تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الاثنين 24 مارس 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
سياسة

معارك على أبواب القصر في تشاد.. من ولماذا؟

19 يناير, 2025
الصورة
geeska cover
Share

شهدت العاصمة التشادية ليلة 8 يناير/ كانون الثاني الجاري هجوما مسلحا على القصر الرئاسي، انتهى بصد المهاجمين بعد نحو ساعة من الاشتباك مع القوات التشادية. جميع أفراد المجموعة المكونة من 24 شخصا سقطوا بين قتيل وجريج، وفق إفادة وزير الخارجية المتحدث باسم الحكومة التشادية عبد الرحمن كلام الله من مكان الحادث، حيث أعلن بأن "الوضع تحت السيطرة بالكامل" بعدما "جرى القضاء على محاولة زعزعة الاستقرار".

تضاربت الروايات حول منفذي الهجوم، فوكالة "فرانس 24" نقلا عن مصدر أمني، تحدثت عن انتماء المهاجمين إلى جماعة بوكو حرام، التي تنشط في منطقة بحيرة تشاد على الحدود مع الكاميرون ونيجريا والنيجر. رواية فرنسية ضعيفة وبلا سند، خصوصا أن الجماعة لم تُعلن مسؤوليتها عن الحادثة، سيرا على عادتها عند كل هجوم.

كما استعبد مراقبون هذه الفرضية إلى أبعد الحدود، إذ لا يعقل أن تقدِم جماعة بوكو حرام على هذه المغامرة، بفريق قوامه 24 فردا فقط، مجهزين بأسلحة خفيفة وتقليدية كتلك التي استخدمت في الهجوم، لمواجهة نحو 3 آلاف عسكري يحيطون بالقصر الرئاسي الذي هو أشبه بثكنة عسكرية.

لاحقا، نفى عبد الرحمن كلام الله، المتحدث باسم الحكومة التشادية، ضلوع تنظيم بوكو حرام في تنفيذه العملية، مشيرا أن منفذي الهجوم "تشاديون يجري التحقيق لمعرفة دوافعهم، ولا علاقة للهجوم بمنظمة إرهابية معروفة، وأنهم قدموا من أحد أحياء العاصمة، وبحوزتهم أسلحة بيضاء، ونارية خفيفة، وكلهم ينتمون لقبيلة واحدة".

حرب كلامية ساخنة 

حاول الكثيرون ربط الهجوم على القصر الرئاسي بالحرب الكلامية بين أندجامينا وباريس، فقبل 48 ساعة من الحادثة، كان الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي قد هاجم إيمانويل ماكرون، في سياق الرد على إهانته لأفريقيا والأفارقة، بقوله: "أود أن أعرب عن استيائي من التصريحات التي أدلى بها أخيرا، الرئيس ماكرون، وتصل إلى حد ازدراء أفريقيا والأفارقة، وأعتقد أنه أخطأ في الحقبة الزمنية".

من جهتها، استهجنت وزارة الخارجية التشادية، على حسابها في فايسبوك، كلام الزعيم الفرنسي، مؤكدة أن "التاريخ يشهد على أن أفريقيا بما في ذلك تشاد، لعبت دورا حاسما في تحرير فرنسا أثناء الحربين العالميين، وهي الحقيقة التي لم تعترف بها فرنسا قط"، واسترسل البيان بأنه "تم التقليل من أهمية التضحيات الهائلة التي قدمها الجنود الأفارقة دفاعا عن الحرية، ولم يتم التعبير عن أي شكر ذي معنى"، موكدا أنه "يتعيّن على القادة الفرنسيين أن يتعلموا احترام الشعوب الأفريقية والاعتراف بقيمة تضحياتهم".

كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مستفزا للشعور العام، بتصريحاته المعادية وذات الحمولة الاستعلائية، في المؤتمر السنوي للسفراء بباريس، في 6 يناير/ كانون الثاني الجاري، حيث هاجم بشكل مباشر الزعماء الأفارقة، قائلا: "فرنسا كانت على حق في التدخل عسكريا في منطقة الساحل ضد الإرهاب منذ عام 2013، لكن القادة الأفارقة نسوا أن يقولوا: شكرا"، ثم أضاف في ما يشبه التهكم "أيا من هذه الدول ما كان لها أن تستقل لولا التدخل الفرنسي لدعمها لنيل استقلالها، وأن أحدا منهم يستطيع إدارة دولة ذات سيادة من دون تدخل". 

واصل ماكرون المكابرة، رافضا القول بأن ما يحدث في أفريقيا طرد لفرنسا، معتبرا أن باريس اقترحت على رؤساء الدول الأفريقية إعادة تنظيم الوجود العسكري الفرنسي، ثم يضيف في كذب بواح لن يصدقه أحد "بما أننا مهذبون للغاية، فقد سمحنا لهم بالأولوية في الإعلان". 

أضاف الزعيم الفرنسي – وهو يتحدث عن جمهورية فرنسية في الخيال لا تلك التي عرفها الأفارقة جيدا أيام الاستعمار وزمن الاستقلال، بأن بلاده غادرت المنطقة "لأن بها انقلابات، لأننا كنا هناك بناء على طلب دول ذات سيادة، ومنذ اللحظة التي حدثت فيها الانقلابات، عندما قال الناس رن أولويتنا لم تعد هي الحرب ضد الإرهاب، لم يعد لفرنسا مكانها".

حرب نفوذ سابقة 

اندلعت قبل هذا التراشق الكلامي حرب نفود كبرى، حين أعلنت تشاد على لسان وزير الخارجية، في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عن إلغاء بلاده اتفاقيات التعاون الأمني والدفاعي مع فرنسا، بعد مضي ساعات قليلة على زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو لتشاد.

تزامن هذا القرار القاضي بإجلاء نحو ألف جندي فرنسي عن تشاد، التي كانت من الحلفاء التاريخيين لفرنسا في أفريقيا، مع احتفال البلاد بعيد إعلان الجمهورية التشادية، في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958، في رمزية شديدة، تؤكد كما جاء على لسان المسؤول التشادي "سيادة تشاد الكاملة". 

 قرار لم يتردد الفرنسي تييري مارياني، العضو في البرلمان الأوروبي، في وصفه ب"الكارثة السياسية للخارجية الفرنسية". واعتبرت مجلة "لوبوان" الفرنسية في مقال لها بعنوان "فرنسا أكثر هشاشة من أي وقت مضى" بأن هذه "التطورات تعد منعطفا حقيقيا في علاقة القارة الأفريقية بفرنسا التي كانت إلى جانب بريطانيا قوة استعمارية رئيسية".

لقد كانت تشاد ملاذ الجيش الفرنسي مع تصاعد المد المعادي للوجود الفرنسي، بمنطقة الساحل، في صفوف شعوب هذه الدول، فكانت وجهة القوات الفرنسية بعد الرحيل عن مالي وبوركينافاسو، ما جعل مسؤولا كبيرا في وزارة الخارجية الفرنسية يعترف، في بداية المناوشات بين باريس وأندجامينا، في سبتمبر/ أيلول الماضي، بأن باريس "لا تستطيع أن تتحمل خسارة تشاد". 

تخسر باريس بذلك دولة شهدت العدد الأكبر من التدخلات العسكرية الفرنسية في أفريقيا، فقد تدخلت باريس عسكريا في الصراعات الداخلية في البلد أو مع دول الجوار. في البداية، اقتصر الدور الفرنسي على التحرك خلف الكواليس، بتقديم معلومات استخباراتية أو التزويد بالذخيرة... لاحقا تطور إلى التدخل بشكل مباشر، كما حدث عام 2019، باستخدام الطائرات ضد المتمردين، ما ساهم بشكل حاسم في هزيمتهم.

واضح أن فرنسا كانت تتعامل مع تشاد بمنطق الوصاية، فهي أقرب ما تكون إلى تكريس رؤية أبوية تنهض بموجبها بشؤون البلاد، فالتشاديون، في منظور الحاكمين في باريس، غير قادرين أو بالأحرى غير مؤهلين، كما كشفت عن ذلك تصريحات ماكرون الفجة، لاختيار النظام السياسي الأنسب لهم بحرية وبلا وصاية.

ما وراء الهجوم؟ 

يساعد استحضار السياقات السابقة في فهم دلالات هجوم بهذه الطريقة، فلا يمكن قطعا أن يكون عشوائيا، بل وراءه أكثر من رسالة، فالجهة التي تكون قد حركته أو حتى ربما فقط أوحت إليه، تريد من خلاله مخاطبة أطراف أخرى برسائل واضحة ومباشرة لا تخطئها العين.

فرضا أن فرنسا من وقف وراء الحادث، فالمؤكد أنها تريد من خلاله توجيه رسالة إلى الشعب والحكومة في البلد مفادها أن باريس، وتناغما مع سردية الرئيس إيمانويل ماكرون، لم تكن يوما عقبة أمام دول القارة، بل على العكس هذه الأخيرة هي العاجزة عن الحكم بمعزل عن الدعم الفرنسي، وهاكم الدليل على ذلك.

وحتى إن لم تكن باريس ضالعة بشكل مباشر في الهجوم، الذي تحوم حول كيفيات تنفيذه الكثير من الشكوك، فإنها تبقى أحد أكبر المستفيدين منه. لأن، وبكل بساطة، يفند رواية النظام الحاكم للشعب التشادي، عن قدرته على تدبير شؤونه الأمنية بنفسه دون الحاجة إلى دعم فرنسا أو غيرها.

وربما يكون القصد من ورائه إجبار حكومة ديبي المتمردة على الجلوس إلى الطاولة، من أجل التفاوض مع باريس بغية الوصول إلى اتفاقيات جديدة، تضمن مواصلة فرنسا حضورها في تشاد. تزيد توقيت تنفيذ الهجوم هذه الفرضية رجاحة، حيث جاءت بعد إتمام وزير الخارجية الصينية وانج يي زيارة إلى دول المنطقة، حيث كانت تشاد المحطة ما قبل الأخيرة في جولته بدول الساحل.

يحتمل أن يكون الحادث صنيعة بأيادي محلية، فتدبيره قد يكون بغرض الاستهلاك الداخلي بإبراز قدرة النظام على الدفاع عن نفسه. يعزز هذا القول ما أعقب الحادث من حرص وزير الخارجية على الظهور في موقع الحدث بمسدس في خاصرته وسط جنود، ما يعني استطاعة مؤسسات تشاد ضبط الأمور دون استدعاء الأجانب.

يمكن أن يكون الهجوم على القصر الرئاسي، مع ما يعنيه ذلك من استهداف مباشر للرئيس، فرصة سانحة للرجل لتشديد قبضته الأمنية على البلاد، بإعادة هيكلية الجيش والأمن لضمان الولاء والحيلولة دون تسلل فرنسا إلى تشاد عبر هؤلاء، وهذا من أفضل أساليبها المعروفة في أفريقيا.