الخميس 15 مايو 2025
نجحت دول الخليج العربية، لاسيما الإمارات ثم السعودية، في تعميق نفوذها في القارة الأفريقية في الأعوام الأخيرة؛ وباتت الإمارات تحديدًا في مرتبة متقدمة في قائمة أهم شركاء أفريقيا اقتصاديًا؛ إذ حلت بعد الاتحاد الأوروبي والصين وقبل الولايات المتحدة؛ حيث بلغت تجارة الإمارات مع أفريقيا جنوب الصحراء عام 2024 نحو 235 بليون درهم إماراتي؛ أي حوالي 60 بليون دولار، ليتجاوز الرقم بذلك مجمل تجارة الولايات المتحدة مع أفريقيا عام 2023 التي بلغت 47 بليون دولار.
فضلا عن المؤشرات الاقتصادية المتصاعدة، باتت دول الخليج فاعلة حاضرة في جل أزمات القارة الأفريقية، فإلى جانب الحضور الإماراتي والسعودي في قضايا القرن الأفريقي وفق منطلقات متباينة، تحضر قطر في أزمات أخرى أبرزها مؤخرًا شرقي الكونغو (عبر جهد وساطي مهم).
تتبنى دول الخليج ما تطلق عليه استراتيجيات التعاون مع أفريقيا متضمنة خططًا تنموية لصالح الأخيرة؛ كما تمخض عن القمة السعودية الأفريقية في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، التي تعهدت بضخ استثمارات سعودية للقطاع الخاص في القارة بقيمة 25 بليون دولار، موزعة على مدار العقد 2024-2033.
في هذا السياق جاءت تصورات، خليجية بالأساس، بوجود لحظة –راهنة وفي المستقبل القريب- للخليج العربي في أفريقيا، تتجاوز أدوار قوى تقليدية في القارة، بل وتقوم في بعض جوانبها على إعادة توظيف هذه الأدوار لصالح "اللحظة التاريخية الخليجية" في أفريقيا. لكن هذه "اللحظة" ربما لن تدرس في كتب التاريخ -في العقود التالية- كإنجاز صاف للتعاون الخليجي- الأفريقي، بالنظر أساسًا لاعتماد هذه المقاربة على بعد اقتصادي مجرد تمامًا، لا يعكس في حقيقة الأمر أبعادًا أخرى، تعزز فرضيات "اللحظة التاريخية"، لاسيما الاجتماعية والسياسية (المعززة لمستقبل دول القارة) منها.
قدمت دول مجلس التعاون الخليجي في العامين 2022- 2023 تمويلًا للقارة الأفريقية في شكل تدفقات استثمارية مباشرة، وصل إلى 113 بليون دولار، وهو ما فاق مجمل هذه التدفقات الخليجية لأفريقيا في العقد السابق على العام 2022، والتي لم تتجاوز 102 بليون دولار. تركزت إسهامات الإمارات والسعودية وقطر في القطاعات التي تعكس مصالحها وأولوياتها، وكذلك احتياجات الدول الأفريقية، لاسيما الطاقة والبنية الأساسية. تصدرت الإمارات قائمة المشروعات الخليجية في القارة في هذه القطاعات، تلتها قطر ثم السعودية وبفارق كبير عن الإمارات.
على نحو يذكر، للمفارقة، بسياسات شركات الهند الشرقية المتعاقبة على سواحل أفريقيا تمهيدًا لحقبة الاستعمار الأوروبي، تتمدد أنشطة الشركات الخليجية الكبرى (التي تبلغ رؤوس مال بعضها أضعاف النواتج المحلية الإجمالية لأغلب الدول الأفريقية) داخل أغلب أرجاء القارة، ولاسيما على سواحلها، على نحو يصح معه وصف تلك الشركات "بالدولة الشركة"، الذي سبق أن أطلقه فيليب ستيرن على شركة الهند الشرقية الإنجليزية في مؤلفه حولها (2011). وعلى سبيل المثال أطلقت شركة "Dubai World Africa"، التابعة لدبي وورلد، وتخصص عملياتها في "إقليم أفريقيا والمحيط الهندي" ما سمته "بطريق حرير دبي" لدعم تجارة الجنوب- الجنوب، وامتدت أنشطته من شرق القارة إلى السنغال في أقصى غربها.
نجحت دبي، بالرغم من وقوعها داخل منطقة ضحلة بالخليج العربي بعيدًا عن طرق الملاحة العالمية التقليدية الرئيسة، في تحقيق رؤيتها بأن تصبح منفذًا محوريا، فيما تصفه "بشبكة تجارية تصل إلى ثلث البشرية"، وقد أفاد ذلك، على نحو متبادل، في ضخ الإمارات بلايين الدولارات في العديد من الدول الأفريقية في قطاعات مثل: التعدين والبترول والبنية الأساسية واللوجيستيات والزراعة، ومن ثم التحكم في نسب كبيرة من الاقتصادات الوطنية لهذه الدول؛ في صعود واضح لما وصفه مراقبون معنيون "بالدور الإمبريالي الفرعي للإمارات في أفريقيا".
أما السعودية فتُعلي من مقاربة التعاون الدولي التقليدي مع حكومات الدول الأفريقية بشكل مباشر، واكسبت هذه المقاربة دورًا كبيرًا، ربما يفوق قدراتها الاقتصادية الحقيقية، في القارة الأفريقية. بالرغم من تضاؤل الشراكة السعودية الأفريقية مقارنة بنظيرتها الإماراتية - في سياق قراءة الموقف الخليجي راهنًا-، فإن هذه الشراكة تكتسب شكلًا مؤسساتيًا يومًا بعد آخر، ولعل واحدة من أهم محطاتها توقيع الرياض عام 2023 مذكرة تفاهم مع مؤسسة التمويل الأفريقية (AFC) بهدف التمويل المشترك لمشروعات البنية الأساسية في أرجاء القارة (لاسيما الطرق).
اتضح هذا المكسب السعودي في تمتع الرياض بمكانة دولية لائقة في أفريقيا؛ وربما يدل على ذلك حرص الصين المعلن منتصف أبريل/نيسان الجاري على التنسيق مع السعودية (التي وجهت لها دعوة للإنضمام لمجموعة البريكس دون حسم موقفها منها حتى الآن) وجنوب أفريقيا؛ لتنسيق الاستجابات اللازمة للتعامل مع قرارات الرئيس المريكي دونالد ترامب رفع الرسوم الجمركية على واردات بلاده من الصين وغيرها من دول العالم؛ وهو تنسيق سيشمل تداعيات هذه القرارات على القارة الأفريقية، وقدرة الدول الثلاثة على تجنيب دول القارة قدرا من المضاعفات السلبية الناتجة عن قرارت ترامب.
يكشف أليكسي يلونن (A. Ylonen) في فصل حول أنماط تدخل القوى الخارجية في القرن الأفريقي لصالح "بقاء النظام"، عن ملاحظة ارتباط التدخل الخليجي في القرن الأفريقي بقوته الملحوظة في العقد الفائت بالأزمة في اليمن (وما أُعلن عن مواجهة نفوذ إيران في أفريقيا) وتقارب المصالح بين السعودية والإمارات في مراحله المبكرة، قبل التباين اللاحق بينهما.
كما يؤكد، بمنطق واضح في واقع الأمر، أهمية فهم تداخل السياسة الخارجية والداخلية، وصعوبة الفصل بين دينامية كل منهما وتداعياتهما، وكذلك دورهما في بقاء النظام الحاكم في كل دولة من دول القرن الأفريقي الكبير. وهو ما يحيلنا إلى ضرورة فهم مقبولية البيئات السياسية الحاكمة في الدول الأفريقية (وفي القرن الأفريقي تحديدًا هنا) للأدوار الخليجية بكافة تناقضاتها، بل واتساقها الكامل أحيانًا مع هذه التناقضات بغرض "بقاء النظام الحاكم"، وليس بالضرورة مصالح شعوب تلك الدول الكلية.
من ليبيا إلى جيبوتي والسودان، ومن إقليم الساحل للكونغو وجمهورية أفريقيا الوسطى، ومن مدغشقر إلى سواحل المحيط الأطلسي، حضرت القوى الخليجية بدرجات متفاوتة، وبأهداف مغايرة بطبيعة الحال، في أزمات هذه المناطق، وعلى نحو يتعارض بشكل متزايد مع "أوراق السياسات" المعلنة من قبل هذه القوى.
لقد كشف قدرا من هذا التناقض –على سبيل المثال- رفع الخرطوم دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد الإمارات: "لتورطها في جرائم الإبادة" بالتعاون مع ميليشيات الدعم السريع؛ رغم ما تحرص أبو ظبي على إعلانه، من تبني مواقف محايدة في الأزمة في السودان، ومجمل سياساتها الأفريقية الداعمة للتنمية والاستقرار في القارة. هذا التورط عززته تقارير أممية وسودانية مختلفة، كان آخرها تقرير أممي داخلي كشفت محتوياته جريدة "الجارديان" (14 أبريل/نسيان الجاري)، ولاسيما معلومة تسيير الإمارات "رحلات جوية متعددة لنقل طائرات تتفادى عن عمد تتبعها عند هبوطها في تشاد حيث لوحظ تهريب أسلحة عبر الحدود مع السودان".
في تطور لاحق، يمكن وصف دبلوماسية قطر الأفريقية، لاسيما أدوارها في الوساطة السياسية؛ كما في حالة الأزمة في إقليم شرقي الكونغو، بأنها لا تقوم على التزام أيديولوجي ما (كما في حالة العلاقات الوثيقة مع بعض جماعات الإسلام السياسي) بقدر ما أنها تحقيقًا لرافعة استراتيجية ودبلوماسية للدوحة؛ ما مكن الأخيرة من تقديم نفسها للغرب وسيطا إقليميا قويا، يتمتع بمكانة إقليمية مستقلة نوعًا ما، ويكسبها مصداقية بطبيعة الحال بغض النظر عن مدى صحة ذلك.
لقد نجحت الدوحة في تحقيق مكاسب ملفتة في قطاع النقل الجوي في أفريقيا، عبر استحواذات كبيرة في شركات طيران وطنية، في دول مثل رواندا (التي قبلت على غير العادة وساطة قطر في الأزمة مع الكونغو في مارس/آذار الفائت) وجنوب أفريقيا وغيرهما.
بالتزامن مع هذا الحضور القطري الاقتصادي تواصل الدوحة اختراقها لأزمة إقليم شرق الكونغو حيث استضافت مطلع أبريل/نيسان الجاري وفدًا من حكومة الكونغو الديمقراطية عقد لقاءات مباشرة مع متمردي حركة 23 مارس المدعومة من رواندا؛ دون تجاهل أن هذا الاختراق يرتبط بالتقارب الكونغولي- الأمريكي الراهن، والقائم على مبادلة الدعم الأمريكي لتسوية سياسية للأزمة في شرق الكونغو، بتقديم كينشاسا امتيازات غير مسبوقة للشركات والحكومة الأمريكية في مجال استغلال الموارد الطبيعية في شرقي الكونغو مستقبلًا.
يجب بداية وضع أفكار "لحظة الخليج التاريخية" في سياق ما يمكن وصفه بالنشوة الراهنة لتمدد الاستثمارات الخليجية في أفريقيا، وغير المصحوبة على الأرجح بقوى سياسية واجتماعية حقيقية تعزز بناء تلك اللحظة التاريخية. كما أن الطابع التكتيكي لأغلب السياسات الخليجية، ومتغيراتها الحادة لاسيما في المواقف الإماراتية ثم القطرية والسعودية بشكل أقل، لا يوحي بتحقق تراكم جاد يمكن بناء عليه وصف النفوذ الخليجي في أفريقيا "باللحظة التاريخية".
إضافة إلى مسألة مهمة للغاية، وأولية تنظيريًا، ألا وهي مفهوم "الخليج" نفسه ومنهج التعامل معه: هل هو وحدة سياسية قائمة (بين دول مجلس التعاون الخليجي الست)؟ وما هي القواسم المشتركة بين دوله على الأقل في مجال سياسة خارجية تجاه أفريقيا؟ وما هي قدرة الدول الخليجية (الراهنة والمستقبلية ربما) على تفادي تناقضات سياساتها الأفريقية وصولًا إلى حد التناقض الكامل؟
يبدو أن مدار سؤال لحظة الخليج الأفريقية نفسه يتعلق بتراجع قوى إقليمية مهمة، مثل مصر في سنوات ما بعد جمال عبد الناصر عن التأثير الكبير في الشأن الأفريقي، إضافة إلى عجز القوى الأفريقية الكبرى (باستثناء راهن لجنوب أفريقيا) عن ملء فراغ تأثير سياسي واضح في شؤون العمل الجماعي الأفريقي (بمعنى قدرته على مواجهة التحديات في دول القارة الأفريقية) لصالح دول متوسطة، مثل: تركيا وروسيا والهند والإمارات؛ الأمر الذي بات يغري أصواتا خليجية بترديد مثل هذه المقولة بين حين وآخر، وبتجاهل واضح، وعمدي أحيانًا، لطبيعة ومقومات "اللحظة التاريخية" في أفريقيا ما بعد الاستعمار.
تكشف تقلبات الأوضاع السياسية في القارة، وطبيعة المواقف الخليجية المتباينة والمضطربة تجاه ملفاتها (مثل أزمات السودان وليبيا والصومال ودول الساحل الأفريقي وجمهورية الكونغو الديمقراطية)، عن عدم تبلور سياسة خليجية موحدة بالأساس تجاه القارة، عوضًا عن افتقار مثل هذه السياسة (إجرائيًا هنا) لمبادئ واضحة من التعاون الثنائي والإقليمي، بل والعمل أحيانًا على الانتهاك المستدام لسيادة دول أفريقية، والتورط في جرائم ترتكبها أطراف من غير الدول داخل مناطق الأزمات؛ الأمر الذي يكشف عن مدى هشاشة مفهوم "لحظة الخليج التاريخية" في أفريقيا حال مقاربته جديًا على الأرض، وبعيدًا عن وثائق سياسات وأجندات الدول الخليجية تجاه أفريقيا.