الخميس 15 مايو 2025
شهد القرن الأفريقي، بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، سلسلة من التحولات العميقة، مما جعله أحد أكثر المناطق دينامية في القارة. وقد تميزت هذه الفترة بصعود الإمارات الإسلامية، وانتشار الإسلام بين البدو الصوماليين، وتطوير الشبكات الحضرية، وتعزيز الروابط السياسية والتجارية مع العالم الأوسع. وقد كان الإسلام في قلب هذه التغيرات، حيث أدت المساجد دوراً روحياً ومعمارياً مهماً في عالم متزايد الترابط وغالباً مضطرب.
في مقال علمي نُشر بمجلة "العالم الإسلامي والبحر الأبيض المتوسط" (المعروفة اختصارًا بـ REMAM)، تحت عنوان: "المساجد الحضرية في القرن الأفريقي في العصور الوسطى" استعرض الباحثان كارولينا كورناكس-غوميز وجورجي دي توريس رودريغيز من معهد علوم التراث التابع للمجلس الأعلى للبحث العلمي (Incipit-CSIC) في سانتياغو دي كومبوستيلا بإسبانيا، - وبتمويل من هذا الأخير في إطار برنامج البحث والابتكار التابع للاتحاد الأوروبي ومن طرف مجلس البحوث الأوروبي ووكالة الابتكار الجاليكية - نتائج عمل ميداني أثري استمر سبع سنوات في صوماليلاند. تطرق البحث إلى السمات المعمارية للمساجد الوسيطة في المنطقة، مع تسليط الضوء على دورها في تشكيل المشهد الثقافي والسياسي للقرن الأفريقي. من خلال مقارنة هذه المباني بنماذج من مناطق مجاورة مثل إثيوبيا وجيبوتي، كشف البحث عن أنماط وتأثيرات إقليمية تعكس التاريخ الأوسع لوصول الإسلام وانتشاره في المنطقة.
لقد طغى على دراسة علم الآثار الإسلامي الوسيط في القرن الأفريقي، على مدى طول القرن العشرين، عظمة المعالم الأثرية في مرتفعات إثيوبيا. ومع ذلك، بدأت المشاريع الأثرية الحديثة في شمال إثيوبيا، و"إفات"، و"نورا"، و"هارلا"، وصوماليلاند بمحاولة تجاوز هذا الإغفال. وقد أبانت هذه الجهود عن رؤى جديدة حول كيفية وصول الإسلام وترسيخه وتوسعه في المنطقة، وكذلك حول التعبيرات المادية لهذه العمليات.
وثقت الأبحاث الأثرية في صوماليلاند، خمسة عشر مسجداً وسيطاً، معظمها في المنطقة الغربية المحاذية لإثيوبيا. تعود هذه المساجد إلى الفترة ما بين القرن الرابع عشر والسادس عشر؛ وتظهر توحداً ملحوظاً في تقنيات البناء والميزات المعمارية، مثل: المحاريب البارزة وغياب المآذن؛ حيث تشير هذه الوحدة إلى هوية ثقافية مشتركة بين المجتمعات المسلمة في غرب صوماليلاند، تأثرت على الأرجح بسلطنات إثيوبيا المجاورة.
تُظهر المساجد الداخلية - لا سيما تلك الواقعة في غرب صوماليلاند - أسلوباً معمارياً موحداً يتميز ببناء الحجر الجاف والتصاميم البسيطة والوظيفية. في المقابل، تتميز المساجد الساحلية، مثل تلك الموجودة في مدينة "زيلع" التاريخية، بميزات أكثر تفصيلاً، بما في ذلك المآذن الدائرية والزخارف والأقواس المتعددة الفصوص. تعكس هذه الاختلافات اندماج زيلع في شبكات التجارة في المحيط الهندي، وصلاتها بالعالم الإسلامي الأوسع.
من أبرز الاكتشافات التنوع في اتجاهات المساجد، ففي حين أن معظم المساجد في القرن الأفريقي تتجه نحو الشمال، فإن بعضها في صوماليلاند يتجه نحو الشمال الشرقي أو الشمال الغربي. ما قد يعكس تأثير المساجد الإثيوبية التي تبنت اتجاهاً مشابهاً خلال القرون الأولى لوجود الإسلام في المنطقة.
تشترك مساجد غرب صوماليلاند في أوجه شبه كبيرة مع تلك الموجودة في مناطق "إفات" و"هرر" في إثيوبيا، مما يشير إلى تقليد معماري مشترك مرتبط بالسلطنات الوسيطة التي هيمنت على المنطقة. ومع ذلك، تظهر الاختلافات في تصميم المحاريب، ووجود النقوش الكتابية، واستخدام العناصر الزخرفية تنوعات محلية وتطورات تاريخية.
الشكل 2: موقع المساجد في المواقع الوسيطة بصوماليلاند
أبرز اكتشاف حديث، في جيبوتي، لمسجدين كبيرين في المستوطنة الوسيطة "هندوجا" عن المزيد من الأدلة على الروابط الإقليمية. تتشابه هذه المساجد، بمحاريبها البارزة وساحاتها الأمامية، مع تلك الموجودة في غرب صوماليلاند، لكنها تعكس أيضاً خصائص محلية فريدة.
على الرغم من التقدم الملحوظ في دراسة الإسلام الوسيط في القرن الأفريقي خلال العقد الأخير، إلا أن البحث لا يزال يعاني من تفاوت كبير على مستوى شموله لمختلف أنحاء المنطقة. بدأت دراسة العمارة الإسلامية، في إثيوبيا، في وقت مبكر - حيث شُرع فيها خلال عشرينيات القرن الماضي في منطقة هرر؛ واستمرت لاحقًا في ثلاثينيات القرن مع المسوحات الطبوغرافية التي أجراها A.T. Curle على جانبي الحدود الإثيوبية البريطانية. ورغم التزايد المطرد في عدد المواقع الإسلامية الوسيطة المكتشفة خلال القرن العشرين، فقد ظلت الحفريات والمشاريع طويلة الأجل نادرة حتى وقت قريب.
ورغم التقطع الزمني للأبحاث منذ العشرينيات، فقد شهدت في جبل تشار تشار، تقدمًا مع إطلاق مشروع بحثي جديد يركز على بلدة هرلاء الوسيطة والمناطق المحيطة بها، حيث تم توثيق العديد من المساجد وحفر أحدها جزئيًا. أما في إفات، فقد شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين توثيق مواقع هامة مثل نوري، فقي دباس وأسبرى، مع تحديد عدد من المساجد المحفوظة جيدًا، والتي كانت موضع دراسات متخصصة.
تظل المعلومات حول المواقع الإسلامية الوسيطة، خارج هذه المناطق الثلاث، شحيحة للغاية. فعلى سبيل المثال، كان موقع روغاي في منطقة أوغادين هو الموقع الدائم والوحيد المعروف حتى وقت قريب، ويحتوي على مسجد فريد بساحة داخلية وأقواس مزخرفة. تم اكتشاف موقع وسيط جديد في ولاية الصومال الإثيوبية، وفي عام 2018، يُعرف باسم ديربي بلانبل، حيث وُثق مسجد يتميز بأقواس مستديرة ومدببة...
لقد تم جمع معلومات تفصيلية حول تسعة مساجد وسيطة في إثيوبيا، ثمانية منها في منطقة "إفات" وواحد في "هارلا". تتشابه هذه المساجد في تقنيات البناء مع نظيراتها في غرب صوماليلاند، لكنها تختلف من حيث التفاصيل المعمارية؛ فالمحاريب المدمجة داخل جدار القبلة هي السمة الغالبة في مساجد إثيوبيا، على عكس المحاريب البارزة الموجودة في غرب صوماليلاند.
لا تزال هناك مناطق مثل: "دنكل" و"الو" و"وادي العواش" غير مستكشفة بشكل كبير، مما يفتح المجال لاكتشاف مواقع جديدة في المستقبل. ويمكن لموقع هندوجا في جيبوتي الذي خضع للدراسة في السبعينيات، أن يقدم رؤى إضافية حول عمارة مساجد منطقة دنكل. تم توثيق مسجدين جديدين - في حملة 2022 - في هندوجا، يظهران ميزات معمارية، مثل الساحات الأمامية المنحنية والمحاريب المربعة البارزة.
أما مساجد زيلع الساحلية، فتبرز ارتباطاتها الوثيقة بالمدن الساحلية الصومالية، مثل مقديشو والبحر الأحمر، ما يعكس تفاعلها مع العالم الإسلامي الأوسع. شرقًا، يقدم موقع مادونا نموذجًا فريدًا لمدينة وسيطة في سياق بدوي، مع تحديد ثلاث مستوطنات أخرى حديثًا في "بونتلاند" تظهر تأثيرات معمارية مشابهة، ما يدل على طابع العمارة البدوية المميز.
على الرغم من صغر حجم العينة المدروسة، فإن المساجد في القرن الأفريقي تقدم بيانات قيمة ليس فقط على مستواها المعماري، بل على مستواها التاريخي والثقافي والسياسي الذي شُيدت فيه هذه المساجد. من الناحية الجغرافية، هناك أدلة متزايدة تشير إلى أن المساجد الوسيطة الموثقة في صوماليلاند تأثرت على الأقل بثلاث تقاليد معمارية مختلفة. يمكن ملاحظة اختلافات كبيرة بين المساجد الساحلية في زيلع وتلك الموجودة في المناطق الداخلية. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المساجد في غرب صوماليلاند، القريبة من الحدود مع إثيوبيا، قد بُنيت في سياق مختلف عن المساجد في بلدة مثل "مادونا". تحديد هذه الاختلافات الإقليمية ليس جديدًا، حيث اقترح ستيفان برادينس سابقًا وجود نمط معماري مميز للمساجد الموجودة في منطقة "إفات"، بناءً على مجموعة من الخصائص المعمارية – مثل الأحجار الزاوية عند أعلى المحراب، وتقنية البناء الجاف، والمحراب البسيط للغاية، والمئذنة التي تأخذ شكل السلم – وكلها مرتبطة بسلطنة بار سعد الدين
تشبه المساجد الموثقة في غرب صوماليلاند والمسجد الذي تم التنقيب عنه في "هارلا" مساجد "إفات"، مما يعزز فكرة وجود نمط إقليمي يرتبط بالمجتمعات والسياسات الإسلامية التي سيطرت على الجزء الجنوبي الشرقي مما يُعرف اليوم بإثيوبيا. ومع ذلك، هناك بعض الاختلافات بين مساجد غرب صوماليلاند وتلك الموجودة في إثيوبيا، بما في ذلك المحاريب الغائرة الكبيرة، غياب المآذن، وجود النقوش والزخارف الكتابية، ومحاريب أقل تفصيلًا. يمكن تفسير هذه الاختلافات على أنها اختلافات محلية في الأسلوب، لكنها قد تكون مرتبطة بسهولة بفترات تاريخية مختلفة. بشكل عام، تُظهر المواد المكتشفة في المواقع الوسيطة في غرب صوماليلاند تسلسلًا زمنيًا متسقًا يعود إلى فترة سلطنة بار سعد الدين (حوالي 1415-1573). أما المستوطنات الواقعة في منطقتي "إفات" و"هرر"، فلها تواريخ أقدم، وهو ما يتناسب مع موقعها في منطقة ذات تقاليد إسلامية أقدم ظهرت منها السياسات الإسلامية الرئيسية في القرن الأفريقي.
وصل الإسلام عبر التجارة، عن طريق المستوطنات الساحلية، ولكن في سياقين مختلفين تمامًا. كان معظم النشاط التجاري على الساحل الصومالي خلال الفترة الوسيطة، يتم عبر معسكرات موسمية للبدو الرحّل، والتي لم تتطور إلى مراكز حضرية. كانت زيلع المدينة الساحلية الوحيدة خلال معظم الفترة الوسيطة، حتى تطور بربرة وميط، وهما مراكز تجارية أصبحت لاحقًا مستوطنات دائمة في تاريخ غير محدد. كان السياق التاريخي والاقتصادي والثقافي لزيلع مرتبطًا دائمًا بالبحر الأحمر، بينما شمل العالم الإسلامي الأوسع اتصالات دينية نشطة مع المراكز الإسلامية الرئيسية في البحر المتوسط والشرق الأدنى. توجد إشارات إلى مبانٍ مخصصة لطلاب زيلع في المسجد الأموي بدمشق ومسجد الأزهر في القاهرة، مما يشير إلى أن زيلع كانت في سياق مختلف تمامًا عن البلدات الداخلية في غرب صوماليلاند وإثيوبيا. وأخيرًا، يمثل موقع مادونا مثالًا فريدًا للمساجد الوسيطة في منطقة خالية من التأثيرات السياسية للدولة، حيث يُرجح أن الإسلام تطور في بيئة بدوية بالكامل عبر نشاط الدعاة المسلمين الذين كانوا نشطين في المنطقة منذ القرن الثالث عشر فصاعدًا.
من الواضح أن هناك حاجة إلى المزيد من الأبحاث حول المساجد الوسيطة في القرن الأفريقي، حيث لا تزال هناك فجوات كبيرة في فهمنا للسياقات التاريخية والثقافية والزمنية والمادية التي بُنيت واستخدمت فيها المساجد في تلك الحقبة. ومع ذلك، تُظهر البيانات الجديدة من صوماليلاند، والتي قُدمت في هذه الورقة، أنه حتى المعلومات المحدودة يمكن أن تلقي الضوء على الديناميات التاريخية لمنطقة أوسع. إلى جانب دراسة ماديتها والرابط الواضح بين المساجد ووجود المجتمعات المسلمة، يمكن لهذه المباني الأفريقية أن تكون مدخلًا لفهم التفاعلات بين المعتقدات الدينية والسلطة السياسية والمجتمعات خلال الفترة الوسيطة.