تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الثلاثاء 5 نوفمبر 2024

فكر

على هامش أفريقيا في فلسفة "تاريخ العالم" لهيجل: محاورات أفريقية

1 أكتوبر, 2024
الصورة
باب اللاعودة هو قوس تذكاري في عويضة، بنين.
باب اللاعودة هو قوس تذكاري في عويضة، بنين.
Share

في مقدمة العمل البارز للمؤرخ الأمريكي الكبير وليام ماكنيل (W. H. McNeill) عن نهوض الغرب (1963) أقر، ضمن نقد ذاتي ملفت في جسارته، بتجاهله تناول أفريقيا بشكل واضح، رغم ما أظهرته السنوات السابقة على ظهور الكتاب، من وجود تفاعل معقد بين شعوب وثقافات القارة، وبرر ذلك بافتقار أفريقيا جنوب الصحراء كونها مقر إحدى الحضارات الكبيرة، ومن ثم "فقد ظلت القارة على هامش بقية العالم" حتى عصرنا الحالي (منتصف القرن الماضي). ولاحظ أنه فيما بدت الفقرات الموجزة حول التاريخ الأفريقي (في مؤلفه) رثة وغير مناسبة، فإن هذا القصور لا يخل بالصورة الشاملة للماضي بقدر ما سببه القصور في الفصل العاشر في الإقرار بعهد الصين في القيادة العالمية". 

كانت إشارة ماكنيل، الذي عمل مساعدًا للملحق العسكري الأمريكي في اليونان ومصر (1944-1946)، دالة على هشاشة الأسباب "التقنية" لتهميش أفريقيا في كتابة التاريخ العالمي لملاحظة أساسية، وهي أن التاريخ لا يقوم على الصورة الذهنية أو السائدة (أو المطلوبة) بقدر قيامه على عمليات تقصٍ واستقراء مستمرة للشواهد التاريخية، والتي لم تخل من الإشارة لمكانة القارة في هذا التاريخ طوال مراحله؛ فإن مسألة هامشية أفريقيا في التاريخ العالمي ظلت محل سجالات مستمرة وقوية، منذ ظهور عمل الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل "فلسفة التاريخ" (لاسيما بعد نقله إلى الإنجليزية في عدة طبعات، من أبرزها ترجمة جون سيبري J. Sibree التي صدرت في العام 1901)، وتبنيه سردًا مهمشًا تمامًا لأفريقيا في كتابته عن تاريخ العالم وتفسيره، مرورًا بمحاولات نقد هذه الرؤية من قبل عدد من المؤرخين، وصولًا لنقد منهجي وعميق قدمته مجموعة من المفكرين والمؤرخين، ربما كان من أهمهم طرح سمير أمين في العديد من مؤلفاته الناقدة لسردية التاريخ العالمي التقليدية/ الغربية.

أفريقيا في سرد هيجل: ثلاث قارات؟

رأى هيجل في مقدمة "فلسفة التاريخ"، وفي سياق طرحه الكلاسيكي بالأساس الجغرافي لتاريخ العالم، أن أفريقيا قارة منغلقة على نفسها جغرافيًا، وهي سمة لا تزال سائدة بها (في الربع الأول من القرن 19)، وأن التباينات في تضاريسها الجغرافية تبدو عميقة للغاية، لدرجة أن الاختلافات في شخصيتها الروحية (وهو اهتمام عام رئيس لهيجل تجلى في عمله الهام لفهم عقله وتفسيراته للتاريخ: The Spirit of Christianity and its Fate (1798))  تظل معلقة بخصائصها الطبيعية. 

كما اعتبر أنه "يمكن القول إن أفريقيا تتكون من ثلاث قارات منفصلة تمامًا عن بعضها البعض، ولا يوجد فيما بينها أي اتصال يذكر". وقسم هيجل هذه "القارات الثلاث" إلى أفريقيا الحقة (Africa proper) الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، وتتكون من أراض مرتفعة غير مستكشفة بالكامل تقريبًا (حسب رؤية المركزية الأوروبية الواضحة)، وذات القطاعات الساحلية الضيقة على سواحلها (وهو تقسيم يبدو تأثيره واضحًا في عمل ماكنيل الذي أرجع هامشية دور أفريقيا في التاريخ العالمي إلى محدودية تفاعلها مع تجارة العالم خارجها وحضاراته، لأسباب من بينها ضيق سواحلها المتصلة مع هذا العالم). أما "القارة" الثانية، فتتمثل في الأراضي الواقعة شمال الصحراء، وهو الإقليم الساحلي الذي يمكن وصفه بأفريقيا الأوروبية (European Africa). والثالثة إقليم "وادي النيل"، وهو أرض الوديان الوحيدة في أفريقيا، ووثيق الصلة بآسيا ([1])، حسب تفسير هيجل. وألحق هيجل الشمال الأفريقي من المغرب حتى حواف وادي النيل في وحدة واحدة مع إسبانيا، كونه "لا ينتمي بحق لأفريقيا"، وأنهما ينتميان لنفس الحوض؛ أي البحر المتوسط، وأن هذا الجزء، كما الشرق الأدنى، يولي وجهه شطر أوروبا، ومن ثم "يجب إخضاعه لمجال النفوذ الأوروبي، كما حاول الفرنسيون بنجاح مؤخرًا". 

أما مصر، أرض النيل، فإنها، حسب نص هيجل، واحدة من الأقاليم التي وصفناها بالمركزية، لأن قدرها أن تصبح مركزًا لثقافة عظيمة ومستقلة. ولمصر ارتباط بالبحر المتوسط، وهو ارتباط انقطع في البداية (ربما في إشارة للانتقال من مصر البطلمية والرومانية إلى ما بعد دخول العرب أرضها في منتصف القرن السابع للميلاد) ثم عاد بقوة في تاريخ لاحق. 

ينتقل هيجل "للقارة الثالثة"، وهي أفريقيا الحقة (جنوب الصحراء الكبرى) التي يصفها بأنها غير ذات تاريخ يستحق الذكر في سياق تاريخ العالم الذي تناول تفسيره "لأننا نجد سكانه يعيشون في بربرية ووحشية في أرض لم تزودهم بأية مقومات الثقافة"؛ قبل أن يشير إلى أن "أفريقيا ظلت، منذ أقدم العصور، منقطعة عن جميع الصلات مع بقية العالم... وأن عزلتها ليست نتيجة لطبيعتها الاستوائية فسحب، بل نتيجة جوهرية لشخصيتها الجغرافية. واستكمل هيجل تصوره بأن القارة لا تزال غير مكتشفة بعد، وليست لها أية صلات بأوروبا".

وقَصد هيجل -على الأرجح- أن عزلة القارة وتخلفها يعود إلى عدم تمدد النفوذ الأوروبي في مناطقها الداخلية (وفق الحالة في عصره)، لأنه يعود في موضع آخر ليؤكد أن سواحل أفريقيا ظلت لقرون موئلًا للأوروبيين (التجار والمستوطنين)، لكنهم لم ينجحوا في الوصول إلى مناطقها الداخلية حتى نحو 15 عامًا خلت (نهاية القرن الثامن عشر). 

لقد عبر المبشرون (الأوروبيون) في رأس الرجاء الصالح (على سبيل المثال) المرتفعات إلى الداخل. كما استوطن الأوروبيون في الشريط الساحلي في عدة أماكن، مثل: الساحل الشرقي لموزمبيق، والساحل الغربي في إقليمي الكونغو ولوانجو، وفي السنغال... لكن طوال الثلاثة قرون أو يزيد من معرفتهم بالشريط الساحلي، والاستيطان في أجزاء منه، فإنهم لم يعبروا المرتفعات إلا في أماكن معزولة أو لفترات زمنية وجيزة، ولم يحتلوا أراضٍ على نحو دائم خارج الشريط الساحلي في المناطق المتفرقة.

بغض النظر عن الحماسة الاستعمارية لدى هيجل في الصفحات التالية المعنية بالقارة الأفريقية (في أقاليمها الثلاثة وفق سرده)، فإن هذا الطرح يبرز واحدة من أهم أسباب تهميش القارة الأفريقية في كتابة "التاريخ العالمي"، كنمط سائد من أنواع الكتابة التاريخية، يميل إلى تغليب الرؤية الفكرية لبؤر الهيمنة المعاصرة لها. إضافة إلى تداعيات ذلك على موقع أفريقيا في تاريخ العالم، ألا وهو ربط تاريخ أفريقيا بشكل عضوي بالقارة الأوروبية كوجهة وحيدة لصلة أفريقيا بالعالم، واستبعاد فرضيات التفاعل الحضاري الأفريقي البيني على مدار العصور التاريخية المعروفة، وهو توجه فاسد على علاته بالنظر إلى تفاعلات أفريقيا المعروفة بقارات العالم المختلفة (آسيا وأوروبا منذ أقدم العصور، والأمريكيتين من عصور تاريخية أقدم من عصر الاسترقاق والتجارة الأطلسية في القرن الخامس عشر للميلاد، حسب قراءات تاريخية أفريقانية وأمريكية جنوبية).

أفريقيا: عالم الحواس!

قدم المؤرخ الإثيوبي تيشيل تيبيبو (Teshale Tibebu) نقدًا مهمًا، ومسهبًا، لتصورات هيجل نحو أفريقيا وموضعها في تاريخ العالم. وجاء ذلك في مؤلفه "هيجل والعالم الثالث: صنع المركزية الأوروبية في التاريخ العالمي" (2011) الذي كرسه لنقد مجمل تيار المركزية الأوروبية، ولاسيما كما تجسد في فلسفة هيجل للتاريخ "دعائي"، حتى في حال وضعها في سياقاته التاريخية في واقع الأمر. مع ملاحظة أساسية هنا، وهي أن جهد تيبيبو هذا جاء استكمالًا لنقد ما وصفه بمعاداة هيجل للسامية ورؤيته "دونية اليهودية واليهود" في كتاب سابق له بعنوان "Hegel and Anti-Semitism" (2008)، وانطلاقه من فرضة مسبقة رئيسة، وهي أن فلسفة هيجل برمتها قائمة على ما يصفه "بالأنثروبولوجيا الفلسفية العنصرية" racist philosophical anthropology).  ولاحظ في مقدمة عمله ملاحظة فائقة الأهمية -ويمكن تطويرها في سياقات بحثية أخرى- ألا وهي أن جهد هيجل في التاريخ العالمي يقوم على "تأريخانية" (historicization) نظريته لمراحل رحلة الروح لمعرفة نفسها، وما يفهم من ذلك بعمل هيجل -فيما يخص أفريقيا على الأقل- على إخضاع دراسة التاريخ لتوجهاته النظرية أو الدينية/ المسيحية التي لا لبس فيها. 

قدم تيبيبو نقدًا مهمًا لموضع أفريقيا في التاريخ العالمي، وفق هيجل في الفصل السادس الذي حمل عنوان "إفريقيا: عالم الحواس"، واستهله بتقديم انتقاد حاد، وربما غير منطقي كونه قدم خلاصة مباغتة قبل مناقشة فكرته، لهيجل ورؤيته لأفريقيا بأن مجمل وجود الخيرة ينحصر في مجال "الآنية الطبيعية" natural immediacy، وأن مستوى الوعي بين سكانها هو الأدنى (وصفه هيجل في موضع آخر بأنه غير إنساني) والأفقر والأكثر تجريدًا في مراحل الوعي، وأن كل ما كتبه هيجل في كتاباته ومحاضراته عن أفريقيا يدور حول ثلاثة أمور: التشهير والازدراء والتجريد من الإنسانية([2]).

يعمد تيبيبو بعد بسطه لأفكار هيجل إزاء أفريقيا و"القارات الثلاث" إلى السجال معه، على وجه التحديد، في فكرة "أفريقيا الحقة" التي تقوم حسب تحليل الأول، على ثلاثة أفكار رئيسة، وهي: أن أفريقيا ليس لها تاريخ ولا ثقافة واحدة، وأن القارة منعزلة عن العالم الخارجي، وأنها مجرد أرض للثروات الطبيعية مثل الذهب.

تمثل هذه الأفكار الثلاثة نواة الهوية الأفريقية القائمة حتى الآن في "تواريخ الحداثة الغربية" التي وضع هيجل أساسها المنهجي حسب تيبيبو. وبغض النظر عن لغة الأخير "الحماسية" أو الغاضبة في بعض المواضع، فإنه قدم نقدًا مهمًا لفكرة عزلة أفريقيا عن العالم الخارجي من زاوية أن الفكرة تعمد إلى إقصاء أفريقيا من "العالم"، ورهن وجود أفريقيا نفسه بانفتاحها على التبشير والمسيحية الغربية، حسب جدل تيبيبو- هيجل. يركز الأول على مثال إثيوبيا المسيحية التي انفتحت على الشرق الأدنى والبحر المتوسط وأوروبا، في فترات تاريخية متعاقبة، ليضرب أمثلة عملية بتهافت تفسير هيجل لموضع إفريقيا في تاريخ العالم، وخطورة تجاهله للحقائق التاريخية لصالح إثبات رؤيته المسبقة.

أفريقيا في التاريخ العالمي: رؤية من الجنوب؟

طرح المفكر المصري سمير أمين فكرة التاريخ العالمي، وفق رؤيته من الجنوب، في عمل مهم من أواخر أعماله، وهو "التاريخ العالمي: رؤية من الجنوب" (2011)، والذي ضم بين دفتيه عددًا من أهم الدراسات التي قدمها أمين، في فترات مختلفة، لنقد أفكار التاريخ العالمي "الرأسمالية"، وانتقد أمين بقوة فكرة المركزية الأوروبية التي بلورها هيجل عن أفريقيا، كطرف مهمل على هامش الحضارة والتاريخ العالميين، وربط ذلك بنقده للرأسمالية وتجلياتها "العالمية" منذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر.

وجاء نقد أمين مكثفًا في الفصل الأول ([3]) الذي حمل عنوان نظم العالم القديم مقابل النظام العالمي الرأسمالي الحديث، وجاءت أفريقيا حاضرة في قلب تناول الفصل لتفاعلات "نظم العالم القديم"، دون انقطاع على نحو يمثل نقضًا مؤسسيًا لطرح هيجل، وربما كان استجابة محسوسة له، وكان واضحًا استهلاله بتناول الإسهام التنظيري للمفهوم الماركسي "نمط الإنتاج الرأسمالي" ودوره في نقد المركزية الأوروبية في المسألة. 

رأى أمين أن جميع المجتمعات المتقدمة في الفترة من 300 ق.م حتى القرن السادس عشر الميلادي كانت ذات طبيعة (اقتصادية ذات تداعيات اجتماعية) متشابهة، وهي ما يسميه "نظام الخراج" (tributary) بمعنى أن الفائض يؤخذ من نشاط الفلاحين عبر أجهزة مرتبطة بتنظيم تراتبية السلطة (حيث تكون السلطة مصدر الثروة على خلاف الحال في الرأسمالية، حسب أمين). أثار أمين سؤالًا هامًا، وهو هل نظام الخراج في البحر المتوسط كان منعزلًا عن النظامين الآسيوي والأفريقي (بما فيه أفريقيا جنوب الصحراء كما يفهم من السياق لاحقًا) أم وثيق الصلة بهما؟ مع صلة ذلك بملاحظة استمرار التبادلات المتوسطية والهندية والأفريقية عبر شبه الجزيرة العربية، في الفترة المحددة في طرح أمين. يجيب عن ذلك بأن جميع قارات العالم القديم حفلت بنظام الخراج "بشكل أو بآخر"، ولمرحلة طالت أم قصرت، ووفق تراتبية سلطة بسيطة أو معقدة، وارتبط بذلك وجود حركة تجارة عالمية لم تستثن منها أفريقيا بشكل واضح (كما في حالة التجارة الأفريقية العربية والصينية والهندية في المحيط الهندي والبحر الأحمر).

كما لمس أمين فكرة هامة، وهي دينامية موقع أفريقيا في تفاعلات حضارية مميزة مثل فترة المركز العربي- الفارسي الذي كان يحيط به "ثلاثة مناطق أطراف"، وهي أوروبا وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، وعبر طرق تجارة معروفة، وهي الطريق البحري بين الشرق الأوسط وماليزيا وإندونيسيا، والطريق البحري بين الشرق الأوسط وشرق أفريقيا "السواحيلي"، وطريق الربط بين مركز الخلافة الإسلامية والدولة البيزنطية في أوروبا. وكان ذلك من ضمن العوامل التي قادت لاحقًا لتسارع جهود تكوين الدولة في إقليم الساحل الأفريقي وشرق أفريقيا  وفتح طريق "أمام أسلمة مثل هذه الأقاليم".

رغم أن إفريقيا تعد -دون مبالغة- أكثر قارات العالم تنوعًا ثقافيًا وتاريخيًا وحضاريًا، وبشكل مذهل، فإنها تعاني من تهميش مستدام في حقل ما يعرف بالتاريخ العالمي، الذي تغلب عليه الرؤية المركزية الأوروبية، وتجلياتها التي تظهر في كتابات متنوعة حتى الوقت الحالي. لكن ثمة محاورات إفريقية هامة، ويرتقب بعضها كما يفترض في حقل الكتابة التاريخية الأفريقية، قامت بتفكيك مثل هذه النظرة بشكل مباشر، عبر نقد هذا التوجه منذ كتابات هيجل البارزة، كما اتضح من مثالي تيبيبو وأمين راهنًا.


 

[1] راجع أفكار هيجل حول أفريقيا في: 

  • Hegel, Georg Wilhelm Friedrich Hegel, Lectures on the Philosophy of World History: Introduction (translated by H. B. Nisbet) Cambridge University Press, Cambridge, 1975, pp. 173-190. 

[2] Tibebu, Teshale, Hegel and the Third World: The Making of Eurocentrism in world History, Syracuse University Press, New York, 2011, p. 171. 

[3] انظر:

Amin, Samir, Global History: A View from the South, Pambazuka Press, Cape Town, 2011, pp. 12-49.