الاثنين 17 مارس 2025
وسط سيل الأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب - والتي تراوحت بين إعادة استخدام الشفاطات البلاستيكية وإعادة تسمية خليج المكسيك والإعلان عن تقييد إجراءات المتحولين جنسيا - برز أمر تنفيذي آخر بشكل خاص، كان حديث المجالس من "براكنفيل" إلى "بينوني"؛ فتردد صداه في حفلات الشواء وأكواب البراندي والكولا، وشاحنات الباكي. يتعلق الأمر التنفيذي ب"معالجة الأفعال الشنيعة لجمهورية جنوب أفريقيا"، والذي تضمن سياسة تقضي بـ "عدم تقديم الولايات المتحدة أي مساعدات أو دعم لجنوب أفريقيا"، إضافةً إلى أن "الولايات المتحدة ستشجع إعادة توطين اللاجئين الأفريقانيين الهاربين من التمييز العنصري الذي ترعاه الحكومة، بما في ذلك مصادرة الممتلكات على أساس عرقي."
تراوحت ردود الفعل على إعلان أن الأفريقانيين الذين كانوا تاريخيًا من المستفيدين من نظام الفصل العنصري - والذي كان يتضمن أشد أشكال المصادرة والإقصاء التي ترعاها الدولة، سيُصنفون من الآن فصاعدا على أنهم لاجئون - بين السخرية والتشجيع. وبينما ساد نوع من الابتهاج المتعجرف في أوساط قاعدة ترامب القوية من بين المحافظين الأفريقانيين، حيث رأوا في القرار تأكيدًا لشكاواهم، مما يعانونه من التهديد والتهميش وما تعرضوا له من فقدان لأراضيهم؛ فقد أثيرت هذه الشكاوى بشكل خاص، في السنوات الأخيرة، جماعة حقوق الأفريقانيين «أفري فوروم»، التي روجت لفكرة "إبادة البيض" لسنوات طويلة.
زار ممثلو أفري فوروم واشنطن، حيث التقوا بمسؤولين جمهوريين، وظهروا على وسائل الإعلام المحافظة، مثل: برنامج "تاكر كارلسون شو"، كما وسّعوا حملاتهم إلى مراكز الأبحاث والمؤتمرات المحافظة في أوروبا، مثل: مؤتمر العمل السياسي المحافظ في المجر. لقد رسموا صورة قاتمة لجنوب أفريقيا، حيث يُصوَّر المزارعون البيض، وكأنهم تحت تهديد مستمر، وعلى وشك فقدان أراضيهم التي ورثوها عن أجدادهم. كما زعموا أنهم مستهدفون ظلماً من قبل حكومة فاسدة وشمولية، تمارس ضدهم نوعًا من الفصل العنصري العكسي.
وجدت استراتيجيتهم الإعلامية الماهرة آذانًا صاغية بين المحافظين الأمريكيين، ومع إعادة انتخاب ترامب، تُوجت حملتهم بالنجاح. فجاء تعليل البيت الأبيض لهذا الأمر التنفيذي، وكأنه بيان صحفي صادر عن «أفري فوروم»، مما يُظهر بوضوح التأثير الكبير الذي مارسته الجماعة في تشكيل خطاب الإدارة الأمريكية ومنطقها.
أما داخل جنوب أفريقيا وخارج دائرة الأقلية المحافظة من مؤيدي ترامب، فقد قُوبل الأمر التنفيذي بردود فعل تراوحت بين السخرية والاشمئزاز. فقد أدانته الحكومة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني باعتباره تحريفًا لسياسات جنوب أفريقيا وواقعها الاجتماعي. وإزاء موجة الغضب العارمة، رفضت أفري فوروم عرض ترامب، مؤكدةً التزامها بالبقاء في البلاد. لكنها ألقت باللوم على حكومة المؤتمر الوطني الأفريقي في عداء البيت الأبيض.
لكنَّ الأمرَ التنفيذي الذي يسرّع منح صفة اللجوء للأفريقانيين ليس بأي حال من الأحوال بادرة إنسانية من البيت الأبيض؛ إنه ينسجم تمامًا مع أجندة الرئيس الأمريكي الأيديولوجية واحتياجاته السياسية. فعلى الصعيد الداخلي، لطالما استغل ترامب إثارة المخاوف من "الغزو" أو الإقصاء الثقافي - وغالبًا ما استهدف بذلك المهاجرين غير البيض. ومن المشكوك فيه معرفة ترامب أو اهتمامه كثيرًا بالمزارعين الجنوب أفريقيين تحديدًا.
إن جنوب أفريقيا توفر له حالة دراسية مناسبة لدعم خطابه حول مخاطر السياسات "التقدمية" وضرورة حماية "الحضارة الغربية".
لا شك أن الأمر مجرد خطوة انتهازية، تهدف إلى تحفيز قاعدته اليمينية عبر سردية عنصرية، يقدّم نفسه من خلالها مدافعا عن البيض المحاصرين في مواجهة أغلبية سوداء، يُفترض أنها تسعى للانتقام. وهذا يمكّنه من استمالة المحافظين القوميين الذين يعارضون قبول اللاجئين عادة، لكنهم يستثنون من ذلك عندما يكون اللاجئون المعنيون من البيض والمسيحيين. إن جنوب أفريقيا توفر له حالة دراسية مناسبة لدعم خطابه حول مخاطر السياسات "التقدمية" وضرورة حماية "الحضارة الغربية". يبعث ترامب، من خلال عرضه الملجأ للأفريقانيين، برسالة مفادها أن أمريكا تحت قيادته ستكون ملاذًا لمن يشبهون قاعدته الانتخابية في المظهر والتفكير، بينما تغلق أبوابها أمام الآخرين.
ينسجم هذا الأمر التنفيذي، على الصعيد الجيوسياسي، مع الأيديولوجية القومية لترامب، ويدعم أهدافه في عزل خصومه؛ فهو يربط بين ما يزعم أنه دفاع عن الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا وبين تأكيد دعم الولايات المتحدة لإسرائيل. كما يدين مواقف جنوب أفريقيا "العدائية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك اتهامها لإسرائيل، وليس لحماس، بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية."
من الواضح أن ترامب يريد أن يُنظر إليه على أنه يعاقب جنوب أفريقيا بسبب الدعوى التي رفعتها ضد إسرائيل. لذا يتم استخدام المزارعين الأفريقانيين، في هذا السياق، بوصفهم أدوات في لعبة جيوسياسية أكبر بكثير. والمفارقة أن الإدارة الأمريكية التي تخلق فئة زائفة من اللاجئين الأفريقانيين هي ذاتها التي تقترح أن يصبح الغزيون لاجئين في البلدان المجاورة، بعدما تحولت غزة، بدعم أمريكي، إلى "منطقة مدمرة بالكامل"، وهو الأمر الذي لن يفوت على الجنوب أفريقيين الذين يطالبون بالعدالة للفلسطينيين.
يُشكِّل أمر ترامب التنفيذي - والحملة التي سبقت إصداره والردود التي أثارها - في المقام الأول حدثًا إعلاميًا. فمشهد توقيع ترامب يوميًا على رزم من الأوامر التنفيذية المجلدة، فوق مكتب ريزولوت في البيت الأبيض، مُعد بعناية لكي يُبَث إعلاميًا، حاملاً رمزية السلطة والتصميم والوضوح في الرؤية. لكن ترامب ليس صديقًا للإعلام. فقد كتب على منصته تروث سوشيال أن قراره يخص "وضعًا سيئًا لا تريد وسائل الإعلام اليسارية الراديكالية مجرد الإشارة إليه". وما هذا الهجوم على "الإعلام اليساري الراديكالي" إلا إشارة أخرى لقاعدته الانتخابية - حيث يُعرف بعدائه الشديد للصحافة. وخلال حملته السابقة، كان قد هاجم مرارًا ما وصفه بـ "وسائل الإعلام الكاذبة" وهاجم الصحفيين بشكل مباشر. ومن خلال وصم الإعلام بأنه "راديكالي" و"يساري"، يسهل عليه نزع الشرعية عن أي انتقاد إعلامي له أمام جمهوره، الذي تم تلقينه لرفض كل ما هو "يساري" أو "تقدمي".
يربط بين ما يزعم أنه دفاع عن الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا وبين تأكيد دعم الولايات المتحدة لإسرائيل. كما يدين مواقف جنوب أفريقيا "العدائية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك اتهامها لإسرائيل، وليس لحماس، بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية."
لقد مثَّل الإعلام، في جنوب أفريقيا، أيضًا دورًا رئيسيًا في تحديد أجندة النقاش حول "جرائم قتل المزارعين" وتعزيز حملات أفري فوروم. وعلى الرغم من تباين المواقف الإعلامية تجاه الحركة، إلا أن بعض المنافذ - مثل مارويلا ميديا التي أنشأتها أفري فوروم ومنظمتها الأم سوليداريت - قدمت دعمًا واضحًا لها. كما أن وسائل الإعلام غالبًا ما تصف أفري فوروم بأنها "منظمة حقوق مدنية" بدلاً من كونها منظمة لحقوق الأفريقانيين، مما يمنحها شرعية أوسع.
لقد حظيت حملاتها بتغطية إعلامية واسعة، خاصة فيما يتعلق بجرائم قتل المزارعين، التي تم إبرازها بشكل يفوق غيرها من الجرائم، حيث يميل الإعلام إلى إضفاء أهمية أكبر على مقتل البيض مقارنة بالسود. ومثَّل الإعلام الأفريقاني، على مدى سنوات، دورًا في تشكيل خطاب الضحية، مقدماً جمهوره على أنهم "شعب تحت الحصار". كما أن المنظمة بارعة جدًا في استغلال وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من نفيها الآن أي تأثير لها على ترامب، إلا أن أفري فوروم كانت قد تفاخرَت علنًا على وسائل التواصل، منذ 2018، بمحاولاتها "كسب الدعم والضغط ضد سرقة الأراضي العنصرية".
تبرز، إلى جانب التغطية الإعلامية، أيضًا قضية التضليل المعلوماتي. فقد أعربت حكومة جنوب أفريقيا عن قلقها مما وصفته بـ "حملة المعلومات المضللة والدعاية التي يقودها ترامب لتشويه صورة دولتنا العظيمة". لم يتم الاستيلاء على أي قطعة أرض منذ 1994، دون تعويض من قِبل حكومة الحزب الديمقراطي، كما أن قانون المصادرة لم يدخل بعد حيّز التنفيذ، وسيظل خاضعًا للدستور. والمفارقة أن المؤتمر الوطني الأفريقي، في محاولته تفنيد المعلومات المضللة، يضطر إلى الاعتراف بأن وتيرة إصلاح الأراضي بطيئة جدًا.
كما أن الادعاء بأن الأفريقانيين مستهدفون بشكل خاص بجرائم العنف هو محض خرافة، رغم أنه جزء من خطاب "إبادة البيض"، والذي يردده حتى شخصيات مثل إيلون ماسك، الذي يبدو أن نشأته البيضاء المترفة لا تزال تؤثر على نظرته لبلد ولادته. وبالرغم من أن جرائم قتل المزارعين مروعة بلا شك، إلا أنه يجب النظر إليها في سياق مشكلة جريمة شنيعة في جنوب أفريقيا. ففي العام الماضي وحده، قُتل 27 ألف شخص في البلاد، بمعدل 45 جريمة قتل لكل 100 ألف شخص. في حين تُظهر الإحصائيات أن الأزمة أكثر حدة بين الأغلبية السوداء، حيث تقع الجرائم بوتيرة أعلى بكثير، لكنها تحظى بتغطية إعلامية أقل بكثير. وتشير الأبحاث إلى أن البيض يشكلون نحو 8٪ فقط من سكان البلاد، لكنهم يمثلون أقل من 2٪ من ضحايا القتل. لا يتردد ماسك، رغم هذه الحقائق، في شن هجمات على شخصيات مثيرة للجدل مثل جوليوس ماليما، الذي لا تختلف أساليبه الخطابية النارية كثيرًا عن الخطاب الشعبوي لترامب.
المفارقة أن الإدارة الأمريكية التي تخلق فئة زائفة من اللاجئين الأفريقانيين هي ذاتها التي تقترح أن يصبح الغزيون لاجئين في البلدان المجاورة، بعدما تحولت غزة، بدعم أمريكي، إلى "منطقة مدمرة بالكامل"
رغم أن الجماعات الأفريقانية اليمينية كانت الأكثر صخبًا في ترويج سرديات "الضحية البيضاء"، إلا أن هذه الأفكار ليست حكرًا عليها، حيث تجد لها أصداء في الخطاب العام. فمثلًا، لطالما وفرت خيبة أمل الناخبين البيض مكاسب سياسية لحزب التحالف الديمقراطي، الذي رفع بالفعل دعاوى قانونية ضد قانون المصادرة. كما أن بعض فئات النخبة الاجتماعية في الضواحي تتبنى أفكارًا مماثلة. بيد أنه من الجدير التذكير بأن غالبية الناطقين بالأفريقانية ليسوا بيضا، وعلى الرغم من محاولات أفري فوروم استقطاب مجتمعات "ملونة"، إلا أنهم لا يتبنون بالضرورة نفس المواقف السياسية.
إذا كان ترامب يأمل أن يؤدي أمره التنفيذي إلى فرض الهيمنة والخضوع على جنوب أفريقيا، فقد جاءت النتيجة معاكسة تمامًا. فلا شك أن العقوبات الأمريكية ووقف المساعدات سيؤثران بشدة على الاقتصاد الجنوب أفريقي، وسيزيدان من معاناة الفقراء، وخصوصًا الأغلبية السوداء. لكن هذا القرار سيضر بالقوة الناعمة الأمريكية في جنوب أفريقيا، ويدفعها نحو تعزيز مصالحها الاستراتيجية مع دول "البريكس" وخاصة الصين، التي تُعَدّ بالفعل أكبر شريك تجاري لها.
أظهرت استطلاعات أفروباروميتر بالفعل تراجع الصورة الإيجابية للولايات المتحدة بين الجنوب أفريقيين. وقد يكون لهذا القرار تأثير يتجاوز جنوب أفريقيا ليصل إلى القارة بأكملها. فالمجال الإعلامي في أفريقيا بات أكثر تنافسية، حيث تتصارع الولايات المتحدة مع الصين وروسيا وتركيا وإيران وغيرها على النفوذ. وتشير الدراسات إلى أن الخطاب المناهض للولايات المتحدة والمناهض للإمبريالية يجد صدى واسعًا في دول مثل: أنغولا وإثيوبيا وجنوب أفريقيا وزامبيا، مما يعزز التأييد للروايات الصينية والروسية.
هكذا، قد ينتهي الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب لمعاقبة جنوب أفريقيا إلى الإضرار بالولايات المتحدة أكثر مما يضرها قبول مجموعة من اللاجئين البيض الذين يحملون عقدة الضحية.