الخميس 23 يناير 2025
تتصاعد نُذر المواجهة العسكرية بين الحكومة الفيدرالية ورئيس جوبالاند أحمد محمد إسلام، الشهير بأحمد مدوبي، بعد إخفاق جميع الجهود في تسوية الأزمة، وإرسال مقديشو قواتها إلى منطقة رأس كامبوني التي تُبعد نحو 200 كلم جنوب حاضرة ولاية كسمايو.
تفاقمت الأزمة بعد تنظيم مدوبي انتخابات الولاية البرلمانية والرئاسية، وفق النظام العشائري على خلاف رغبة الحكومة الفيدرالية، التي تسعى لتنظيم انتخابات عامة مباشرة. يعيد الصراع ذكرى حدث آخر مشابه خلال أعوام 2019 حتى 2022، بين مقديشو ومدوبي، مع اختلاف هوية سيد فيلا صوماليا. خاض الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو الأزمة عينها التي يخوضها الرئيس الحالي حسن شيخ، وانتهت لصالح مدوبي، ودفع الثمن بخسارة ترشحه لعهدة رئاسية ثانية، فهل يلقى حسن شيخ نفس المصير أم ينفد الحظ من مدوبي؟
تحكي قصة الخلافات بين مدوبي وسيد فيلا صوماليا – القصر الرئاسي – جانبًا هامًا من مأزق بناء سلطة شرعية مستدامة في الصومال، في فصلها الأهم الذي بدأ في عام 2012 بعد التحول من الحكومة الانتقالية إلى الحكومة الفيدرالية، وما صاحبها من تبني الدستور الانتقالي، وإجراء الانتخابات وفق النظام العشائري المعروف ب"4.5".
لم يكن الرئيس حسن شيخ على في عهده الأول (2012 - 2017) على وفاق مع مدوبي، بسبب انفراده بالسلطة في جوبالاند، منذ تحريرها من قبضة حركة الشباب بمساعدة القوات الكينية في 2012. دعمت مقديشو خصومه القبليين حتى عام 2013، ثم تصالحت معه، ورعت تأسيس ولاية جوبالاند، واُختير مدوبي رئيسًا انتقاليًا لمدة عامين.
فاز الرجل في أول انتخابات للولاية في 2015، وحين حلّ موعد انتخابات 2019 وجد خصمًا جديدًا، هو الرئيس السابق فرماجو (2017 - 2022). عقدت الولاية الانتخابات الثانية في 2019، وفاز مدوبي بعهدة رئاسية ثانية، لكن مقديشو رفضتالقبول بالنتائج، بسبب رغبتها في الانتقال لانتخابات مباشرة، وأرسلت قوات فيدرالية إلى إقليم جدو. استهلكت الأزمة التي كانت جزءًا من معارضة سياسية واسعة العامين الأخيرين من عهد فرماجو، الذي اضطر للتراجع والقبول بتنظيم الانتخابات الفيدرالية بعد امتناع لأكثر من عام، وخسر المنافسة لصالح حسن شيخ.
عاد حسن شيخ ثانية إلى فيلا صوماليا في مايو/ أيار 2022، وسرعان ما أعلن عن تبنيه مشروعا سياسيا يستهدف تعديل الدستور، مكررًا خطة سلفه فرماجو، على الرغم من رفضه لها حين كان الأخير في السلطة. ساير مدوبي الرئيس في خطته، ووقع على اتفاقيات المجلس الاستشاري الوطني، التي تضمنت مراجعة الدستور الانتقالي، وإقرار دستور دائم، واستبدال النظام الانتخابي العشائري بنظام الانتخاب العام المباشر، وتبني نظام تعددية حزبية يقتصر على ثلاثة أحزاب. بدا أنّ مدوبي تخلى عن حلفائه الدائمين في المعارضة، التي تضم رؤساء سابقين ورئيس ولاية بونتلاند وغيرهم، لكنه كان يمهد لخطة بديلة، نفذها تحت أعين وسمع الرئيس، الذي توهم أنّه أمن جانبه.
مضى الأخير في خطته التي تضمنت تعديل مادتين في دستور الولاية في أغسطس/ آب 2022، لتصبح مدة رئاسة ولاية الرئيس والبرلمان خمس سنوات بدلاً من أربع، مانحًا تمديدًا لنفسه وللبرلمان لمدة عام، لتنتهي ولايته بهذا في أغسطس/ آب 2024 بدلًا من 2023. وأكمل تدبيره بتعديل دستوري ثان في يوليو/ تموز الماضي، حذف فيه المادة التي تقصر حقّ الترشح لمنصب رئيس الولاية على مدتين، مانحًا نفسه الحق للترشح لولاية ثالثة جديدة.
لم يبق أمام الرجل لتحقيق خطته سوى التنصل من تعهداته للرئيس حسن شيخ، فاستغل عقد اجتماع المجلس الاستشاري الوطني للتباحث بشأن الانتخابات في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي منبرا لإعلان العودة إلى صفوف المعارضة. حضر مدوبي الاجتماع في مقديشو، ثم أعلن بعد أيام الانسحاب والعودة إلى كسمايو، مبررًا موقفه بعدم إشراك ولاية بونتلاند، وما يُعرف بإدارة خاتمو.
شرع مدوبي في تنفيذ خطة انتخابه لولاية ثالثة، وأعلن عن قطع العلاقات مع مقديشو، ثم نظم انتخابات البرلمان والرئاسة في أقل من أسبوع، ليحوز فترة رئاسية ثالثة. ردت الحكومة الفيدرالية من جهتها بإعلان رفض إجراء أية انتخابات غير مباشرة، وعدم الاعتراف بما جرى في جوبالاند، وبدأت في نقل قواتها عبر الجو، من مقديشو إلى منطقة رأس كامبوني في إقليم جوبا السفلى في الولاية.
تتابعت الأحداث، بإصدار محكمة إقليم بنادر أمر قبض بحق مدوبي، بعد اتهامه بالخيانة وانتهاك الدستور، وأرسلت نشرة إلى الإنتربول تطلب بموجبها القبض عليه. بدورها أصدرت حكومة جوبالاند أمر قبض بحق الرئيس حسن شيخ محمود، وأعلنت القطيعة مع مقديشو. كما تحدث مدوبي متهمًا حسن شيخ بانتهاك الدستور، ودعا أصحاب المصلحة من الولايات والساسة إلى الاجتماع، ووجه تحذيرًا إلى القوات الفيدرالية مطالبًا إياها بالانسحاب من رأس كامبوني في غضون 15 يومًا.
ميدانيًا، أعلنت الحكومة الفيدرالية انضمام نحو 300 جندي من قوات جوبالاند إلى قواتها، ونشرت على لسان الجنود شكاوىعن سوء المعاملة وضعف وعدم انتظام الرواتب. ردت الولاية باتّهام القوات الفيدرالية بارتكاب أعمال عنف، واغتصاب وقتل مدنيين في رأس كامبوني. وبهدف تفكيك قوات الولاية، أعلنت مقديشو عن استيعاب الجنود والضباط الذين ينشقون عن مدوبي في الجيش الوطني، ومنحهم رواتب ورتب عسكرية وترقيات.
إلى هذا، لم تصرح مقديشو باستخدام القوة للقبض على مدوبي، وبررت خطوتها العسكرية بالاستعداد لاستلام المهام الأمنية من بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية "أتميس"، ومطاردة عناصر حركة الشباب في الولاية.
تكشف تحركات الحكومة الفيدرالية عن ثلاثة محاور متوازية للتعامل مع الأزمة، وهي؛ العسكري، ودعم المعارضة الداخلية، وكشف الغطاء الكيني عن مدوبي. حققت الحكومة تقدمًا في المحور العسكري، من خلال السيطرة على رأس كامبوني، كنقطة تجميع لقواتها التي سترسلها تباعًا من مقديشو، كما أنّها تحظى بدعم من مئات المقاتلين من الولاية.
لكن المحور الثاني يبقى أشد أهميةً، لأنه بمثابة غطاء قبلي داخلي، وفي هذا الصدد يلعب رئيس الوزراء حمزة عبدي بري دورًا كبيرًا. ينحدر بريمن قبيلة أوغادين في جوبالاند، مثل خصمه مدوبي، وشغل عدة مناصب في مدينة كسمايو التي وُلد فيها، ويتولى قيادة جهود الحكومة الفيدرالية في مواجهة مدوبي، سواء في مرحلة المحادثات المباشرة معه، والتي كان مصيرها الإخفاق، أو في إدارة الأزمة مع الجانب الكيني.
كما استغل خصوم مدوبي الأزمة لمواجهته، فنظَّم المعارض إلياس بادال غابوسي انتخابات عشائرية موازية في كسمايو، وأعلن نفسه فائزًا برئاسة بالولاية، لكنه لم يهنئ بفوزه المزعوم طويلًا، إذ قبضت عليه مخابرات الولاية. يمثّل غابوسي ورقة بيد الحكومة الفيدرالية، وبحسب تقرير صحفي، تتردد الحكومة في الاعتراف بفوز غابوسي خشيةً على سلامته، ولتناقض هذا مع مسعاها لتنظيم انتخابات مباشرة، ولكنها قد تبحث تعيينه رئيسًا انتقاليًا لمدة عامين، إذا توفرت شروط تضمن سلامته.
في السياق ذاته، تحظى مقديشو بدعم من إقليم جدو، الذي ينحدر منه الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو، بعد إعلان محافظ الإقليم اصطفافه إلى جانب الحكومة الفيدرالية، وتابعه في الموقف ذاته محافظ منطقة بادهادهي في إقليم جوبا السفلى، القريبة من تمركز القوات الفيدرالية في رأس كامبوني. يبدو تصدر رئيس الوزراء حمزة بري فارقًا هذه المرة، حيث تحظى تحركات الحكومة الفيدرالية بدعم غير قليل من العديد من القيادات القبلية في جوبالاند، وقيادات أخرى وازنة مقيمة في كينيا.
مقارنة بالمحورين الأوليين، لم تحقق مقديشو اختراقًا في الموقف الكيني الداعم لمدوبي، فبحسب مصادر صحفية أجرى رئيس الوزراء زيارة غير معلنة إلى كينيا في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني، للتباحث مع المسؤولين هناك حول الأزمة، وسبقتها عدة زيارات ولقاءات مع وفود كينية، دون نجاح في كسب نيروبي لصالحها.
استنادًا إلى العرض السابق، وتجربة الرئيس السابق فرماجو مع مدوبي، يمكن الخروج بسيناريوهين رئيسيين يستشرفان مستقبل الأزمة:
الأول، تحرك القوات الفيدرالية نحو كسمايو لحسم الصراع بالقوة، وهو غير مرجح في الفترة القريبة، وقد يزيد رجحانه حال تابعت مقديشو إرسال المزيد من القوات والعتاد المتوسط والثقيل، والذي لا يمكن نقله جوًا. كما أنّ الخطر الذي تمثّله حركة الشباب التي تسيطر على مساحات شاسعة في الولاية يبقى عائقًا أمام القوات الفيدرالية، ويتطلب آلاف الجنود لتأمين أي عملية عسكرية تستهدف كسمايو. بالإضافة إلى هذا، سيجلب الصدام المسلح انتقادات كبيرة بحق الحكومة الفيدرالية من الشركاء الدوليين، في ظل تراجع قدرتها على استئناف الحرب ضد حركة الشباب.
الثاني، توظيف الحكومة الفيدرالية التحشيد العسكري وسيلة للضغط فقط، إسوةً بما فعلته حكومة الرئيس السابق فرماجو، وفي هذه الحالة فعامل الوقت ليس في صالح الأولى، حيث سيكسب مدوبي وحلفائه في المعارضة مزيدًا من الدعم والقوة بمرور الوقت، وصولًا إلى موعد عقد الانتخابات الفيدرالية. في هذه الحالة، سينتظر حسن شيخ مصير فرماجو، وسيضطر في النهاية لتنظيم انتخابات عشائرية، والتراجع عن مجمل مشروعه السياسي.
في المجمل، يمثّل الصراع مع مدوبي عرضًا لأزمة بناء الدولة في الصومال، التي لا تزال تراوح مكانها، سواء بتكرار نفس الأزمات أو نفس الوجوه. ولئن كانت تلك خطيئة الممسكين بزمام الأمور، فمعارضيهم ليسوا أحسن حالًا؛ فالجميع منخرط في ألاعيب التنافس على السلطة والموارد، فيما يدفع الشعب وحده الثمن من الأرواح والمستقبل والآمال.