الأربعاء 9 أكتوبر 2024
قلة الترجمات المتعلقة بالسيرة الذاتية لمالكولم اكس كانت سبباً في انتشار المعلومات المنقوصة، والملفقة حول حياته، فهناك من يتعامل معه كواعظ ديني يحارب الكفار في أمريكا أو شوفيني متعصب، يرى العالم من خلال العرق. طبعا، الادعاء الأكبر بأن أفكار مالكولم تغيرت بشكل راديكالي، عند زيارته للسعودية وهذا غير صحيح. بالفعل تأثر ببعض المشاهد، لكن زيارته إلى القارة الأفريقية، كان لها الإنعكاس الأكبر على حياته، والدليل علي ذلك أنه بعد انفصاله عن جماعة "أمة الإسلام"، والعودة من أفريقيا، لم يؤسس جماعة دينية ينظم بداخلها المسلمين السود فقط، لكنه شيد منظمة الوحدة الأفروأمريكية (OAAU) تأثراً وقتئذ بمنظمة الوحدة الأفريقية.
يرصد هذا المقال، إحدى المحطات الهامة في حياة مالكولم اكس داخل القارة الأفريقية؛ رحلته إلى تنزانيا. في أوائل الستينيات، كانت تنزانيا مقراً طليعيا وداعما لحركات التحرر الأفريقية. عاش فيها سام نجوما وأوليفر تامبو وسامورا ماشيل وامليكار كابرال. وكانت العاصمة دار السلامالمكان المناسب لك إذا كنت ثوريًا، ليس فقط على المستوى الإقليمي بل حتى الأممي.
لقد جاء إليها مالكوم إكس وتشي جيفارا، في نهاية عام 1964 وبداية عام1965 . أتى مالكوم إلى تنزانيا في أكتوبر/تشرين الأول من عام .1964 كانت البلاد تُعرف حينها باسم "تنجانيقا وزنجبار"، حتى شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث اتخذت الاسم الجديد. لفهم انجذاب مالكولم لتنزانيا، من المهم العودة إلى قمة منظمة الوحدة الأفريقية الثانية في القاهرة، التي عقدت في الفترة ما بين 17 و 21يوليو/ تموز 1964، وجولته في غرب إفريقيا، من أبريل/ نيسان إلى مايو/ أيار 1964. كانت هذه أول تجربتين تحول في حياته، بعد أن انفصل عن حركة "أمة الإسلام"، ثم بدأ ترسيخ قناعاته بأفكار البان افريكانزيم. شعر مالكولم بأنه في منزله أينما ذهب في غانا ونيجيريا ومصر أو تنزانيا.
عاد إلى الولايات المتحدة، في مايو/ أيار عام 1964، مصمماً على بدء منظمة جديدة، وإقامة روابط قوية مع الأفارقة. أسس منظمة وحدة الأفروأمريكان (OAAU)، على غرار منظمة الوحدة الأفريقية. واتخذ قراره لحضور قمة منظمة الوحدة الأفريقية في القاهرة، من أجل دعم رؤساء الدول الأفريقية لحملته ضد السياسات العنصرية الفاشية التي تواجه السود في الولايات المتحدة الأمريكية.
عندما انعقدت القمة الثانية لمنظمة الوحدة الأفريقية في القاهرة، في الفترة من 17 إلى 21 يوليو/ تموز 1964، مُنح مالكولم صفة مراقب، وسُمح له بتقديم مذكرة إلى المندوبين، أكد فيها ببلاغة، على الروابط التاريخية بين أفارقة "الدياسبورا" وأفارقة "القارة"، وحلل برصانة كيف أن السود في الشتات وفي القارة قد تحملوا المصاعب، لأكثر من ثلاثمائة عام، بسبب العبودية والاستغلال والتمييز العنصري. وكتب في المذكرة: "مشكلتنا هي مشكلتك ..نطلب من الدول الأفريقية المستقلة مساعدتنا في عرض مشكلتنا أمام الأمم المتحدة".
في البداية واجه مالكوم الصعوبة من أجل إقناع بعض رؤساء الدول الأفريقية بمبادرته، ليس لأنه كان شخصا مغمورا حينها، وإنما لأن هناك دولا تم استخذامها من قبل المعسكر الغربي. لكن كل شيء تغير بعد انضمام وفد من تنجانيقا وزنجبار إلى المؤتمر، والذي ضم كلا من: جوليوس نيريري وعبد الرحمن بابو وسالم أ. سالم. لقد صار هذا المؤتمر أسطوريًا في سجلات التاريخ الأفريقي، لأن نيريري وكوامي نكروما أعلنوا بشكل صريح دعم الكفاح التحريري المسلح في جنوب إفريقيا، واستراتيجية تحقيق الوحدة الأفريقية. كما تبنوا قرارا يعالج محنة الأمريكيين من أصل أفريقي، صاغه مالكولم، وبدعم من تنجانيقا وزنجبار.
هناك القليل من التفاصيل حول كيفية ارتباط مالكولم بوفد تنجانيقا وزنجبار في القاهرة، ولا سميا بعبد الرحمن بابو؛ الماركسي الثوري من زنجبار، الذي سيصبح لاحقاً وزيرا. كتب بابو أن مالكولم ذهب إلى غرفته بالفندق، في وقت متأخر من الليل، أثناء القمة، وهو محبط وعلى استعدادا للمغادرة، دون أن تكون لديه وجهة محددة، حيث كانت أعمال الشغب قد اندلعت للتو في موطنه في هارلم.
كان بابو من بين الأشخاص الذين أقنعوا مالكولم بالبقاء في القاهرة، للمساعدة على تسليط الضوء على كفاح الأفروأمريكان، والحصول على الدعم في الأمم المتحدة. لم يتم تمرير القرار حتى الليلة الأخيرة من القمة، على الساعة 2:30 صباحًا، وتولى بابو نقل الأخبار السارة إلى مالكولم. أثار قرار منظمة الوحدة الأفريقية AHG / Res.) بعنوان (التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية)، انزعاج الولايات المتحدة الأمريكية التي أعربت عن مخاوفها بشأن هذا التحرك المفاجئ.
كان هذا الدعم دافعا وراء زيارة مالكولم إلى تنجانيقا وزنجبار بعد القمة، فقد شكل تمرير القرار انتصارا للأفروأمريكان. بعد حوالي شهرين في مصر، قرر مالكولم القيام بجولة في شرق إفريقيا، وكانت إثيوبيا المحطة الأولى، في 30 سبتمبر/ أيلول 1964، حيث التقى بعدد من الطلاب وقيادات الحركات اليسارية. كما التقى مجددا بابو في إثيوبيا، حيث بدأ الاثنان في تكوين صداقة وثيقة بشكل أكبر.
استقل مالكولم رحلة يوم 9 أكتوبر/ تشرين الأول إلى نيروبي، مرورا بزنجبار وصولاً إلى تنجانيقا. وقتها، كانت دار السلام تمر بفترة مضطربة، في أعقاب ثورة 12 يناير/ كانون الثاني في زنجبار، وتمرد الجيش في 20 يناير/ كانون الثاني 1964. في الكونغو كان العنف يلوح في الأفق، مهددا بزعزعة استقرار المنطقة. وكانت المخاوف على الحدود بين تنجانيقا والموزمبيق، لأن حركة فريليمو الماركسية شنت للتو حملتها العسكرية الأولى ضد البرتغاليين. لكن شعب تنجانيقا وزنجبار بالرغم من ذلك، قدم ضيافة عظيمة لمالكولم.
في أول أيامه في دار السلام، قرر مالكولم البقاء في أفريكا هاوس الجديدة (New Africa House)، أحد فنادق التقاء أعضاء وكوادر حركات التحرر الإفريقية، حيث التقى بناثانيال ناكاسا؛ الصحفي الجنوب الإفريقي الذي فرللتو من الأبارتايد، وكان في طريقه للحصول على منحة دراسية في الولايات المتحدة. أمضى الرجلان عدة أمسيات تحدث فيها عن مواضيع مختلفة. كتب ناكاسا لاحقًا، أنه وجد مالكولم شخصًا مغاير عن ما قيل عنه في وسائل الإعلام الأمريكية، التي روجته عنه صورة غير صحيحة، ومدمرة لسيرته الذاتية. أعجب ناكاسا كثيرا بمالكولم، وقرر اصطحابه إلى حفلة عيد ميلاد أقامها دبلوماسي من السفارة الجزائرية، مساء يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول، تعرف خلالها مالكولم على مجموعة متنوعة من الضيوف؛ دبلوماسيين ومسؤولين في حركات التحرر مغتربين، ومنفيين من جميع أنحاء القارة الأفريقية. قضى اليوم الموالي في ضواحي دار السلام ، في لقاء مع طلاب جامعة هارفارد ومعهد رادكليف الذين كانوا يدرسون في تنجانيقا.
استيقظ مالكولم مبكرًا، في أول يوم عمل في دار السلام؛ 12 أكتوبر/ تشرين الأول 1964، حيث أجرى معه مراسل هندي مقابلة، ولاحقًا مراسل من Tanganyika Standard، ومن قبل Tanzania Broadcast، ثم دعاه عبد الرحمن بابو للقاء. كتب مالكولم في مذكراته أن بابو كان" يتعامل بشكل غير رسمي وودود للغاية"، كما وصفه بأنه "رجل يقظ للغاية، ومكرس لما يؤمن بأفكار تقدمية". عامل بابو مالكولم كأحد أفراد عائلته، فكان هذا الأخير يتردد على منزله، والتقى بزوجته وطفليه. لاحظ مالكولم أن مشاغل بابو وسفره الدائم، لم يحولا دون تفاعله الدائم مع عائلته في دار السلام. مثل ذلك درسًا مهمًا لمالكولم الذي كان رجل عائلة ملتزم، لكن عمله وسفره يشكلان عائقا متزايد أمام عائلته.
في 13 أكتوبر/ تشرين الأول1964 ، استيقظ جمهور تنجانيقا وزنجبار على مقال عن مالكوم إكس نشرته Tanganyika Standard، ذكرت فيه أن الأفروأمريكان بدأوا يرون علاقتهم مع الأفارقة شيئًا لا يمكن إنكاره؛ لقد أدركوا أنهم مرتبطون بأفريقيا. إنها الرسالة التي حملها مالكولم إلى تنزانيا.
في نفس اليوم ذهب مالكولم إلى مكتب بابو حوالي الساعة 1:15 ظهرًا، طالبا مقابلة الزعيم التنزاني "نيريري" الذي كان يستعد لاجتماع رؤساء دول كينيا وأوغندا وروديسيا الشمالية (زامبيا). قيل لمالكولم إن مقابلة نيريري مستحيلة، قبل أن يزوره بابو في اليوم الموالي مخبرا إياه بموعد اللقاء.
ذهب مالكولم مع بابو، في اليوم التالي، إلى مقر الولاية حوالي الساعة 5:45، حيث أمضى مع نيريري ثلاث ساعات في مناقشة مواضيع مختلفة، ساعدت في تغيير وجهات نظر مالكولم حول المكون الدولي لتحديات النضال ضد العنصرية والإمبريالية، قدم خلالها لمضيفه كتيبا من إحدى خطاباته بعنوان "رسالة إلى الشعب".
بعدها بيومين، كانت هناك محطة مهمة أخرى في انتظار مالكولم في السفارة الكوبية في مدينة أوبانجا، بدار السلام، حيث التقى بالسفير والدبلوماسي المرموق، ذي الأصول الأفريقية، رودريغيز. في وقت لاحق من ذلك اليوم، التقى مالكولم مجددا بالرئيس نيريري، وقضى وقتًا طويلاً مع بابو للحديث عن حالة النضال والاستراتيجيات المستقبلية.
في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1964، قضى معظم اليوم يتحدث مع ناكاسا، وبعض الطلاب الأمريكيين البيض وباميلا؛ وهي امرأة يهودية شيوعية من جنوب إفريقيا، تقيم في أفريكا هاوس. كان ناكاسا مندهشا من كيفية تفاعل مالكولم مع البيض. كان من الواضح أن آراء مالكولم حول العرق قد بدأت تتغير، فتجربته في إفريقيا أحدثت تحولًا في الطريقة التي ينظر بها إلى الأجناس المختلفة. وإدراكه أن المشكلة تكمن في النظام الذي يتبناه البيض في أمريكا.
في آخر يوم في تنزانيا، كان هناك اجتماع آخر مهم عقده مالكولم مع كوادر حزب TANU، في منزل المناضلة التنزانية "بيبي تيتي محمد"، لكن تفاصيل الاجتماع غير متوفرة. ومع ذلك، من الواضح أن مالكولم كان لديه فرصة لعرض قضيته، وتبادل الأفكار مع أعضاء الحزب.
في اليوم التالي، سافر مالكولم، وكان معه على نفس الطائرة كينياتا وميلتون أوبوتي من أوغندا، أخبر أحد الوزراء الكينيين كينياتا بأن مالكولم متواجد معهم على متن الرحلة، فأرسل كينياتا في طلبه للجلوس معهم. كان ذلك التقدير والاحترام اللذين يتمتع بهما مالكولم أينما ذهب في إفريقي؛ فقد كان مرتاحًا للتحدث مع رؤساء الدول أو الباعة المتجولين كما كان قادرًا على السفر في جميع أنحاء القارة، ومقابلة الزعماء وأعضاء الحكومات بسهولة.
في ديسمبر/ كانون الأول 1964، التقى مالكوم وبابو للمرة الأخيرة، عندما سافر هذا الأخير إلى نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. شارك بابو في اثنين من المسيرات التي نظمها مالكولم ومنظمته. أفاد بابو لاحقًا أنه اكتشف أن هناك اهتمامًا كبيرًا بتنزانيا، وأفكار البان افريكانزيم، بعد حضور المسيرات التي نظمها مالكولم. ونقلت عنه جريدة "ذا ناشيونالست" اليسارية قوله: إنه لم يدرك من قبل مدى التعاطف والتفاهم والدعم الموجودين في الولايات المتحدة لنضالات الأفارقة. كان هذا هو ما سعى مالكولم إليه؛ بناء أواصر التعاون مع الأفارقة قبل اغتياله. لقد انتابه إحساس من رحلته إلى إفريقيا بأن الأفارقة مهتمون بنضالات الأفروأمريكان، وأنهم مستعدون لتقديم دعمهم، لكن لسوء الحظ، انقطعت الحياة الشابة لمالكولم، قبل أن يستكمل حلمه، بالرصاص يوم 21 فبراير/شباط1965 ، بينما كان يتحدث إلى الجماهير في نيويورك.