الثلاثاء 11 نوفمبر 2025
تتغذّى المخاوفُ المستمرة من تجدّد حربٍ واسعة في شمال إثيوبيا على ثغرات «اتفاق بريتوريا» للسلام -اتفاقٍ طموحٍ في مقاصده، محدود في نطاقه. ففي عام 2022، فاجأ رئيسُ الوزراء آبي أحمد حلفاءه الإريتريين والأمهرة بإبرام تسوية مع «الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي». لكنّ الاتفاق كان أقرب إلى صفقةٍ بين النخب منه إلى تسويةٍ مجتمعية واسعة. وها هو اليوم يتفكّك: إقليم أمهرة يعيش تمردًا مناهضًا لآبي، وعلاقة آبي بالرئيس الإريتري إسياس أفورقي تهاوت على نحوٍ حاد.
لوّح أفورقي بإمكان اندلاع حربٍ جديدة بين إثيوبيا وإريتريا -بعد حربٍ ضروسٍ دامت عامين، وانتهت عام 2000- تتمحور حول تيغراي، حيث انقسمت نخبُ الإقليم. ففصيلٌ يصطفّ الآن إلى جانب آبي، داعمًا تمرّدًا على رفاق الأمس في «الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي»، بينما تُغازل الحكومةُ الإقليمية بقيادة الجبهة أعداءها التقليديين داخل النظام الإريتري. ومع قابلية تيغراي للتحوّل إلى شرارةِ الاشتعال، قد يرمي هذا التصاعدُ بالتوتر إلى حريقٍ إقليمي شامل.
بعد الحرب، انتهج آبي في تيغراي سياسة «فرّق تسُد»، لكنّ الاقتتالَ الداخلي الأخير فرض عليه تحوّلًا تكتيكيًا. وقد عرضت أديس أبابا -بعد اتفاقية بريتوريا- عملياتٍ عسكرية مشتركة على حلفائها الجدد في تيغراي: أولًاضدّ ميليشيات «فانو» الأمهرية، ثم ضدّ إريتريا، لكنها فشلت في كسب النخب الحزبية والعسكرية في ميقلي فصراعات النفوذ وخلافاتُ المساءلة عمّقت شروخ القيادة.
عقب اتفاق السلام، سلّم آبي إدارةَ الإقليم إلى القيادي البارز غيتاتشو ردّا، رئيس الإدارة الإقليمية المؤقتة لتيغراي (TIRA). لقد جلب الدعمُ الاتحادي مالًا ونفوذًا، لكنّه حمل تبعيةً سياسية أيضًا، فلأول مرةٍ بدا نفوذُ الجبهة في تيغراي قابلًا للاهتزاز. التفّ محافظو الحزب حول القائد المخضرم دبرصيون جبرميكائيل، فدخلت ميقلي حالة شللٍ لأشهر.
وقد اتّسع الشرخ حين عقدت الجبهة، مدعومةً بجهازها الأمني، مؤتمرًا في 13 آب/أغسطس 2024 أطاحت فيه جناحَ غيتاتشو، لتعيد تثبيت سيطرتها. وجدت أديس -بعد أن كانت تهدّد بالتدخل- نفسَها أمام احتمال تحالفٍ بين الجبهة وإريتريا، مع استعداد مقاتلي «فانو» للانضمام. ونُصِّب الفريق تادّسي وريدي رئيسًا للإدارة المؤقتة، في خطوةٍ يُنظر إليها على نطاق واسع بوصفها خيارَ الجبهة.
شدّت أديس أبابا الرافعاتِ الاقتصادية والسياسية، فأعادت وسائلُ الإعلام الرسمية تصنيفَ مناطق متنازعٍ عليها -كانت تُدار سابقًا من تيغراي- بوصفها جزءًا من أمهرة. وقُلِّصت شحناتُ الوقود والسلع، وتكثّفت أنشطةُ الوكلاء. دعمت السلطاتُ الاتحاديةُ من جهتها جبهةً مناهضة للجبهة الشعبية تحت مسمّى "تضامن تيغراي الديمقراطي" (Simret)، دعت إلى العصيان المدني، واكتسبت زخمًا في الجنوب، بما في ذلك معقلُ غيتاتشو.
توحي خطواتُه باستراتيجيةٍ تجمع بين تنازلاتٍ وتأكيداتٍ مضادّة: تقويضُ قواعد قوّةِ الجبهة الشعبية، وتجنّبُ الظهور بمظهر التبعية الصريحة للمركز، وترسيخُ إدارته في موقع "الوسط"
أعاد بعضُ المقاتلين تنظيمَ أنفسهم تحت راية «قوات سلام تيغراي»، وتلقّوا دعمًا من قواعدَ في عفر وأمهرة. تسوق أديس للصراعَ بكونه أزمة داخلية؛ تيغراوي–تيغراوي، محافظةً على واجهةِ الالتزام ببند عدم العداء في اتفاق بريتوريا.
عسكريًا، لم تُحرز الميليشياتُ المدعومة اتحاديًا تقدمًا يُذكر، فالكثير من مقاتليها عادوا إلى تيغراي محبطين، أو اعتُقلوا وهم يحاولون العودة. جاءت مكاسبُ أديس الحقيقية في معركة السردية، حيث يقول السكان إنّ خصومَ الجبهة الشعبية يحظون اليوم بإسنادٍ شعبي، وصار إظهارُ الدعم العلني للجبهة مستهجَنًا. هنا تبدو المفارقة صارخة؛ قبل أشهرٍ من بريتوريا، كان الرأيُ العام يلتفّ حول مقاومةٍ تقودها الجبهة، وكان انتقادُ الحزب أو الثناءُ على «حزب الازدهار» بزعامة آبي يعدّ ضربًا من الخيانة. اليوم تلاشى ذلك الإجماع.
تلاقت الحملاتُ الإلكترونية -التي يضخّمها تيغراويون موالون للمركز- مع قسوة الحياة بعد الحرب وأخطاءِ الجبهة: ارتباكٌ في إدارة زمن الحرب وتسويةٌ باهتة. وبين الشباب المعرضين للهجرة أو البطالة، بات التندّرُ على مسؤولي الحزب وقادته أمرًا مألوفًا. سردياتُ المقاومة التي كانت «مقدّسة» يسخر منها اليوم، فيما تنتشر رواياتُ نجاحات الحكومة الاتحادية من دون ردّ فعلٍ يُذكر.
في «رايا» -معقلِ غيتاتشو في جنوب تيغراي، الذي يختزن مرارةَ التهميش- بنت فصائلُ تيغراوية مواليةٌ للمركز، وعلى رأسها «سِمْرِت»، قاعدةً شعبيةً متينة. بالنسبة إلى آبي أحمد، هذا مكسبٌ استراتيجي. لكنّ الولاءاتِ ما تزال سائلة: فالميلُ إلى الجبهة الشعبية قائم، والخشيةُ من تجدد تحالفٍ بين الجبهة وإريتريا -يحيل «رايا» ساحةَ قتال- تُبقي التوترَ مرتفعًا.
وتوحي التحولاتُ الأخيرة بأنّ «البندول» قد يعود أدراجَه. ففي آب/أغسطس، أُزيح بهدوءٍ رئيسُ المنطقة المنتسب إلى «سِمْرِت» هافتو كيروس، وحلّت محله القياديةُ المدعومة من الجبهة زنابو جبرمدهن، في إشارةٍ إلى أنّ الحزب يستعيدُ مواقعَه. بذلك تظل التقلباتُ على حالها، واحتمالُ عودة الميليشيات المحلية إلى التمرّد لا يمكن استبعاده.
تبدو المفارقة صارخة؛ قبل أشهرٍ من بريتوريا، كان الرأيُ العام يلتفّ حول مقاومةٍ تقودها الجبهة، وكان انتقادُ الحزب أو الثناءُ على «حزب الازدهار» بزعامة آبي يعدّ ضربًا من الخيانة. اليوم تلاشى ذلك الإجماع
أثبتت الاستراتيجيةُ الاتحادية أثرًا مُنهِكًا: بخنق اقتصاد تيغراي، وتعطيل إعادة الإعمار، وتغذية نزوحِ الشباب، فقد تركت أديس نسيجَ المجتمع هناك باليًا. في المقابل، تُكبّل قيودُ الميدان التي تفرضها إريتريا وميليشياتُ «فانو» خياراتِ آبي القتالية، لكنّ مطّلعين يرون أنّ الحصارَ الاقتصادي ألحق ضررًا أعمق -إذ غذّى اليأسَ والنزوحَ ولَومَ الذات. ويحذّر هؤلاء من أنّ مثلَ هذا اليأس قد يدفع الجبهةَ الشعبية إلى العودة للحرب. وإن حدث ذلك، فالأرجح أن يقف أفورقي إلى جانبها، غضبًا من «خيانة» آبي في بريتوريا، وطموحاته في موانئ البحر الأحمر الإريترية.
في الوقت الراهن، السلامُ قائم بشقّ الأنفُس. وقد أتاحت حالةُ التشظّي داخل تيغراي لرئيس الإدارة المؤقتة تادّسي وريدي أن يتموضع في قطب ثالث، لا في صفّ الجبهة الشعبية ولا في صفّ أديس. وهو المعروفٌ بعبارته المحسوبة و«غموضه المقصود»، فيُبقي الطرفين في حالِ ترقّب. توحي خطواتُه باستراتيجيةٍ تجمع بين تنازلاتٍ وتأكيداتٍ مضادّة: تقويضُ قواعد قوّةِ الجبهة الشعبية، وتجنّبُ الظهور بمظهر التبعية الصريحة للمركز، وترسيخُ إدارته في موقع «الوسط».
جاءت خطوةٌ حاسمة بتعيين «ألم جبرواحد»، وهو قياديٌّ سابقٌ في الجبهة سئِمَ تهميشَه، مشرفًا على شؤون الأقاليم والمقاطعات. بتجاوز هرميةِ الحزب وتمكينِ «ألم» -الذي لا يزال نفوذُه القاعدي لا يُضاهَى- أرسل تادّسي إشارةً تفيد عزمه إحكامَ السيطرة المحلية عبر شبكات الجبهة ذاتها.
تعكس مسيرةُ «ألم» مرارةَ دورانِ الفصائل داخل تيغراي. فبعد أن كان أمينًا عامًّا للحزب، جرى تهميشُه خلال إعادةِ ترتيبٍ الجيشُ، رفعت غيتاتشو وثبّتت فيتلوِرك «مونجورينو» جبرغزيابهِر. ولدى المؤتمرِ الخلافيّ الذي أطاح بكتلة غيتاتشو لاحقًا، أُنزِل «ألم» إلى مجردِ عضوٍ في اللجنة المركزية، في تهميشٍ واضح خلّف غُصّةً جعلته قابلًا لرعايةِ تادّسي.
دفعت تكتيكاتُ آبي المتحوّلة «الجبهةَ الشعبية لتحرير تيغراي» إلى موقعٍ دفاعي، لكن يبقى غير واضحٍ مدى قدرة الحزب على تحويل السخطِ إلى فعلٍ عسكري
أسفر ذلك عن صدعٍ داخليٍّ عميقٍ كفى لإحياء مخاوفَ من انقسامٍ جديد. صحيحٌ أنّ مؤتمرًا لاحقًا «سوّى» الخلاف فوق السطح، لكنّ تعيينَ «ألم» جاء من خارج القنوات الحزبية الرسمية. ما تزال التوتّراتُ بلا حسم، وشبحُ تجدّدِ الشرخ يخيم على ميقلي.
تزداد خريطةُ تيغراي السياسيةُ استقطابًا. تيارٌ يدعو إلى «تِسمدو»؛ أي التكيّف/التفاهم مع إريتريا، وتيارٌ آخر، تقوده «سِمْرِت»، يسعى إلى مواءمةٍ أوثق مع أديس أبابا. يجذب هذان القطبان الرأيَ العام في اتجاهين متضادّين، بما يثير مخاوفَ من مزيدٍ من التشظّي.
دفعت تكتيكاتُ آبي المتحوّلة «الجبهةَ الشعبية لتحرير تيغراي» إلى موقعٍ دفاعي، لكن يبقى غير واضحٍ مدى قدرة الحزب على تحويل السخطِ إلى فعلٍ عسكري. فالانقساماتُ الداخلية، وصعودُ إدارةٍ مؤقّتةٍ أكثر ميلاً للتسوية، وجمهورٌها المنقسم؛ كلها عوامل تجعل الجبهةَ عاجزةً عن التحرّك بحسم. نجحت أديس في إدارة تحدّياتِها بمهارةٍ أكبر نسبيًا، لكنّ الغليانَ يتواصل على جبهاتٍ عدّة، فإلى جانب تمرّدَي أمهرة وأوروميا، تُضعفُ التحالفاتٌ الجديدةٌ لسياسيين بارزين من الإقليمين ما تبقّى من دعمٍ شعبي هشّ -وهو دعمٌ منهَك أصلًا بارتفاع تكاليف المعيشة. ومثلَ الجبهة، تُقيّد هذه الضغوط قدرةَ الحكومة الاتحادية على حشد التأييد لعملٍ عسكري جديد. وعلى الرغم من بقاء التهديدات المواربة، من غير المرجّح أن يذهب آبي إلى الحرب قبل إطفاءِ حرائق الداخل.
ومع ذلك، يقول مطّلعون إنّ المسألةَ مسألةُ وقت. ففي القرن الأفريقي، نادرًا ما تسير المساراتُ السياسية وفق منطقٍ مستقيم؛ إنها تتشكّلُ بالظروف والاحتكاك وانعطافاتِ الحظّ الفجائية. وفي ظلّ هذه الملابسات، يبقى الارتدادُ إلى الحرب احتمالًا غير مستبعَد.