تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 16 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

لماذا اُخْتيرت رواندا لتكون مركز أفريقيا القادم للقاحات؟

19 أكتوبر, 2025
الصورة
لماذا اُخْتيرت رواندا لتكون مركز أفريقيا القادم للقاحات؟
Share

لطالما كشفت الأزمات الوبائية المستمرة مدى هشاشة المنظومة الصحية الأفريقية، واعتمادها بشكل شبه كامل على المساعدات الخارجية لتوفير اللقاحات. في هذا السياق، برزت رواندا في السنوات الأخيرة باعتبارها دولة حاملة طموحات كبيرة لتغيير معادلة إنتاج اللقاحات في القارة. ففي خطوة تحمل دلالات سياسية واستراتيجية واسعة، أعلن الاتحاد الأوروبي في أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، عن تخصيص 95 مليون يورو (نحو 103 ملايين دولار) لدعم كيغالي في بناء قدراتها لتصبح مركزًا إقليميًا لتصنيع اللقاحات والتكنولوجيا الحيوية في القارة.

خلفيات القرار الأوروبي ودلالاته

خلال فعاليات منتدى البوابة العالمية 2025 في بروكسل، وعقب محادثات ثنائية جمعت الرئيس الرواندي بول كاغامي برئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أعلن الاتحاد الأوروبي في 9 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، عن حزمة تمويل جديدة بقيمة 95 مليون يورو (ما يعادل أكثر من 160 مليار فرنك رواندي) لدعم المرحلة التالية من مشروع تصنيع اللقاحات في رواندا، في خطوة تُعزز طموح كيغالي لتصبح مركزًا رائدًا للتكنولوجيا الحيوية في أفريقيا.

تندرج هذه الخطوة ضمن إطار استراتيجية "البوابة العالمية" (Global Gateway) التي أطلقها الاتحاد الأوروبي لبناء شراكات تنموية مستدامة مع الدول الأفريقية عبر الاستثمار في البنية التحتية والطاقة والنقل والصحة. ويمثل الدعم الحالي لكيغالي امتدادًا لحزمة سابقة بقيمة 93 مليون يورو خصصها الاتحاد الأوروبي عام 2023 لتأسيس منشأة بيونتيك في كيغالي، والتي تُعد أول موقع لتصنيع لقاحات "MRNA" في القارة.

يتركّز الدعم الحالي على إنتاج لقاحات تستجيب مباشرةً للاحتياجات الصحية الملحّة في أفريقيا، مثل: الملاريا والسل وفيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، إلى جانب الأمراض المستجدة كجذري القرود (Mpox). وتُقدَّر الطاقة الإنتاجية للمشروع بنحو 50 مليون جرعة سنويًا، ما يضع رواندا في موقع استراتيجي يجعلها محورًا إقليميًا لتصنيع وتوزيع اللقاحات في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، والتي تُعد بؤرةً لمعظم حالات الطوارئ الوبائية في القارة.

فبحسب بيانات منظمة الصحة العالمية، تستحوذ المنطقة وحدها على 94٪ من حالات الملاريا عالميًا، وتضمّ قرابة ثلثي المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، فضلًا عن تسجيلها أحد أعلى معدلات الإصابة بالسلّ على مستوى العالم بنسبة 33٪. كما تشهد تفشي متكررة لأوبئة، مثل: الكوليرا وحمى الضنك والإيبولا وMpox، خاصة في بلدان مثل الكونغو الديمقراطية وأوغندا ونيجيريا وتنزانيا. ما يجعل مشروع رواندا محاولة لتأسيس بنية أفريقية قادرة على الاستجابة السريعة، وتوفير اللقاحات محليًا بدلًا من انتظار الدعم الخارجي. علاوة على ذلك، يمثّل هذا المشروع خطوة محورية نحو تحقيق هدف مركز مكافحة الأمراض في أفريقيا (Africa CDC) التابع للاتحاد الأفريقي بإنتاج 60٪ من اللقاحات داخل القارة بحلول عام 2040.

يُنظر إلى المشروع كجزء من رؤية أوسع لتعزيز السيادة الصحية الأفريقية وتقليل تبعية القارة للموردين الخارجيين

في سياق متصل، تتجاوز دلالات القرار البُعد الصحي المباشر، إذ تعكس في جوهرها تحولًا في الاستراتيجية الأوروبية تجاه القارة، فبدلًا من الاقتصار على تقديم المساعدات الإنسانية التقليدية، يتجه الاتحاد الأوروبي إلى الاستثمار في بناء القدرات المحلية ونقل التكنولوجيا كوسيلة لتحقيق استدامة اقتصادية وصحية. بهذا المعنى، يُنظر إلى المشروع كجزء من رؤية أوسع لتعزيز السيادة الصحية الأفريقية، وتقليل تبعية القارة للموردين الخارجيين، حيث كشفت أزمة وباء كوفيد-19 عن مدى هشاشة منظومة الصحة الأفريقية إذ تعتمد على 99٪ من اللقاحات الخارجية.

علاوة على ذلك، يبرز القرار إدراكًا أوروبيًا متزايدًا بأن الأمن الصحي في أفريقيا لم يعد شأنًا إقليميًا فحسب، بل جزءًا من منظومة الأمن العالمي، فالأوبئة التي تضرب القارة، من الإيبولا إلى الملاريا وحمى لاسا، أثبتت قدرتها على تجاوز الحدود خلال أيام. لذلك، فإن الاستثمار في منشآت التصنيع الأفريقية، وتحديدًا في رواندا، يمثل استثمارًا في الوقاية العالمية.

من جهة أخرى، تمثل هذه الخطوة اعترافًا ضمنيًا بمكانة رواندا داخل البنية المؤسسية الأفريقية، فبرغم صغر مساحتها (26.33 كلم مربع)، وتعدادها السكاني الذي لا يتعدى 15 مليون نسمة، استطاعت كيغالي خلال العقد الماضي أن تفرض حضورها كلاعب إقليمي فاعل، سواء في مجالات الوساطة السياسية أو عبر مساهماتها في قوات حفظ السلام الأفريقية.

دوافع اختيار رواندا.. اقتصاد صاعد ومؤسسات مستقرة

لم يكن اختيار رواندا لتصبح مركزًا إقليميًا لتصنيع اللقاحات في أفريقيا محض صدفة، وإنما تستند على شبكة واسعة من التطورات الاقتصادية والمؤسساتية المستقرة التي تشهدها البلاد، ما تجعلها ذات النصيب الأوفر في الرؤية الأوروبية. على سبيل المثال؛ تُعدّ رواندا من أسرع الاقتصادات نموًا في أفريقيا خلال العقد الأخير، كما حققت أداء قويا عام 2025، حيث بلغ معدل النمو السنوي 7.8٪ في النصف الأول، فحين سجّلت البلاد معدل نمو بلغ 8.9٪ عام 2024، وفقًا لاحصائيات البنك الدولي.

يُضاف إلى ذلك أن رواندا نفّذت خلال العقدين الماضيين واحدة من أكثر حزم الإصلاحات المؤسسية طموحًا في القارة، حيث طورت الحكومة نظامًا إداريًا يقوم على الشفافية والانضباط، ونجحت في جعل البلاد الثانية أفريقيًا والـ38 عالميًا في مؤشرات سهولة ممارسة الأعمال بحسب البنك الدولي، كما تحتل رواندا المرتبة الأولى في الدول الأقل فسادًا في شرق أفريقيا، والرابعة على مستوى القارة.

تقدم رواندا نموذجًا أفريقيًا يجمع بين الحوكمة الرشيدة والطموح التنموي، في وقت تبحث فيه أوروبا عن شركاء "آمنين وقابلين للتنبؤ" في قارة ما زالت تعاني من هشاشة المؤسسات وتفاوت مستويات الاستقرار.

في تقرير "Business Ready" الصادر عن البنك الدولي لعام 2024، جاءت رواندا ضمن أفضل الاقتصادات أداءً عالميًا، إذ حلّت ثالثةً عالميًا في مؤشر الكفاءة التشغيلية وثامنة في الإطار التنظيمي، في دلالة على متانة مؤسساتها العامة، وقدرتها على إدارة بيئة استثمارية فعّالة تدعم المبادرات التقنية المعقدة مثل تصنيع اللقاحات. كما واصلت كيغالي تنفيذ إصلاحات ضريبية تدريجية تستهدف تبسيط النظام المالي وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، مع الحفاظ على توازن يحدّ من الأعباء على القطاعات الإنتاجية الناشئة.

أما على مستوى البنية التحتية، فقد استثمرت رواندا بشكل مكثف في شبكات النقل والاتصالات والطاقة لجعلها بيئة قادرة على استيعاب الصناعات المتقدمة، وتغطي شبكات الاتصالات الآن 96٪ من المناطق المأهولة، بينما ارتفعت نسبة انتشار الإنترنت إلى نحو 38٪ من السكان عام 2025، وفق بيانات الاتحاد الدولي للاتصالات. بالإضافة إلى ذلك، يشهد قطاع التكنولوجيا والاتصالات نموًا متسارعًا بلغ 19٪ في الربع الأول من 2025، ما جعله ثاني أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي، هذه الطفرة الرقمية تمثل البنية التحتية الأساسية التي تسعى رواندا إلى ربطها بالصناعات الحيوية والبحث العلمي، ضمن خطتها للتحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة.

في المقابل، واصلت الحكومة الاستثمار في رأس المال البشري عبر برامج التعليم العالي والتدريب التقني، مع تركيز خاص على مجالات العلوم الحيوية والتكنولوجيا، وتشكل خطة التنمية الوطنية "NST-2" وخطة "Vision 2050" الإطار العام لهذه السياسات، إذ تهدفان إلى تحويل رواندا إلى دولة ذات دخل متوسط بحلول 2035، وذات دخل مرتفع بحلول 2050. كما أطلقت كيغالي حوافز ضريبية وتشريعية للشركات العاملة في مجالات الدواء والتقنيات الحيوية، وشجعت الشراكات بين الجامعات المحلية والمؤسسات الأوروبية لتبادل الخبرات وبناء القدرات البحثية.

كل هذه العوامل جعلت من رواندا شريكًا موثوقًا وموقعًا مثاليًا لاستثمارات عالية الحساسية، مثل إنتاج اللقاحات. فهي تقدم نموذجًا أفريقيًا يجمع بين الحوكمة الرشيدة والطموح التنموي، في وقت تبحث فيه أوروبا عن شركاء "آمنين وقابلين للتنبؤ" في قارة ما زالت تعاني من هشاشة المؤسسات وتفاوت مستويات الاستقرار.

تقاطع المصالح بين بروكسيل وكيغالي.. ما وراء التمويل!

في إطار آخر، ربما يكون هو الدافع الأبرز للثقة الأوروبية تجاه رواندا، ويتمثل في رغبة بروكسيل في استعادة النفوذ داخل المجال الصحي الأفريقي، بعد تزايد حضور الصين والهند في هذا القطاع خلال العقد الأخير، حيث استثمرت كلتاهما بشكل واسع في بناء مصانع الأدوية والمستلزمات الطبية في القارة. لذلك، يمكن اعتبار التمويل جزءًا من سباق جيوسياسي ناعم حول من يمتلك القدرة على تحديد أولويات الصحة العامة في أفريقيا مستقبلاً.

على الجانب الأخر، تتقاطع مصالح رواندا والاتحاد الأوروبي في ملفات أوسع تتعلق بالتحول الأخضر والأمن الإقليمي وإدارة الموارد الحيوية، فقد وقعت بروكسل وكيغالي في عام 2024 مذكرة تفاهم لتعزيز سلاسل القيمة المستدامة للمواد الخام الأساسية، في وقت عزز فيه الاتحاد تمويل مشاركة القوات الرواندية في موزمبيق عبر "مرفق السلام الأوروبي"، ما عكس ثقة متزايدة بدور كيغالي في استقرار منطقة البحيرات العظمى، وبالتالي يعد التعاون في قطاع الصحة امتدادًا طبيعيًا لعلاقة شراكة متعددة المستويات.

بهذه الخطوة، تحاول رواندا تقديم نموذج تنموي يربط بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وهو ما يعزز صورتها كدولة إصلاحية في قلب القارة

سبق أن خصص الاتحاد الأروبي ما يقرب من 900 مليون يورو لمشروعات التنمية والتحول الأخضر والرقمي في رواندا، ضمن إطار "البوابة العالمية"، كما موّل في 2022 برنامج "الزراعة الذكية والشاملة" بقيمة 69 مليون يورو، إلى جانب مشاريع لخفض الانبعاثات وتحسين الأسواق المحلية مثل "سوق كيغالي للجملة".

بهذا التطور التدريجي، انتقلت العلاقات بين بروكسل وكيغالي من شراكات تنموية محدودة إلى تعاون عملي في قضايا الأمن والموارد والصحة، في إشارة إلى تحوّل رواندا إلى شريك يُعوَّل عليه في سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه أفريقيا. ما يفسر بشكل جلي توجه بروكسيل نحو رواندا لتكون المركز الإقليمي لإنتاج اللقاحات في القارة السمراء.

مكاسب متنوعة لرواندا

يمثل هذا الاستثمار الأوروبي نقلة نوعية في مسار التنمية الرواندية، ليس فقط في مجال الصحة، بل على صعيد الاقتصاد والتموضع الإقليمي أيضًا. فمن الناحية الاقتصادية، من المتوقع أن يساهم قطاع التكنولوجيا الحيوية واللقاحات في خلق آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة، إلى جانب دعم الشركات الناشئة في مجالات البحوث الطبية وسلاسل التوريد الدوائية. كما يفتح الباب أمام رواندا للدخول في شبكات تصدير إقليمية، مما يعزز تنويع اقتصادها، ويقلل من اعتمادها على الزراعة.

اجتماعيًا، يجسّد المشروع التزام رواندا بتحقيق الإدماج الاقتصادي، إذ تتضمن حزمة التمويل الأوروبي دعمًا مباشرًا لاستراتيجية "التخرج المستدام للاجئين" (2025–2030)، الهادفة إلى تمكين ما يقارب نصف الأسر اللاجئة المؤهلة في البلاد من الاعتماد على الذات عبر التعليم والتوظيف في المشاريع الصناعية الجديدة. بهذه الخطوة، تحاول رواندا تقديم نموذج تنموي يربط بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وهو ما يعزز صورتها كدولة إصلاحية في قلب القارة.

على المستوى الإقليمي، يمنح هذا المشروع رواندا وزنًا استراتيجيًا متصاعدًا داخل منظومة الأمن الصحي الأفريقي، فوجود مركز متطور لتصنيع اللقاحات في كيغالي يغير خريطة الاستجابة للأوبئة في القارة، ويمنح الدول المجاورة إمكانية الوصول السريع إلى اللقاحات، بدلًا من الاعتماد الكامل على الاستيراد من الخارج. كما يسهم في بناء شبكات تعاون بحثي بين الجامعات الأفريقية ومراكز الابتكار الأوروبية، بما يعزز نوعًا ما من السيادة العلمية والتقنية للقارة.

من ناحية أخرى، سيتيح هذا الإنجاز لرواندا مساحة أكبر للتأثير في الأجندة القارية للاتحاد الأفريقي، خصوصًا في ملفات الصحة العامة والابتكار، فبينما كانت مراكز تصنيع اللقاحات الأفريقية محصورة سابقًا في خمس دول: مصر والمغرب والسنغال وجنوب أفريقيا وتونس، فإن دخول رواندا إلى هذا النادي يوسع نطاق الإنتاج، ويعيد التوازن الجغرافي داخل القارة.

إن اختيار رواندا لتكون مركز أفريقيا القادم لتصنيع اللقاحات يتجاوز حدود الدعم الصحي أو الاقتصادي، ليعكس مسارًا جديدًا في علاقة القارة بأوروبا، قائمًا على بناء القدرات المحلية بدل الاكتفاء بالمساعدات الخارجية. فالمشروع لا يمنح كيغالي موقعًا صناعيًا متقدمًا فحسب، بل يكرّس حضورها كفاعل إقليمي مؤثر في بنية الأمن الصحي الأفريقي. وبينما تراهن أوروبا على رواندا لاستعادة موطئ نفوذ في ساحة تتنافس فيها الصين والهند بقوة، تراهن كيغالي على هذه الشراكة لتحقيق قفزة نحو اقتصاد المعرفة والسيادة التقنية.