الخميس 5 ديسمبر 2024
كيف لنا أن نفهم العنف الوحشي الذي تمارسه دولة إسرائيل بلا تمييز على الأطفال الفلسطينيين والأمهات والآباء والمستشفيات والمدارس وأماكن العبادة في غزة؟ والأهم من ذلك، بأيّ كيفية تتصل هذه الدماء بتاريخ عنفنا السياسي الخاص في أوغندا وفي إفريقيا؟
لنبدأ من هنا: كل من أوغندا وإسرائيل دولتان قوميّتان، وذلك يعني أنّهما قائمتان باسم جماعة قوميّة، تتخيل نفسها عبر خصائص بيولوجيّة أو موروثة أو ثقافيّة أو دينيّةٍ تَفترض أنّها مشتركةٌ.
إذا تجاوزنا حقيقة أنّ العديد من اليهود عزلوا أنفسهم عن هذه الدولة، وإذا تجاوزنا سياسات الفصل العنصري والعنف الإبادي الجماعي، فإن دولة إسرائيل قائمةٌ باسم اليهود. وكذلك أوغندا قائمةٌ باسم الجماعات الأصلية، المنصوص عليها في الجدول الثالث من دستور عام 1995.
غالباً ما تتسبب إقامة دولة باسم جماعة معينة في صراعات كثيرة بين الجماعة القوميّة والأقليات السياسية (الأقلية هنا تشير إلى الجماعات التي لا تشكل جزءاً من الجماعة القوميّة بغض النظر عن قوتها العددية). عادة ما تعمل الدولة الوطنيّة، لأجل تقليل حجم هذه الصراعات، مع الأقليات السياسية، وذلك بثلاث طرقٍ.
أوّلاً، من خلال تحييد الأقليات، إمّا عبر إبادة جماعية أو من خلال طرد جماعي؛ وهذا ما انتهجه الأوروبيون أينما حلّوا، بدءاً من أوروبا نفسها إلى أميركا الشمالية، ومن أستراليا إلى نيوزيلندا. وثانياً، من خلال إخضاع الأقليات لتمييزٍ ممنهجٍ، قد يصل في بعض الأحيان إلى فصلٍ عنصري كاملٍ؛ وذلك شاهدناه في جنوب إفريقيا ونشاهده الآن في إسرائيل. وثالثاً، من خلال التسامح مع الأقليات (على سبيل المثال، منحهم حقوق المواطنة) دونما الاعتراف بهم كأعضاءٍ في المجتمع القومي.
لم تسلك إسرائيل طريق التسامح، فقد تأسست دولة إسرائيل كوطن حصري لليهود؛ ولتأسيس هذا الوطن الحصري لليهود ينبغي التّخلص من السكان الفلسطينيين الحاليين. في الواقع، إنّ تأسيس إسرائيل، وتوسّعها كان مصحوباً بالتهجير الجماعي والإبادة الجماعية للفلسطينيين.
لا بد من التوضيح بأن مجرد انتقال اليهود إلى فلسطين لا يكفي لإحداث عنف لا ينتهي بينهم وبين الفلسطينيين، بل إن هذا العنف المنفلت متجذّرٌ في الصهيونية - ذلك التمظهر المتطرف لقوميّة الدولة الوطنية - التي تصر على أن اليهود لا بد لهم من وطن في فلسطين، حصريّاً لهم دون غيرهم. وهذا يعني أن الفلسطينيين ينبغي تحييدهم؛ إمّا من خلال التطهير العرقي، أو على الأقل السيطرة عليهم بتوسّل نظام الفصل العنصري.
هي ذات الإيديولوجية التي قادت إلى مذبحة اليهود في أوروبا النازية، فقد أصر النازيون على أن أوروبا ملكُ الشعوب البيضاء "النقيّة"، وأن بقية الشعوب لا مكان لها هناك. إنّ النازية والصهيونية متجذرتان في منطق الدولة القومية، الذي يقدّم تصوراً جامداً عن البيولوجيا أو الموروث أو الثقافة كأساس للارتباط السياسي.
دعمت القوى الأوروبية هذا التصوّر النازي، حينما دفعت بالطموح الصهيوني لإقامة وطن منفصل لليهود. وكان بوسعها أن تفكك هذا التصوّر - دونما حصر ذلك في مجرد معاقبة لشخصياتٍ نازية - من خلال استكشاف سبل تمكّن شعوباً من مختلف الأعراق والثقافات من التعايش في أوروبا. ولكنّها، عوضاً عن ذلك، كافأته بدعمِ إنشاء وطن مستقلّ لأولئك الذين اضطهدوا في أوروبا. ولم تحلّ هذه الخطوة أبداً مشكلة العنف؛ بل أعادت إنتاجه في فلسطين.
وعلى نحوٍ متزامنٍ، أقدمت أوغندا على أربع عمليات طرد جماعي للجماعات غير الأصلية؛ من بينهم اللوو الكينيين والهنود والبانيارواندا.
والمنطق الذي يؤدي إلى تهجير الفلسطينيين في فلسطين التاريخية، هو نفسه المفضي إلى طرد الجماعات غير الأصلية في أوغندا؛ وهو المنطق الانقسامي للدولة القومية التي لا تشكل الصهيونية سوى تمظهرا متطرفا لها، ولكنها ليست استثنائية تماماً.
إن منطق الشكل القائم على الهوية كرابطٍ سياسيّ، والمعروف باسم الدولة القومية يضع المجتمعات في مواجهة بعضها البعض على مستويين: أولاً، يدفع الجماعة القومية لمواجهة الأقليات، كما وضّحنا. وثانياً، يقسم الجماعة القوميّة داخلياً على مجموعاتٍ قوميّة ثانويّة.
تُمفهمُ الجماعة السياسيّة، في أوغندا، على مستويين؛ المستوى الأول، يشمل الجماعة القوميّة؛ وهذه تتكون من مجموعات أصليّة، كما يحددها الدستور. لذا وحتى يُعتبر المرء مواطناً أوغندياً كامل الحقوق يتمتع بمواطنة دائمة، عليه إثبات عضويته في واحدة من هذه المجموعات الأصلية. قد يجرد المواطنين الذين تعوزّهم هذه العضوية من الجنسية في ظروفٍ معينة. أما المستوى الثاني، فيشمل الجماعة الإقليميّة؛ وهذه تتألف من المجموعة الإثنيّة المهيمنة في منطقةٍ أو مقاطعةٍ معينة في أوغندا. يبدو أن كل مجموعة إثنيّة أصلية في أوغندا تملك موطناً خاصاً بها، توارثته في إقليم معيّن من أوغندا. تخاطر المجموعات والأفراد الذين يعيشون خارج مناطقهم الأصلية المزعومة بضياع حقوقٍ معيّنة كامتلاك الأراضي، والعمل في الوظائف العمومية في المقاطعات، والمنح المخصصة للجامعات في المقاطعات...
إن السبب وراء الصراعات الإثنيّة التي لا تخمد في مناطق الروينزوري، على سبيل المثال، ليس سوى النزاعٍ حول أي المجموعات أصليّة في هذه المناطق، وأيهما ليست كذلك. ويلاحظ هذا النوع من النزاع كذلك على أساس الهوية وداخل القوميّة الواحدة في إسرائيل بين اليهود الأشكناز واليهود المزراحيين.
لا جديد فيما يتعلّق بالتمييز على أساس اختلافات بيولوجية أو ثقافيّة أو دينيّة متصوّرة. بيد أنّ هنالك إشكالاً بخصوص التمييز في الدولة الوطنيّة الحديثة، فالتمييز الحديث راسخٌ في بنية ومنطق الدولة، لأنها دولة مؤسّسةٌ على الهوية.
أعني بالعصر ما قبل الحديث الفترة التي سبقت تأسيس البنية المُمركزة للسلطة، المعروفة بالدولة الوطنيّة الحديثة. هذه الفترة تختلف من سياقٍ إلى سياق، ففي إفريقيا والشرق الأوسط، كانت الدولة الوطنيّة صنيعة حديثة للاستعمار.
وجدت أشكالا مختلفة، قبل تطور السلطة المركزية، من السلطات السياسية التي تعايشت مع بعضها البعض في المجتمع. فكان الحكام، أيا كانت تسميتهم؛ ملوكاً أو أباطرة أو سلاطين، يتمتعون بشكل واحد من أشكال السلطة السياسية، والذي سنسميه: السلطة الملكية. وفي أماكن مثل أوغندا، قد تتجزء هذه السلطة الملكية إلى سلطة الكاباكا (الملك)، وسلطة الناماسول (الملكة الأم)، وسلطة لوبوغا (الأخت الملكية) وهكذا.
علاوة على ذلك، توجد أيضاً سلطات سياسيّة أخرى، على مستوى المجتمع، تسيّرها العشائر والمزار والكنيسة وغيرها. وكان المفتي، في بلاد الإسلام، ينتجُ (الأحرى يؤول) الشريعة الإسلاميّة؛ التي تعايشت مع القوانين التي يضعها الحكام. وشكّل رأي المفتي الشرعي، وإن كان غير ملزِمٍ، مصدراً للعديد من الأحكام في المحاكم. وعليه، فقد كان المفتي سلطةً سياسيةً هامّة، حتى وإن لم يشغل منصباً حكومياً. وكانت الكنيسة، في أماكن أخرى، تجترح قوانينها الخاصة جنباً إلى جنب قوانين الملوك والأباطرة.
وما نستخلصه من هذا النوع من الترتيب السياسي الذي كانت فيه السلطة موزعة، بدلاً من ممركزة في كيان واحدٍ، هو عدم وجود سلطة سياسية واحدة تحدد من يُعدّ جزءاً من المجتمع السياسي ومن يجب استبعاده. فالخارج الذي رفضته عشيرةٌ، من الممكن أن تضمّه أخرى. والزنديق الذي اضطهد في قريةٍ ما، سيجد السلام في قرية مجاورةٍ. والغريب الثقافي الذي رُفض اليوم، يُستضاف غداً. وأمّا شروط الإدماج والاستبعاد فقابلةٌ للطعن ومرنة وغير محددةٍ. ما عرف هنالك غريب دائم أو كوني.
بيد أنّ الدولة الحديثة، من ناحية أخرى، تقوم بشيئين. أولاً، تمركز وتحتكر السلطةَ السياسيّة؛ بما في ذلك سلطة تحديد من يكون مواطناً، ومن ليس كذلك. فإذا قبلت عشيرة في شمال أوغندا صومالياً عضوا فيها، فإن دولة أوغندا تحتفظ بسلطة إلغاء جنسية هذا العضو الجديد في العشيرة. ثانيًا، تمأسس وتحدد الدولة الحديثة معايير تحديد من يُستبعد ومن يُضمن في المجتمع السياسي. ففي أوغندا، يغدو الواحد مواطناً كاملاً الحقوق إذا كان عضواً في مجموعة أصليّة، كانت تعيش داخل حدود أوغندا، بحلول الـ 1 من فبراير/شباط 1926، على نحو ما أشير إليه سابقاً.
وهذا يجعل الدولة الوطنيّة في بنيتها شكلاً تمييزيّاً فظيعاً من أشكال الارتباط السياسي، لا مثيل له في التاريخ، هدفه الهيمنة على المجتمع كلياً، مع تركيزٍ خاصٍ على تهميش واحتلال فئاتٍ معيّنة من المجتمع. تخفيفا من حدّة هذا التهميش، قدم الليبراليون (مثل جون لوك) مفهوم التسامح في الإطار العلماني. هكذا، تخلق الدولة الوطنية الليبرالية مجالين: المجال العام والمجال الخاص؛ فيترك الحيّز الخاص للدين والهويّات الثقافيّة، بينما يكون المجال العام فضاءً للعقل.
حرص الليبراليون، بغية ضمان التعايش السلمي بين الجماعة القوميّة والأقليات، على أن تكون الأمور المتعلقة بالدين والثقافة والهوية مسألةً شخصيّةً، تقتصر على المجال الخاص، بينما يجب أن يبنى المبدأ العام، كقانون الدولة، على العقل، لا الدّين أو أي تحيز ثقافيّ آخرَ. يقبع افتراض هاهنا هو أن العقل محايد وموضوعي، وليس مبنيّاً اجتماعيّاً. فكيف يُعدّ العقل والمبدأ العام محايدين وموضوعيين في دولة مؤسّسة على الهوية؟ كيف يمكن لدولة مؤسّسة على الهوية إنتاج قانون مفرّغٍ من الهوية الثقافية للدولة؟
تعترضنا مشكلة أكبرُ هنا، فالتسامح الليبرالي وإن بدا فعّالاً، فليس ذلك سوى لأنّه اشتغل في سياق لا تتمتع فيه الأقليات بقوّة، تخوّلها تهديد هيمنة القوميّة المسيطرة. فلا تعتبر الأقليّات في أي مكانٍ تهديداً يتوجب التعامل معه، إلاّ حينما تمتلك قوّة ونفوذاً. ففي أوروبا، تقتات الشعبيّة المتصاعدة لأحزاب اليمين المتطرف، إلى حد ما، على افتراضٍ مفاده أن الأقليات، كالمسلمين والمهاجرين، بدأت تسيطر في أوروبا.
تسعى الصهيونيّة ربما عبر التطهير العرقي إلى تقليص الفلسطينيين إلى أعداد صغيرة، يمكن إدارتها والتسامح معها، في نهاية المطاف، دونما أن تشكلّ تهديداً لهيمنة الجماعة القومية اليهودية. إنّ مفهوم التسامح الليبرالي يطالب فقط أن تتسامح الأغلبيّة القومية مع الأقليات، ولا يسائل وجودَ أغلبية قومية في المقام الأول. وعليه، لا يقدّم مفهوم التسامح الليبرالي حلاً فعليّاً للمشكلة الأساس في الدولة الوطنيّة، تلك التي تتجذر في التمييز بين الجماعة القومية والأقليات.
لقد فشلت كلّ التدخلات الليبرالية لوقف التطهير العرقي، لأن الليبرالية تشتغل في منظور الدولة الوطنية، إذ لا توجّه الليبرالية نقداً للدولة الوطنية كمفهومٍ، إنما تنتقد حصراً بعض تمظهراتها. وبعبارة أخرى، لا تسائل الليبرالية الإشكال بحدّ ذاته؛ إنما تركّز على بعض مظاهره.
دفع هذا الأفق المفاهيمي الضيّق لليبرالية الفاعليين السياسيين إلى إنشاء المزيد من الدول الوطنية كحلٍ لعنف الدولة الوطنيّة. فلم تستطع القوى الأوروبيّة التفكير في حلٍّ أفضل، عند تعرض اليهود للاضطهاد في أوروبا، من إنشاء دولة قومية منفصلة لليهود. وجاءت مآلات ذلك الفعل في إعادة إنتاج عنف الدولة القوميّة، وهنا في شكل التطهير العرقي الصهيوني في فلسطين. وبناءً عليه، من غير الممكن معالجة المعضلة القائمة في فلسطين فعليّاً عبر اللجوء إلى ما يسمى بـ: حل الدولتين.
مع افتراض تبني هذا الحلّ، ماذا سيحدث لغير اليهود الذين يعيشون في الدولة اليهودية، وماذا سيحدث لغير الفلسطينيين الذين يعيشون في الدولة الفلسطينية؟ ومع الاعتبار أنّ اليهود والفلسطينيين، ليسوا فئة متجانسة، كيف ستتعامل الدولة مع الاختلافات الداخلية، في شكل طوائف دينية وفصائل إثنيّة، في مجتمعها القومي؟
لا يتوّفر حتى الآن، مع الأسف، بديل حاسم للطابع الانقسامي للدولة الوطنية. ومع ذلك، فهذا الانقسام يمكن تخفيفه أو تكثيفه. وسأناقش، موضّحاً ذلك، حالتين، مبتدئا بتنزانيا وأوغندا.
لقد ورثت كل من تنزانيا وأوغندا إشكاليّاتٍ عرقية وإثنية من الاستعمار، سوى أن تعامل البلدان مع هذه المشاكل جاء مختلفاً. فتنزانيا اليوم، هي الدولة الأكثر استقراراً في منطقة شرق إفريقيا. فيما لا تزال أوغندا عصيّة على الاستقرار. ويرجع هذا جزئياً إلى تبني تنزانيا وأوغندا مفاهيمَ مختلفة للمواطنة.
تحدِد التصنيفات الرئيسة للمواطنة في تنزانيا - المواطنة بالميلاد والمواطنة بالنسب التنزانيّ - باعتباره أي شخص ولد في تنگانيكا أو زنجبار قبل استقلال تنگانيكا، أو قبل ما يسمّى ثورة زنجبار. ويستفيد من هذا ذرية ذلك الشّخص. ولا علاقة لهذا التعريف بالعرق مع أنّ تنزانيا تحوي عدداً كبيراً من السّكان العرب والآسيويين، يعيشون جنباً إلى جنبٍ مع السّكان السود.
أمّا الأوغندي فيعتبر مواطناً، إذا كان عضواً في مجموعةٍ إثنيّة أصليّة، كانت تعيش في أوغندا بحلول عام 1926. يربط القانون الأوغندي المواطنة بالعرق والأصلانيّة، فلا يستطيع المرء الحصول على بطاقة هوية وطنية أو جواز سفر مالم يثبت انتماءه لمجموعة إثنيّة أصلية. وعندما يذهب مواطن أوغندي إلى الشرطة أو يقدّم للدراسة في جامعةٍ، فإن أحد الأسئلة الأولى التي يواجهها هو: ما "قبيلتك"؟
لا ترى الدولة الأوغندية المجتمعَ الأوغندي سوى حشداً من "القبائل". فلم لا تغدو العرقية مثار جدلٍ حينما تصبح أساس العضوية السياسية في المجتمع السياسي الأوغندي؟ من خلال فصل المواطنة عن العرق والإثنيّة والأصلانيّة، ما اضطرت تنزانيا لطرد سكانها العرب والآسيويين، أمّا أوغندا فطردت الكينيين والهنود والبانيارواندا، وقد يتكرر نفس الشيء في المستقبل، ما دامت تحديد المواطنة بالإثنيّة والعرقيّة.
تحدت تنزانيا جوانب من منطق الدولة الوطنية الما بعد الاستعمار لسببين محتملين؛ الأول، هو تأثير الاشتراكية على الفكر السياسي لجوليوس نيريري. فقد نظر نيريري إلى المجتمع من حيث الطبقة، وليس العرق. والثاني، هو أن ما يسمى بثورة زنجبار أضعف، عبر تطهيرٍ عرقيّ، العرب، وقلصهم إلى أقلية صغيرة يسهلّ التحكم فيها، وبالتالي فإن الأغلبية السوداء في تنزانيا تتسامح وتتعايش معهم سلميّاً، دونما خوف من هيمنتهم عليها.
يهيمن الهنود، من ناحيةٍ أخرى، على الاقتصاد والسياسة في أوغندا. ولا يمكن التسامح، منطق الدولة القومية، مع مثل هذه الأقلية القوية. ومن هنا ليس مستغرباً أن القوميين الأوغنديين في الستينيات والإصلاحيين في التسعينيات عرّفوا المواطنة على نحوٍ أصلانيّ استبعد الهنود والأقليات الأخرى. يظلّ الهنود في أوغندا أقلّية مخيفةً، وسيأتي طردهم الثاني "أكثر رعبا من الأوّل"، كما حذّر يوسف سيرونكوما.
أخضع العنصريون البيض في جنوب أفريقيا السكان الأصليين لنظام فصل عنصري وحشيّ. وحارب أهل الجنوب في السودان التهميش لعقودٍ من الزمن.
اختارت الأطراف المتحاربة في السودان، وخاصة بعد وفاة جون قرنق الذي اختار حلاًّ في إطار سودان واحدٍ موحدٍ، حل الدولتين، لأنها حددت المشكلة بمصطلحات عرقيّة وثقافية. وعوضاً عن معالجة المعضلة الأساس للدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية التي تجعل العرق والإثنية والدين أساساً للتضمين السياسي، قرروا إنشاء دولة وطنية ما بعد كولونياليّة جديدة، على أساس هذه التعريفات الهوياتيّة؛ فلم يعم سلامٌ السّودان ولا جنوب السودان.
بينما وافق السكان الأصليون المضطهدون والعنصريون البيض في جنوب إفريقيا على إنهاء الفصل العنصري، والتعايش كمجتمعٍ سياسي واحد. فعمّ جنوب إفريقيا، بالمقارنة مع السودان وجنوب السودان، سلامٌ نسبيّ. غير أنّ السلام في جنوب إفريقيا قائمٌ على أساسٍ هش، لأنّ الاتفاق الذي أنهى سيطرة البيض سمح للبيض بالاحتفاظ بالامتيازات الاقتصادية التي حصّلوها من تجريد السكان الأصليين من ممتلكاتهم. إلى متى يصمد السلام مع أقلية صغيرة، تحظى بامتيازات على حساب أغلبية محرومة فقيرة وساخطة؟
إذا كان حل الدولتين كما حدث في السودان محفوفاً بالصراعات، فما الدروس التي يمكن لفلسطين وإسرائيل تعلّمها من حلّ الدولة الواحدة في جنوب إفريقيا؟
ماذا يعني للفلسطينيين واليهود أن يعيشوا معاً في نفس المجتمع السياسي؟ ما التنازلات التي يتعيّن على الجانبين تقديمها؟ إن اتباع مسار جنوب إفريقيا حرفياً يعني أن اليهود سيحتفظون بالأرض والامتيازات الأخرى التي انتزعوها من الفلسطينيين، في مقابل ضمّهم في المجتمع السياسي كأعضاء مساوين لهم. ولكن، أي نوعٍ من المساواة سيكون ذلك؟ وأي نوع من السلامِ سيسفر عنه؟
لا يقدم مثال جنوب إفريقيا، من وجهة نظرٍ تجريبيّة، أملاً شافيّاً. بيد أنّ الحقائق التجريبية وحدها، التي تظهر مؤقتة وعابرة، لا يمكنها أن تحدد بوصلة تفكيرنا.
لقد كان المنظر السياسي محمود ممداني محقاً في اعتبار جنوب إفريقيا تجربة مهمة، وموقعاً لتجريد الفكر في سبلٍ تمكّن أعراقاً وثقافاتٍ مختلفة من التعايش في سلامٍ، دونما إعادة إنتاج لبعدِ الدولة الوطنية الاستقطابي الضّيق.