فيها الفن مع المقاومة، والجسد مع التاريخ، والذاكرة مع الهويّات الهجينة.
إنّ إرث ماكيبا لا يقتصر على كونها أيقونة ثقافيّة، بل يعكس أيضًا قدرة الفن على تحويل الصوت إلى فعل سياسي، قادر على إحداث التغيير وإعادة تشكيل الواقع. وعليه، تظلّ تجربة ماكيبا نموذجًا يُحتذى به في كيفيّة استخدام الفن كأداة للكفاح ضدّ الأنظمة القمعيّة، وكيف يمكن للفن أن يكون وسيلة لإعادة تعريف الهويّة، وتحقيق التضامن العابر للحدود القوميّة.