تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 15 مايو 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
فكر

لماذا لم يفز نغوغي بنوبل؟ تفكيك الجائزة من داخل المشروع الأدبي

27 أبريل, 2025
الصورة
Incroci
Share

لا يمكنُ الحديث عن الأدبِ الأفريقيّ المعاصر دون الوقوفِ عند تجربةِ الكاتب الكيني العالمي نغوغي وا ثيونغو، باعتبارها من أكثرِ التجاربِ الأدبيّةِ والفكريّةِ راديكاليّةً في تفكيكِ العلاقةِ بين اللغةِ والهويّةِ والسلطةِ والتاريخِ. منذ ستينيّات القرن العشرين، شكّلت كتاباته ـ سواء السرديّة أو النظريّة ـ لحظةً مفصليّةً في مسارِ ما بعدَ الاستعمار، من خلال ما اقترحه من قطيعةٍ معرفيّةٍ مع النموذجِ الكولونياليّ، ومن خلال دفاعه عن لغةِ "الكيكويو" بوصفها أداةً للتحرّرِ الثقافيّ، لا مجرّد وسيطٍ تواصليّ.

يُمثّل نغوغي - في السياقِ العالميّ - نموذجًا فريدًا للكاتبِ الذي لم يكتفِ بموقع "الهامش" في مواجهة "المركز"، بل عمل على تفكيكِ الثنائيّةِ ذاتها؛ عبر مشروعٍ أدبيٍّ وفكريٍّ متكاملٍ، يستند إلى تصوّرٍ مُغايرٍ للوظيفةِ الجماليّةِ والاجتماعيّةِ للكتابة. وقد ترافق هذا المشروعُ مع مواقفَ حاسمةٍ من القضايا الكبرى، مثل: الاستعمارِ الثقافيّ والاغترابِ اللغويّ والعولمةِ الرمزيّةِ، ممّا جعله في موقعٍ مُتوتّرٍ ـ بل نقديّ ـ إزاء العديدِ من المؤسّساتِ الثقافيّةِ الغربيّة، وعلى رأسها جائزةُ نوبل التي ظلَّ غيابُه عنها موضوعَ نقاشٍ نقديٍّ مستمرّ.

ينطلقُ هذا المقالُ من تتبّعِ مسيرةِ نغوغي الإبداعيّةِ والنظريّةِ، في ارتباطِها بسياقِها السياسيّ والثقافيّ، قبل الانتقالِ إلى تحليلِ سؤالِ نوبل ليس بوصفه تساؤلًا فرديًّا أو تكريميًّا، بل باعتباره نافذةً لفهمِ البُنى العميقةِ التي تحكمُ الاعترافَ الأدبيَّ عالميًّا، ومعيار "الجَدارة" الثقافيّة في زمنِ ما بعد الكولونياليّة.

مشروع نغوغي الأدبيّ: من الشّكل إلى الأيديولوجيا

يمتدّ المشروعُ الأدبيُّ والفكريُّ لنغوغي عبر أكثر من خمسةِ عقود، ويتّسم بوعيٍ نقديٍّ شديدٍ بالتقاطعِ بين اللغةِ والهويّة، بين الشكلِ الفنّي والسلطة، وبين الأدبِ والمؤسّساتِ الثقافيّة. لا يُمكن فهمُ نغوغي كروائيٍّ أو منظّرٍ فحسب، بل ينبغي قراءتُه بوصفه مفكّرًا يقود مشروعًا لإعادةِ الاعتبارِ إلى اللغةِ والثقافةِ الأفريقيّة بوصفِهما أدواتٍ للتحرّر.

بدأ نغوغي مسيرتَه في الكتابةِ باللغةِ الإنجليزيّة، وبرز بسرعةٍ في المشهدِ الأدبي الأفريقي مع روايته الأولى "Weep Not Child" (1964) التي تُعَدّ أوّلَ روايةٍ تُنشر بالإنجليزيّة لكاتبٍ كينيّ، وقد تُرجمت إلى العربيّة بعنوان «لا تبكِ يا ولدي». ثمّ توالت أعماله الروائيّة المهمّة، مثل: "The River Between" (1965) «النهر الفاصل»، و"A Grain of Wheat" (1967) «حبّة قمح»، والتي تُعالج جميعُها آثارَ الاستعمارِ والمقاومةِ الوطنيّة، وتُقدّم رؤيةً سرديّةً مزدوجة: تعرية البُنى الاستعماريّة، مع تشريحِ تعقيداتِ ما بعد الاستقلال.

لكنّ المنعطفَ الحاسمَ في مسيرته حدث مع رواية "Petals of Blood" (1977) «بتلات الدم»، حيث بلغ نقدُه للرأسماليّةِ المحليّة والاستبدادِ السياسيّ ذروتَه، وهو ما أدّى إلى اعتقالِه في العام نفسه. أثناءَ سجنِه كتب رواية "Devil on the Cross" (1980) بالكيكويّة، على ورق المرحاض، لتكون أوّلَ عملٍ روائيٍّ يُكتب مباشرةً بلغةٍ إفريقيّةٍ محليّة، من قبل كاتبٍ إفريقيٍّ حاصلٍ على شهرةٍ دوليّة، وقد تُرجمت إلى العربيّة بعنوان «الشيطان على الصليب».

في مؤلّفِه الملحميّ "Wizard of the Crow" (2006)، كتب نغوغي عملَه الأضخم بالكيكويّة (Murogi wa Kagogo)، ثمّ ترجمه بنفسِه إلى الإنجليزيّة، وهو متوفّر بالعربيّة بعنوان «ساحر الغراب». وفي هذا العمل، يمزجُ بين الأسطورةِ والسخريةِ السياسيّة لتفكيك آليّاتِ الحكمِ الاستبداديّ والفسادِ البنيويّ في الدولِ الأفريقيّة الحديثة. هذا العمل تحديدًا يُجسّد ذروةَ مشروعه في تفكيكِ اللّغة الإمبرياليّة واستعادةِ السردِ المحليّ، من خلال شكلٍ روائيٍّ هجينٍ يتجاوز النمط الغربيَّ الكلاسيكي.

أمّا في المسرح، فقد لعب نغوغي دورا رياديّا في تحويلِ المسرحِ إلى فعلٍ جماعيّ وتحرّري. أبرزُ أعماله المسرحيّة، مثل: (1963) "The Black Hermit" و I Will Marry When I Want" (1977)", تؤسّس لما يمكن تسميتُه بـ"المسرح الجماهيريّ ما بعد الكولونيالي"، الذي يُعرَض خارجَ القاعاتِ التقليديّة، وبمشاركةِ الجمهور، وبلغةِ الكيكويّة، وبأسلوبٍ يُعيد دمجَ الأغنيةِ والرقصِ الشعبيّ بالحكايةِ السياسيّة.

إلى جانبِ منجزِه الإبداعيّ، يُعَدّ نغوغي من أبرزِ المفكّرين الذين ساهموا في بلورةِ خطابِ ما بعد الاستعمار من داخلِ التجربةِ الأفريقيّة. وقد تجلّى ذلك في عددٍ من المؤلّفاتِ النظريّة التي أرست مفاهيمَ جوهريّة لا تزال مرجعيّةً في دراساتِ ما بعد الكولونياليّة. في مقدّمة هذه الأعمال يبرز كتابُه «تفكيك الاستعمار العقلي» "Decolonising the Mind" (1986)، الذي يُعَدّ بيانًا ثقافيًّا حاسمًا، دعا فيه إلى استعادةِ اللغاتِ الأفريقيّة بوصفها حواملَ للهويّةِ والذاكرةِ والخيال. كما يُوسّع هذه الرؤية في كتابِه «تحريك المركز» Moving the Centre"، (1993)"، حيث ينتقدُ مركزيّةَ الغرب في الثقافةِ العالميّة، مطالبًا بتعدّدِ مراكزِ المعرفة، وفتحِ المجال أمامَ "الهامش" كي يُعبّر عن ذاته بلغته وخطابه الخاصّ.

من هنا، يصبح سؤال نوبل أكثر تعقيدًا: فهل تستطيع الجائزة أن تتّسع لمشروع أدبي يصرّ على زعزعة بنيتها الرمزية ذاتها؟

يطرح نغوغي في Something Torn and New"، (2009)"، تصوّرًا لإحياء الثقافةِ الأفريقيّة انطلاقًا من اللّغة، بوصفها بوّابةً للنهضة لا مجرّد أداةِ تواصُل. ويُقدّم في «ولادة ناسج أحلام» Birth of a Dream Weaver" (2016)" سيرةً ذاتيّةً فكريّةً تُوثّق تشكّلَ وعيه السياسيّ والجماليّ، وتكشفُ عن الخلفيّاتِ الشخصيّة والثقافيّة التي غذّت كتاباتِه ونزعتَه المقاوِمة.

تُمثّل هذه النصوصُ النظريّة امتدادًا فكريًّا لمشروعِ نغوغي الإبداعيّ، حيث تُؤسّس لأدبٍ لا يُفهمُ بمعزلٍ عن سياقه السياسيّ واللغويّ، وتُؤكّد أن الكتابةَ ليست فقط فعلًا جماليًّا، بل أيضًا موقعًا للصراعِ الثقافيّ والمقاومةِ الرمزيّة. بهذا المعنى، فإنّ نغوغي لا يُقاومُ فقط عبر ما يقول، بل عبر كيف يكتب؟ ومن أين يكتب؟ ولمن يكتب؟

من هنا، يُصبح سؤالُ نوبل أكثرَ تعقيدًا: فهل تستطيعُ الجائزة أن تتّسعَ لمشروعٍ أدبيٍّ يُصرُّ على زعزعةِ بنيتِها الرمزيّةِ ذاتها؟ هذا ما يدفعُنا إلى مناقشة إشكاليّةِ غياب نغوجي عن لائحةِ الفائزين بالجائزة في العنصر التالي.

نغوغي وسؤال نوبل: الأدب بوصفه مقاومةً مؤسّسيّة

رغمَ الحضورِ الوازنِ لنغوغي وا ثيونغو في المشهدِ الأدبيّ العالميّ، وترجمتِه إلى أكثرَ من ثلاثينَ لغة، وكونِه مرشّحًا دائمًا على قوائمِ نوبل منذ مطلعِ الألفيّة، فإنّ غيابَه عن لائحةِ المتوَّجين بالجائزة يثيرُ جدلًا نقديًّا وثقافيًّا لا ينفصلُ عن طبيعةِ مشروعِه نفسِه. إذ إنّ نغوغي لا يكتبُ فقط من موقعِ الهامش، بل يعملُ على قلبِ منطقِ المركزيّةِ الغربيّة التي تأسّست عليها المؤسّسةُ الأدبيّةُ العالميّة، بما في ذلك جائزةُ نوبل ذاتُها.

إنّه لا يطالب بالاعتراف، بل ينزع الشرعية عن النموذج الغربي برمّته، متجاوزًا ثنائية ''المركز والهامش'' لصالح ما يسميه بـ''الكتابة من الداخل''، بلغة الجماعة وتاريخها وخيالها المحلي

من هذا المنظور، فإنّ سؤالَ نوبل لا يتعلّقُ بالكفاءةِ الجماليّة أو الثقلِ الثقافيّ وحسب، بل يتّصلُ كذلك بخياراتِ التمثيلِ الرمزيّ الذي تُكرّسه الجائزة: ما الذي يُعَدّ أدبًا "عالميًّا"؟ ومَن يُمنح شرعيّةَ التعبير باسمِ الإنسانيّة؟ هنا، يواجهُ مشروعُ نغوغي مأزقًا مزدوجًا: فمن جهة، هو يرفضُ الكتابةَ بلغةِ المستعمِر، ويُؤسّس "كونًا لغويًّا" خاصًّا خارجَ أفقِ الترجمةِ الغربيّة، ومن جهةٍ أخرى، لا يُقدّم خطابًا تصالحيًّا، بل صراعًا صريحًا مع بُنى الثقافةِ الإمبرياليّة، وهو ما يجعلُ المؤسّسةَ الثقافيّةَ الغربيّة، بما في ذلك الأكاديميّة السويديّة، في موقعِ التردّد أو النفور.

لقد سبق أن منحَت نوبل جوائزَها لأصواتٍ تنتمي إلى ما يُعرَف بـ"الأدبِ ما بعد الكولونيالي"، كما في حالةِ وولي سوينكا، ونجيب محفوظ، وديريك والكوت، إلا أنّ نغوغي يختلفُ عن هؤلاء من حيث إنّه لا يُعيدُ إنتاجَ اللغةِ المركزيّة، وإنّما يُقترح بديلًا لغويًّا وسرديًّا وفكريًّا راديكاليًّا. إنّه لا يُطالب بالاعتراف، بل ينزعُ الشرعيّةَ عن النموذجِ الغربيّ برمّته، متجاوزًا ثنائيّة "المركز والهامش" لصالح ما يُسمّيه بـ"الكتابةِ من الداخل"، بلغةِ الجماعة وتاريخِها وخيالِها المحلّي. هذا التموقعُ الجذريّ يُربك أنظمةَ التلقّي، ويضعُ الجائزة أمام سؤالٍ يتجاوزُ الأدبَ ليبلغ حدودَ السياسةِ الثقافيّةِ والتمثيلِ الرمزيّ.

من أبرز العوامل التي قد تُفسِّر غيابَ نغوغي عن لائحةِ نوبل:

1. القطيعةُ اللغويّة: اختيارُه الكتابةَ بلغةِ الكيكويو – وهي لغةٌ إثنيّةٌ محليّة – شكّل تحدّيًا مباشرًا للمعاييرِ الأدبيّةِ الغربيّة، التي لا تزال، إلى حدٍّ كبير، تفترضُ أن "العالميّة" تمرُّ عبر إحدى اللغاتِ الأوروبيّة. وهذا ما يجعل إنتاجَه خارجًا عن أنظمةِ التلقّي السائدة، ومرتبطًا أكثرَ بسياقٍ محلّيّ يصعب تسويقُه ضمن شروطِ التقدير الغربيّ.

2. الراديكاليّةُ السياسيّة: لا تُفصَل أعمالُ نغوغي عن التزامِه المبدئيّ بمناهضةِ الاستعمار، ودعمِه الحركاتِ اليساريّة، ونقدِه الصريح للأنظمةِ النيوليبراليّة في أفريقيا والعالم. وهو خطابٌ أقلُّ انسجامًا مع التحوّلِ الرمزيّ لجائزةِ نوبل، التي أصبحت في العقودِ الأخيرة تُكافئ أصواتًا "تصالحيّة" أو "توفيقيّة"، لا تلك التي تُقوّضُ النظامَ الثقافيّ من أساسه.

3. الاستقلاليّةُ الفكريّة: لم يسعَ نغوغي يومًا إلى التكيّفِ مع منظومةِ التقديرِ العالميّ، ولم ينخرط في شبكاتِ النشرِ الغربيّ إلا بشروطِه. وقد تمثّلت هذه الاستقلاليّةُ حتّى في قرارِه بعدمِ الإقامةِ في الغربِ بوصفِه "مركزًا ثقافيًّا"، بل جعلَ من منفاَه امتدادًا نضاليًّا، لا بديلًا جماليًّا.

4. تحويلُ الأدب إلى فعلٍ جماعيّ: في تجربتِه المسرحيّة، ألغى نغوغي الحدودَ بين الكاتبِ والمتلقّي، ودعا إلى "مسرحٍ شعبيٍّ مقاوم" يُقدَّم في القرى بلغاتٍ محليّة، حيث تصبحُ الكتابةُ ملكيّةً جماعيّة. وهذا يتناقضُ مع النموذجِ الليبراليّ للكاتبِ الفرديّ "العبقريّ"، الذي تُكرّسه الجائزةُ بوصفها تتويجًا لـ"الاستحقاقِ الفرديّ" أكثر من كونِها اعترافًا بحركةٍ أو جماعة.

القيمة الحقيقية للأدب، في مشروع نغوغي، لا تُمنح من الجوائز، بل من صلته بالناس، باللغة والتحرر الرمزي من هيمنة الآخر

5. نقدُه للمؤسّساتِ الغربيّةِ ذاتها: في كتبِه النظريّة، ينتقد نغوجي بنيةَ الجائزةِ من حيثُ هي جزءٌ من "الاقتصاد الرمزيّ" للعالمِ ما بعد الكولونياليّ. بالنسبة له، الجوائزُ ليست محايدة، بل تعملُ ضمن منطقِ الهيمنةِ الثقافيّة، حتّى حين تدّعي احتفاءَها بالتعدّدِ والانفتاح.

لذلك، فإنّ غيابَ نغوغي عن نوبل لا يُقرأ كمسألةِ صدفةٍ أو خطأٍ إجرائيّ، بل كعلامةٍ على حدودِ التصنيفِ العالميّ للأدب، وحدودِ قدرةِ المؤسّساتِ على احتواءِ خطابٍ يتجاوزُها بنيويًّا. وهذا ما يجعل نغوجي، لا "ضحيّة" لعدمِ تتويجه، بل ناقدًا للجائزةِ من خلال مشروعِه ذاتِه، بوصفِه مشروعًا ينشدُ خلقَ فضاءٍ أدبيٍّ حرٍّ من سلطةِ المركز، ويؤمنُ بأنّ القيمةَ الحقيقيّةَ للأدب لا تُمنح من الجوائز، بل من صلتِه بالناس، باللغة، وبالتحرّرِ الرمزيّ من هيمنةِ الآخر.

يُشكّل موقع نغوغي وا ثيونغو في الحقل الأدبي العالمي حالةً فريدة تتجاوز التصنيفات الجاهزة لأدب ما بعد الاستعمار، وتدفع باتجاه إعادة التفكير في مفاهيم "العالمية" و"الاعتراف" و"الشرعية الثقافية". فغياب نغوجي عن لائحة المتوّجين بجائزة نوبل لا يُعبّر فقط عن موقف مؤسسةٍ بعينها، بل يكشف عن حدود البُنى المؤسّسية التي تُحدّد من يُسمَح له بالانتماء إلى "الكون الأدبي العالمي" وفق معايير مسبقة، غالبًا ما تكون محكومة بمنطق التمثيل الرمزي والسيطرة المعرفيّة.

اختيارُ الكتابةَ بلغةِ الكيكويو – وهي لغةٌ إثنيّةٌ محليّة – شكّل تحدّيًا مباشرًا للمعاييرِ الأدبيّةِ الغربيّة، التي لا تزال، إلى حدٍّ كبير، تفترضُ أن "العالميّة" تمرُّ عبر إحدى اللغاتِ الأوروبيّة

من خلال مشروعه الجذري الذي ينطلق من اللغة، ويتوسّع ليطال بنية السرد، ومفهوم الجماعة، وعلاقة الأدب بالسلطة، يضع نغوغي المؤسّسة الثقافية الغربيّة أمام تناقضاتها الداخليّة، ويسائل قدرتها على استيعاب خطابٍ لا يسعى إلى التوفيق، بل إلى التفكيك. وعليه، فإن القيمة الحقيقيّة لأعمال نغوغي لا تُقاس بمدى احتفائها المؤسّسي، بل بقدرتها على إنتاج معرفة مقاومة، تُحرّر الأدب من مركزياته، وتعيد وصلَه بسياقات الحياة، واللغة، والذاكرة الجمعيّة.

لذلك، فإن نغوغي، سواء تُوّج بنوبل أم لم يُتوّج، يظلّ واحدًا من أبرز من أعادوا تعريف معنى الكتابة، لا بوصفها فعلًا جمالياً فحسب، بل كفعلٍ سياسيّ وثقافيّ يستهدف البنية الرمزيّة للعالم نفسه.