الخميس 17 يوليو 2025
توفّيت مابل سيغون في 6 مارس/أذار 2025 عن عمر يناهز 95 عاما، تاركة خلفها إرثا لا يُنسى في الفنون والآداب النيجيرية. لم تكن سيغون مجرّد كاتبة للأطفال أو شاعرة أو مربّية فكريّة، بل كانت واحدة من الأصوات النسائيّة الرائدة في مشروع بناء الأمّة النيجيرية ما بعد الاستعمار. امتد عطاؤها على مدار أكثر من سبعة عقود، تداخلت فيها مسارات الكتابة والتعليم والإعلام في نسيجٍ واحد من الالتزام الثقافي والابتكار التعبيري.
ساهمت سيغون خلال أعمالها الأدبيّة والإذاعيّة، ومبادراتها التربويّة والتنظيميّة، في ترسيخ موقع أدب الأطفال حقلا جديرا بالاعتراف النقدي، وووسيلة فعّالة للحفاظ على الذاكرة الثقافيّة، وتعزيز الهوية الوطنيّة. في وقتٍ كان يُنظر فيه إلى أدب الأطفال بوصفه هامشيّا أو وظيفيّا، رسّخت سيغون مكانته بوصفه شكلًا من أشكال التعبير الجمالي العميق، القادر على مخاطبة العقول الناشئة دون التنازل عن التعقيد أو الطموح الفني.
إنّ دراسة إرثها اليوم ليست مجرّد استعادة لتجربة شخصيّة فريدة، بل نافذة لفهم التحوّلات الكبرى التي شهدها الأدب النيجيري، وتطوّره في سياق ما بعد الاستعمار، من حيث اللغة والتمثيل والرسالة المجتمعيّة.
وُلدت مابل سيغون في 13 فبراير/شباط 1930 بمدينة أوندو الواقعة في الجنوب الغربي لنيجيريا، لأسرة مثقفة تُعلي من شأن التعبير الأدبي والفني، وكان لوالدها -القس والكاتب- دور محوري في صياغة وعيها الفكري المبكّر. التحقت بمدرسة CMS للبنات في لاغوس لتتابع تعليمها الثانوي، ثم انضمّت إلى جامعة إبادان حيث نالت، عام 1953، شهادة بكالوريوس الآداب في اللغة الإنجليزيّة واللاتينيّة والتاريخ. خلال سنواتها الجامعيّة، انخرطت في مشهد أدبي واعد ضمن نخبة ضمّت رموزا بارزة، مثل: تشينوا أتشيبي وكريستوفر أوكيجبو، وشاركت بانتظام في تحرير مجلة "يونيفرستي هيرالد" من خلال قصائد وقصص قصيرة ومقالات.
أسّست سيغون نموذجًا أدبيا جديدا، يتيح للأطفال الأفارقة أن يروا أنفسهم وقصصهم في ما يقرؤونه، بعيدا عن النموذج الأوروبي السائد
عقب تخرّجها، انطلقت مسيرتها المهنيّة في مجال التعليم، حيث درّست اللغة الإنجليزيّة واللاتينيّة والتاريخ في مؤسّسات تعليميّة مختلفة داخل نيجيريا، قبل أن تتولّى مهام إداريّة عليا، من بينها رئاسة قسم اللغة الإنجليزيّة والدراسات الاجتماعيّة، ومنصب نائبة مدير الكليّة الوطنيّة للمعلمين التقنيين في يابا (المعروفة اليوم بكلية يابا للتكنولوجيا). وقد تماهى هذا المسار المهني مع شغفها العميق بالأدب، إذ أحرزت في عام 1954 جائزة مهرجان نيجيريا الأول للفنون الأدبيّة عن قصتها القصيرة "الاستسلام"، وهو تتويج دشّن انطلاقتها ككاتبة ملتزمة بالتجريب والتجديد الأدبي.
عملت مع المجلس النيجيري للبحث والتطوير التربوي (NERDC) لصياغة المناهج الدراسية في نيجيريا. وأدى دعم سيغون للأدب الأفريقي في المدارس إلى إدراج كتب نيجيرية في المناهج الرسميّة. كما ساهمت في إعداد الكتب المدرسية للمدارس الابتدائية والثانوية في نيجيريا.
برزت مابل سيغون كأحد الأصوات المحوريّة في الأدب النيجيري، إذ سخّرت مواهبها المتعدّدة في مجالات شتى شملت البث الإذاعي، وكتابة قصص الأطفال والشعر والمسرح. أصدرت عام 1965 أوّل أعمالها "ابنة أبي"، وهو نص شبه سيرة ذاتيّة موجّه للأطفال، يُقرأ على نطاق واسع في المدارس النيجيرية، يتناول موضوعي الهوية والمرونة من خلال تجربة فتاة صغيرة. تابعت هذا العمل بكتاب "ابنة أمي" (1986) الذي قدّم تأمّلًا عميقا في الروابط الأسريّة ومسار اكتشاف الذات. وفي هذين العملين، جمعت سيغون بين التعبير عن مشاعر إنسانيّة عالميّة وتجسيد تفاصيل الحياة اليوميّة في نيجيريا، مظهرة براعتها في التقاط التوتّرات النفسيّة والعاطفيّة المعقّدة ضمن ما يبدو طفولة عادية. وقد أثار ابنة أبي خصوصا نقاشات نقديّة واسعة حول الجندر والطموح والطاعة، مما رسّخ حضورها في تدريس الأدب النيجيري المعاصر.
تجلّت موهبتها السردية أيضا في مجموعتها القصصية "الاستسلام وقصص أخرى" (1995)، إلى جانب سلسلة من كتب الأطفال التي مزجت بين الحكاية الشعبية والمضمون التربوي، ومنها: "أولو والتمثال المكسور" (1985) و"الذرة الأولى" (1989)، و"التوأم وأرواح الأشجار" (1991)، نُقّحت طبعتها عام 2004. وقد نالت هذه الأعمال رواجا واسعا، وترجمت إلى لغات متعدّدة، ما يعكس قدرتها على التواصل عبر ثقافات مختلفة.
جمعت سيغون بين التعبير عن مشاعر إنسانيّة عالميّة وتجسيد تفاصيل الحياة اليوميّة في نيجيريا، مظهرة براعتها في التقاط التوتّرات النفسيّة والعاطفيّة المعقّدة ضمن ما يبدو طفولة عادية
لم تقتصر إسهامات سيغون على الكتابة الإبداعيّة فحسب، بل شاركت أيضا في تحرير مختارات "تحت شجرة المانجو" (1980) بالتعاون مع نيفيل جرانت. كما أصدرت ديوانها الشعري "الصراع وقصائد أخرى"، متضمّنا أبياتا مثل: "في صراع الإرادات، يجد القلب أغنيته"، التي تعكس حساسيّتها الشعريّة في التعبير عن تعقيدات الحياة. أمّا في مجال البث الإذاعي، فقد كتبت نصوصا اجتماعيّة جمعتها لاحقا في كتاب "الأصدقاء، النيجيريون، المواطنون"، ثم أعادت إصدارها تحت عنوان "آسفة، لا توجد وظائف شاغرة"، حيث تناولت قضايا المجتمع بلغة جذّابة تمسّ الجمهور وتخاطب واقعه اليومي.
امتدّت إسهامات مابل سيغون إلى ما هو أبعد من حدود الكتابة، لتشمل التأسيس المؤسّسي للثقافة ودعم البنى الأدبيّة في نيجيريا. شاركت في تأسيس رابطة المؤلّفين النيجيريين إلى جانب تشينوا أتشيبي عام 1981، وأسّست جمعية أدب الأطفال النيجيرية عام 1978، ثم أنشأت مركز توثيق وأبحاث الأطفال في مدينة إبادان سنة 1990، واضعة بذلك أسسا متينة لدراسة أدب الطفولة، وتطويره في السياق المحلي. كما اشتغلت باحثة في مكتبة الشباب الدولية في ميونيخ بألمانيا، وهو ما منح أعمالها إشعاعا عالميّا، تُرجم إلى عدّة لغات منها: الألمانية والدنماركية والنرويجية واليونانية والسواحيلية والعربية، في مؤشر واضح على الانتشار الثقافي والتقدير الدولي لما تكتبه.
وقد حظي إرثها الثقافي والأدبي بتقدير واسع داخل نيجيريا وخارجها؛ إذ مُنحت جائزة LNG النيجيرية للأدب سنة 2007، تلاها وسام الاستحقاق الوطني النيجيري عام 2009. وفي سنة 2015، تأسّست "جمعية مابل سيغون الأدبية" من قِبل رابطة الكتّاب النيجيريين الشباب، تكريما لها وتأكيدا لاستمرار تأثيرها الملهم في المشهد الأدبي والثقافي.
أسّست جمعية أدب الأطفال النيجيرية عام 1978، ثم أنشأت مركز توثيق وأبحاث الأطفال في مدينة إبادان سنة 1990، واضعة بذلك أسسا متينة لدراسة أدب الطفولة وتطويره في السياق المحلي
اللافت في أعمالها - كما أشار النقّاد والقرّاء - هو قدرتها الهادئة والعميقة على سرد تفاصيل الحياة اليوميّة للناس العاديّين دون أن تقع في فخ التنميط الأخلاقي أو الوعظ المباشر. لقد شكّل اهتمامها بالذاكرة واللغة وتشكيل وعي الناشئة قاعدة خصبة لفهم الدور الذي اضطلع به الأدب النيجيري ما بعد الاستقلال في بلورة هوية وطنيّة، وحفظ الموروث الثقافي، وترسيخ مكانة أدب الأطفال بوصفه جزءا أصيلًا من التراث الأدبي في القارّة الأفريقيّة، لا هامشا ثانويّا فيها.
قبل دخول مابل سيغون الساحة الأدبية، كان السرد القصصي في أفريقيا، ولا سيما أدب الأطفال، يعكس إلى حد بعيد استمراريّة الرؤية الاستعمارية للعالم، من حيث المضمون والطرح. فقد طغت نظرة المستعمر على التجربة الأدبية الموجّهة للأطفال الأفارقة، مما جعلها غريبة عن بيئتهم وهويّتهم. لكن مع بروز سيغون، بدأ هذا الواقع يتغيّر؛ إذ ساهمت أعمالها في الأدب الأفريقي في زعزعة النفوذ الاستعماري على أدب الأطفال، وفتحت المجال أمام مقاربة جديدة متجذّرة في الثقافة المحليّة.
قبل ظهورها، كان التراث الشعبي يُتناقل شفهيا ولم يكن جزءا من التعليم الرسمي أو المادّة المكتوبة. ومن خلال أعمال مثل ابنة أبي، التي تُعد من أوائل الكتب النيجيرية الموجّهة للأطفال، خلقت سيغون نموذجًا أدبيا جديدا، يتيح للأطفال الأفارقة أن يروا أنفسهم وقصصهم في ما يقرؤونه، بعيدا عن النموذج الأوروبي السائد.
على ضوء ما تقدّم، يتّضح أنّ مابل سيغون تمثّل حجر زاوية في الأدب النيجيري الحديث، ليس فقط من خلال إنتاجها الإبداعي المتنوّع، بل أيضا من خلال إسهاماتها المؤسّسية والتربوية التي رسّخت مكانة أدب الأطفال حقلا جادا ومؤثّر في الذاكرة الثقافيّة الأفريقيّة.
لقد شكّلت أعمالها، بما فيها من حساسيّة لغويّة وبصيرة اجتماعيّة، جسرا بين الأجيال، ووسّعت مفهوم الأدب ليشمل التجارب اليوميّة والهويّات المركّبة دون اختزال أو تبسيط. إنّ مشروعها الثقافي، الذي انطلق من قاعة الصف وامتدّ إلى الإذاعة والمنصّات الدوليّة، يعكس التزاما حقيقيّا بتأريخ الذات النيجيرية من الداخل، وبناء خطاب أدبي يُعلي من صوت الطفولة والمرأة والهوية المحليّة في سياق ما بعد الاستعمار. من هذا المنظور، تُعدّ سيغون من الكاتبات المفصليّات اللواتي أعدن تشكيل خارطة الأدب الأفريقي بروح نقديّة ورؤية تربويّة عميقة، تجعل من إرثها محورا لا غنى عنه في أي قراءة معمّقة للأدب النيجيري وتحوّلاته.