الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
دخلت الحرب التي اندلعت في 15 أبريل/نيسان 2023 عامها الثاني، وما تزال رحاها تدور في عدد من المحاور. غير أن التطور اللافت لم يعد في مسار المعارك وحده، بل في إعلان تحالف "تأسيس"، الذي تُعد "الحركة الشعبية/شمال" بقيادة عبد العزيز الحلو، ومليشيا الدعم السريع أبرز أطرافه، عن تشكيل حكومة موازية مقرها مدينة نيالا التي تقع في جنوب دارفور.
يمثل هذا الإعلان الذي قوبل باستخفاف واضح من قبل القوى السياسية والفاعلين، لحظة فارقة في مسار الصراع في السودان، لأنه ينقل المواجهة من ميادين القتال إلى بنية الدولة ذاتها. فهو لا يكرّس فقط حالة الانقسام العسكري والسياسي، بل يفتح الباب أمام واقع سياسي جديد يقوم على ازدواجية الشرعية وتعدد الحكومات على أرض واحدة، على غرار النموذجين الليبي واليمني.
لم يعرف السودان، منذ استقلاله عام 1956، ظاهرة وجود حكومتين متوازيتين على أرضه، فعلى الرغم من كل التناقضات الاجتماعية والسياسية الحادة التي وسمت مرحلة ما قبل الاستقلال، حيث انقسمت النخب بين تيارات تنادي بالوحدة مع مصر وأخرى تطالب بالاستقلال التام، وبين شماليين وجنوبيين يختلفون حول طبيعة الدولة الوليدة، فإن حسم تلك التناقضات تم داخل كيان سياسي واحد.
صحيح أن العملية تمت عبر مؤسسات ناشئة وأحزاب متناحرة، لكنها كانت تجمع - في معظمها - على مرجعية الدولة الواحدة، مع وجود جيوب صغيرة لجماعات ذات نزعات انفصالية. ومع أن ذلك قد أنتج معادلات هشّة، لكنها ضمنت الوحدة الترابية، وإن لم تمنع الانقلابات العسكرية والصراعات المسلحة اللاحقة.
واقع سياسي جديد يقوم على ازدواجية الشرعية وتعدد الحكومات على أرض واحدة، على غرار النموذجين الليبي واليمني
إن الوضع الراهن، الذي شهد تشكيل حكومة موازية مقرها نيالا في مواجهة سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، يعكس دخول السودان مرحلة جديدة من التفكك المؤسسي، ويثير الشك حول مستقبل الدولة ككيان موحد.
إن تجربة وجود مناطق محكومة بمعزل عن السلطة المركزية ليست جديدة في السودان؛ فقد حكمت الحركة الشعبية مناطق مستقلة أطلقت عليها "المناطق المحررة"، واستمرت مثل هذه النماذج مع الحركة الشعبية/شمال ومع حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور. غير أن هذه التجارب، على أهميتها، بقيت محصورة في نطاق جغرافي محدد وذات طابع عسكري ميداني أكثر من كونها مؤسسات حكم كاملة. كما أنها لم تقدم نفسها يوما حكومات موازية للدولة بالمعنى الصريح.
يبقى الجديد في المشهد السوداني هو انتقال هذه السابقة التاريخية من مستوى "الإدارة الذاتية في الأطراف" إلى مستوى "إعلان حكومة موازية"، وهو تحول ينذر بتكريس ازدواجية الشرعية، وتقويض ما تبقى من فكرة الدولة الواحدة، إذ يتجاوز سيطرة الأمر الواقع على الأرض إلى محاولة إعادة تعريف من يمتلك مشروعية الحكم، وحق التحدث باسم الدولة وإدارة شؤونها، وتمثيلها على مستوى النظام الدولي.
في هذا السياق، مثلت معركة الخرطوم في أبريل/ نيسان من العام الجاري، والتي انتهت بانسحاب كامل لقوات الدعم السريع من مدن العاصمة الثلاث، العتبة الأولى لهذا التحول الدرامي، فبعد أن رمى الجيش بثقله، وأعاد السيطرة على كل مدن وسط السودان، بالإضافة إلى تأمينه المحكم لشماله وشرقه. تمركزت مليشيا الدعم السريع وحلفاؤها في دارفور وجنوب كردفان وأجزاء من الغرب، الأمر الذي جعل من تقسيم البلاد أمرا واقعا. وبالفعل، أدت التطورات اللاحقة إلى تبلور خطوط تماس ملموسة، ما يعني أن الحرب لم تعد مجرد مواجهة عسكرية متحركة، بل غدت شكلا من أشكال إعادة توزيع السيطرة والسلطة على الأرض.
تحول ينذر بتكريس ازدواجية الشرعية وتقويض ما تبقى من فكرة الدولة الواحدة، إذ يتجاوز سيطرة الأمر الواقع على الأرض إلى محاولة إعادة تعريف من يمتلك مشروعية الحكم وحق التحدث باسم الدولة وإدارة شؤونها وتمثيلها على مستوى النظام الدولي
بالطبع لن تمر هذه التحولات دون تداعيات عميقة، بما أنها لن تقف عند حدود إعادة رسم الخريطة الميدانية للمعارك، بل سوف تمتد لتضرب في عمق السياسة والمجتمع معا. فمع تولي محمد حمدان دقلو منصب رئيس المجلس الرئاسي للحكومة المعلنة وعبد العزيز الحلو النيابة، إلى جانب محمد حسن التعايشي الذي بدأ في تشكيل حكومته بصفته رئيسًا للوزراء، فإن مركزية السلطة التي شكّلت جوهر التجربة السودانية منذ الاستقلال سوف تبدأ في التراجع بصورة غير مسبوقة، لتتوزع الصلاحيات والنفوذ بين سلطات أمر واقع ترتكز أساسا على السيطرة الميدانية.
الأهم من كل ذلك، أن هذا التراجع سوف يفتح المجال أمام إعادة تشكيل الخريطة السياسية، حيث تضطر القوى السياسية إلى إعادة ترتيب مواقعها وتحالفاتها، في ظل انعدام إمكانية الرهان على مركز قرار واحد أو سلطة جامعة تحظى بشرعية كاملة على المستويين الداخلي والخارجي. وبذلك، فإن جوهر الدولة السودانية، كما استُقر لعقود، سوف يدخل طورًا من التآكل المستمر.
في السياق ذاته، فإن التداعيات الاجتماعية ستكون أحد أخطر أوجه هذه التحولات. فترسيخ خطوط التماس العسكرية والإدارية غالبا ما سيؤدي إلى موجات نزوح متواصلة، وربما يدفع ذلك ملايين السكان إلى الانتقال بشكل قسري بين مناطق السيطرة المختلفة، وهو ما يفاقم الأزمة الإنسانية، ويُرسّخ الانقسام داخل المجتمع.
مع تضاعف حجم انتقالات من هذا النوع، قد نشهد تفككا للروابط التي بدأت في التشكل بين المجتمعات المحلية من عقود طويلة، لتحل محلها شبكات هشّة مرتبطة بواقع الحرب والانقسام المناطقي والإثني. ما يعني إعادة صياغة المجتمعات المحلية تحت وطأة العنف والنزوح، بحيث تصبح أكثر عرضة للانغلاق على الهويات الجزئية بدلا من الانفتاح على مشروع هوية وطنية جامعة. كل ذلك في ظل خطاب تشكل حول مفهوم "الحواضن الاجتماعية"، والذي عمق الانقسام عبر تصوير المجتمعات المحلية إما كحاضنة لطرف بعينه أو كعدو محتمل.
كان مشروع الدولة الوطنية في السودان في مهب الريح، بسبب إشكالات بنيوية ومؤسسية، وعدّت قضية الهوية من أبرز تلك الإشكالات منذ الاستقلال. وتعتبر الحركة الشعبية – شمال - حليفة الدعم السريع - في خطابها السياسي أن قضية الهوية إحدى جذور الأزمة. وفي ظل وجود حكومتين تتبنيان أسس تفكير متباينة وبناء مؤسسي وربما توجهات أيديولوجية مختلفة، قد يتعمق الانقسام الوجداني القائم أصلا، ليتجاوز حدود الجغرافيا والشرعية السياسية إلى تصورات متباينة حول معنى الدولة ومرجعياتها. نتيجة لذلك، قد نشهد تراجعا في الشعور بالانتماء الوطني لصالح هويات مناطقية وإثنية، والذي يكرس واقعا من الانقسام النفسي والسياسي والاجتماعي، ويجعل إعادة بناء الدولة الوطنية أكثر تعقيدا من مجرد إعادة إعمار مادي.
على المستوى الإقليمي والدولي، سوف يعني وجود حكومتين متوازيتين إتاحة هامش أقل للمناورة أمام الشركاء المحتملين، مدعوما بحاجة كل طرف إلى نيل الاعتراف وسحبه من الطرف الآخر
تمثل الأثر المباشر لهذه الحرب على مستوى الخطاب السياسي وطرائق التفكير في بروز نزعات انفصالية كانت خفية وراء مفاهيم ملتبسة ومغالطات تاريخية. غير أن السياق الراهن أتاح لها الظهور العلني، إذ باتت تطرح مشاريعها بجرأة أكبر، مستندة إلى ما خلفته الحرب من جراحات عميقة وشروخ على المستويين النفسي والوجداني.
إن ظهور حكومة موازية تضم جماعات ذات تفكير ونزعات مشابهة سوف يسرع، بل ويعمل على تحقيق مشروع الانقسامات، ما يجعل من هذه النزعات قوة سياسية فاعلة بعد أن كانت مجرد خطاب متواري في الهوامش. هكذا، بات ما يُعبر عنه سابقا بلغة الالتباس والمواربة، في ظل حكومة موازية اليوم، جزءا من خطاب صريح يسعى إلى إعادة تعريف السودان ككيانات متفرقة.
على المستوى الإقليمي والدولي، سوف يعني وجود حكومتين متوازيتين إتاحة هامش أقل للمناورة أمام الشركاء المحتملين، مدعوما بحاجة كل طرف إلى نيل الاعتراف وسحبه من الطرف الآخر. وسوف يقود ذلك إلى نشوء حكومات محلية مستعدة لتقديم تنازلات في علاقاتها مع الشركاء الخارجيين، بحكم سيادتها المنقوصة وعدم سيطرتها على كامل المجال الترابي. وفوق ذلك كله، فإن الحالة الراهنة غالبا ما تنتج قدرا كبيرا من السيولة المؤسسية، وقد تفتح الباب أمام مزيد من التمزقات في المشهد السياسي، مما يجعل الأزمة السودانية أكثر تعقيدا على المستويين الداخلي والخارجي.
إن وجود حكومتين في السودان ليس مجرد انعكاس للحرب المستمرة، بل تعبيرا عن مسار طويل من التآكل المؤسسي والانقسام الاجتماعي والسياسي. فبينما كانت الأزمات السابقة تنتهي بانقلابات أو تسويات مؤقتة داخل إطار الدولة الواحدة، فإن الوضع الراهن ينذر بإعادة تعريف معنى الدولة نفسها: من يمتلك شرعيتها؟ ومن يحق له التحدث باسمها؟ ومن يملك تمثيلها على مستوى النظام الدولي؟ هذه الأسئلة لم تعد نظرية، بل أصبحت واقعا يوميا يعاش في الخرطوم، ودارفور، وبورتسودان وغيرها من مدن السودان.
إذا كان السودان قد عرف في تاريخه صراعات مسلحة وتناقضات حادة في الرؤى والهويات، فإنه اليوم يواجه لأول مرة احتمال أن تتحول هذه الانقسامات إلى مؤسسات موازية، تسعى إلى تثبيت شرعيتها الداخلية والخارجية. وهنا يكمن الخطر الأكبر، إذ قد تصبح ازدواجية السلطة قاعدة جديدة لا استثناء، مما يهدد وحدة الكيان السوداني ويضع مستقبل مؤسسة الدولة على المحك.
في المحصلة، لا يمكن النظر إلى الوضع الراهن إلا كمنعطف تاريخي فارق: فإما أن يفتح الطريق أمام حلول سياسية مبتكرة تعيد بناء الثقة بين المكونات السودانية، وتعيد الاعتبار لمشروع الدولة التي تسع الجميع، وإما أن يكرّس واقع الانقسام ليقود البلاد إلى مزيد من التمزق والتفتت. إن السودان يقف اليوم على حافة إعادة التشكل، والسؤال المطروح ليس ما إذا كانت هذه الدولة ستستمر على صورتها القديمة، بل أي شكل سوف تتخذه غدا، ومن سوف يملك حق صياغة مستقبلها على المدى المتوسط والبعيد.