الأحد 9 نوفمبر 2025
تحمل قصة غلاف سبتمبر/أيلول في «ذي أتلانتك»، بقلم الصحفية آن أبلباوم، عنوان: «الحرب على لا شيء»، أو - في النسخة الإلكترونية - «أكثر صراع عدميّ على وجه الأرض». في الحالتين، المقصود هو السودان، حيث خلّفت الحرب منذ 2023 مأساة هائلة. فبحسب الأرقام الراهنة للأمم المتحدة، يحتاج أكثر من 30 مليون إنسان (من نحو 45 مليون سوداني) إلى مساعدات إنسانية، وتشرّد أكثر من 12 مليونًا. وتتباين تقديرات الضحايا، لكن حتى أواخر عام 2024 كانت تتداول تقديرات تفوق 150 ألف قتيل. ليست حربًا يجوز التهوين من شأنها بالكلام.
في هذا السياق، بدا عنوان «الحرب على لا شيء» مسيئًا لكثيرين. وقد ردّت مجلة «ذا كونتيننت»، وهي من أفضل المجلات الصادرة من أفريقيا وعنها اليوم، بقصة غلاف مقابلة بعنوان: «الحرب على كلّ شيء في السودان».
وليس العنوان وحده ما أثار الاستياء، بل أيضًا مضمون مقال أبلباوم كما تلقّاه قرّاء كثر. يكتب محرّرو «ذا كونتيننت»
«أثارت صحفية أميركية مؤخرًا جدلًا بقصة غلاف في مجلة ذي أتلانتك تُؤطّر الحرب في السودان على أنها "عن لا شيء". في المقال، تُعدّ محرّكات الصراع تافهة إلى حدّ أن السودان يتحوّل إلى خلفية لحجّة جانبية: "إن عبارة نهاية النظام الدولي الليبرالي تُردّد كثيرًا في قاعات المؤتمرات ومدرجات الجامعات في أماكن مثل: واشنطن وبروكسل. لكن في المقالة غدت هذه الفكرة النظرية واقعًا. لقد انتهى النظام الليبرالي العالمي بالفعل في السودان، ولا شيء يحلّ محله".
طلبنا من السودانيين أن يشرحوا لنا عمّا تدور الحرب. فجاءتنا ردود من صحفيين وباحثين قدّموا تحليلات موثّقة؛ ومن نشطاء المجتمع ومواطنين عاديين كتبوا مقالات شخصية. كان أحدها تقريرًا ثريًا بالتفاصيل امتدّ إلى تسع صفحات. والخلاصة واضحة: "لا وجود لشيء اسمه حرب على لا شيء. فصراع السودان لم يعد حربًا واحدة، بل سلسلة من النزاعات المتداخلة حول كلّ شيء تقريبًا - الذهب، الهوية، الأراضي الزراعية، الفلسفات الاجتماعية، سمِّ ما شئت. هنا خمسة من تلك المنظورات، محرّرة للاختصار والوضوح".
والتفنيداتُ لتصوير أبلباوم واضحة ومقنعة في ملف «ذا كونتيننت»، وقد كانت حاضرة ضمنًا في كثير من التحليلات حول الصراع في السودان: الحرب عن الثورة المضادّة، كما قال الصحفي إياد هشام في مقابلة هنا؛ والحرب عن حسم سؤال من هو الوريث النهائي لحكم عمر البشير الممتد ثلاثين عامًا (1989–2019)؛ وهي عن تتويجٍ ثم انهيارٍ لنمطٍ من الاقتصاد السياسي؛ وعن موقع المرتزقة والقوات شبه النظامية في السياسة؛ وعن أيّ دولةٍ وأيّ حوكمة ستكون في السودان؛ وعن مستقبل ملايين البشر. إن اختزال موت مئات الآلاف إلى "غياب" مزعوم للقوة الأميركية يستخفّ بتلك الأرواح، ويسوءُ قراءةَ أسباب الحرب وطبيعتها.
هكذا تعرض أبلباوم أطروحتها على منصّتها في «سبستاك»: "في كلتا الرحلتين [إلى السودان أثناء إعداد تقريرها] رأيتُ ما يحدث حين تختفي الدولة. السودان الآن في عامه الثالث من حربٍ أهلية تبدو بلا معنى ولا غاية ولا نهاية. مثل تسونامي أو إعصار، خلّفت الحرب وراءها مساحات واسعة من الدمار المادي، وأضرارًا بشرية أيضًا. الغذاء شحيح. انهار النظام التعليمي. المؤسسات الدولية ضعيفة. وحين ترفع النظام الليبرالي العالمي لا تحصل على شيء أفضل. إنما تحصل على فوضى وعدمية وحرب يغذّيها الخارج - السعودية والإمارات وتركيا ومصر وروسيا وإيران - وهرولةٌ وراء ذهب السودان".
لاحظ كيف يُمحى السودانيون في هذا التركيب: فإمّا أن الحرب نفسها هي الفاعل، كقوةٍ طبيعية، أو أنها مفعولٌ به تُسيّره قوى خارجية. في الحالتين، لا يلعب السودانيون دورًا فاعلًا في سرد أبلباوم.
تأتي صياغتها في المقال نفسه على المنوال: فالمعاناة في السودان هي، عندها، نتيجة "عالم فوضوي ما بعد أميركي، عصرٍ لم يُطلق عليه اسم بعد". وتأسف لأن "اختفاء أيّ شكل من أشكال النظام الدولي جعل السودان بؤرة تنافس محتدم بين دول ليست قوى عظمى بل قوى متوسطة". أو كما تكتب لاحقًا: "في الخرطوم ودارفور وفي كل مكانٍ يتجمّع فيه السودانيون المنفيون الآن - أبوظبي ولندن ونجامينا وواشنطن - تحدثتُ إلى سفراء وخبراء ودبلوماسيين وسياسيين كانوا يسألون مرارًا لا عن الإنسانيين الأميركيين فحسب، بل عن الأميركيين الذين سيأتون من البيت الأبيض ليتفاوضوا، ويطرقوا الرؤوس معًا، ويجدوا سبيلًا لإنهاء الحرب. كانوا يريدون أميركيين يحفّزون بقية المجتمع الدولي، ويجرّون الأمم المتحدة، ويأتون بقوات حفظ سلام، ويُحدثون شيئًا: نموذج جيمي كارتر في كامب ديفيد أو ريتشارد هولبروك في دايتون للدبلوماسية القيادية الأميركية لحلّ المشكلات، وهو نموذج لعب دورًا في السودان أيضًا، في عهود إدارات ديمقراطية وجمهورية".
هل كانت أفريقيا بخير حتى ضغطت البيئة؟ أم حتى انتهت الحرب الباردة؟ أم حتى انتُخب ترامب؟ في كل مقال نتعلم عن سياسة الكاتب أكثر مما نتعلم عن العنف في أفريقيا. ومرةً بعد مرة، تُستدعى أفريقيا رمزًا للفوضى
تواجه حجّة أبلباوم مأزقًا فوريًا: كيف تُوفّق بينها وبين الحربين الأهليتين المروّعتين اللتين خاضهما السودان بين 1955–1972 وبين 1983–2005، واللتين قد تكونان أودتا بحياة 2.5 مليون إنسان أو أكثر؟
تقارن أبلباوم بين ماضٍ كانت فيه القوة الأميركية - بحسب زعمها - تكبح الصراع، وحاضرٍ صار فيه الصراع نتيجة انفلات «القوى المتوسطة» بلا يدٍ أميركيةٍ «راشدة» تكبحها. وهي إذ تزعم أن أميركا «كانت مهمة» في السودان، تُفرد مساحة أكبر لسرد حجم التعبئة الحكومية والمدنية الأميركية حول السودان، ممّا تفرد لتقييم أثرها. ومن الدالّ أنها تُسند للولايات المتحدة "المساعدة في إنهاء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، إحدى أطول الحروب في أفريقيا"، ثم تغيم عبارتها حين تصف لماذا آل المخرج الحاسم لتلك التسوية - استقلال جنوب السودان - إلى مأساة: "انزلق جنوب السودان المستقل إلى صراعٍ داخلي عِرقي وفشل في الازدهار".
الفعلان في الجملة نشطان نحويًا لكنهما سلبيان دلاليًا: مَن المسؤول عن ذلك الانزلاق وذاك الفشل؟ قبل فقرتين، كانت أبلباوم تُسنِد لإدارتي جورج بوش الابن وباراك أوباما نفوذًا عظيمًا، لكنها توحي بعد ذلك بأن انسحابًا أميركيًا ما خلال عهد أوباما قَضى على جنوب السودان. تُلقي باللائمة على المشهد الإعلامي "جلبت وسائل التواصل سيلًا من المعلومات المضللة، عن السودان وعن كل مكان، وأنتجت ثقافةً من التهكم والازدراء". لكن هل يُعقل أن يحدث هذا التحوّل بين عام 2011، حين استقلّ جنوب السودان، وعام 2013، حين انزلق ذلك البلد إلى صراعه الدموي؟
يصير السودان، إذن، في سرد أبلباوم، أداةً لحججٍ سياسية عن الولايات المتحدة نفسها؛ أحد الأشرار الرئيسيين في قصتها هو دونالد ترامب، انسجامًا مع تدخلاتها الأوسع في السياسة الأميركية. ولستُ مدافعًا عن ترامب، ولأبلباوم نقد لبايدن أيضًا، لكن يبدو لي أن «حماة النظام الليبرالي العالمي» المفترضين - بوش وأوباما وبايدن - لهم إخفاقات جسيمة في السودان. وقد نوقشت سياسة أبلباوم «اليمينية الوسط» بإسهاب على أيدي مؤلفين كثر - ومدخلٌ جيّد لذلك مراجعةُ ديفيد كليون (2021) لكتابها "Twilight of Democracy". يكتب كليون: "إن إيمان أبلباوم الأعمى بتيارات النيوليبرالية اليمينية الوسط وبالحراك القائم على الاستحقاق… يُبرّئها وأصدقاءها الباقين من أيّ مسؤولية عن الأزمة الراهنة". وتبدو ملاحظته صائبةً هنا أيضًا؛ ففي سرد أبلباوم، تتحمّل الولايات المتحدة مسؤولية «النجاحات» في السودان حتى عام 2011، لا «الإخفاقات».
سببٌ آخر يجعل حجّة أبلباوم عن السودان و«النظام الليبرالي العالمي» جوفاء هو أن مقالها ذكّرني بشدّة بمقالين إشكاليين. الأول «الفوضى القادمة» لروبرت كابلان، المنشور في «ذي أتلانتك» (!) في فبراير/ شباط 1994. والثاني «حروب أفريقيا الأبدية» لجيفري غيتلمان، المنشور في «فورين بوليسي» عام 2010. تشترك المقالات الثلاث لكابلان وغيتلمان وأبلباوم في سمة محورية: أنها تتخذ من صراعٍ أفريقي مثالًا لعالمٍ يُفترض أنه غارق في الفوضى. وهي تسطّح أفريقيا والأفارقة إلى فئات أحادية البعد: زعماء حربٍ جشعون وجنودٌ غسلت أدمغتهم وضحايا عاجزون ودبلوماسيون «أصدقاء للغرب» وساسة بائسون.
بالنسبة لكابلان - في مقال أراه، ومعي كثيرون، عنصريًا وبغيضًا حقًا - كانت الحروب الأهلية في سيراليون وليبيريا، مع الجريمة في ساحل العاج وأماكن أخرى بغرب أفريقيا، معاينةً للقرن الحادي والعشرين الآتي آنذاك:
لا يقتصر الأمر على تشابه حجج كابلان وأبلباوم (العنف الأفريقي بلا معنى وهو مستقبلك، أيها القارئ الغربي)، بل يستخدم كلاهما تقنياتٍ أدبيةً متشابهة - إذ يتأملان مثلًا في أن الخرائط لا تعكس كيف أن هذه البلدان ليست «حقيقية» أصلًا، تمامًا كما أن حروبها ليست «حروبًا حقيقية». كابلان مالتوسيّ صريح، فيما تُبدِي أبلباوم شفقةً متعالية. وكلاهما، لافتًا، يلجأ إلى الإمبراطورية بوصفها تشبيهًا: فالتسعينيات تُذكّر كابلان ببواكير العهد الاستعماري، فيما ترى أبلباوم أن انهيار النظام الأميركي يشبه سقوط الإمبراطورية الرومانية. ولستُ وحدي من تذكّر كابلان - فقد أثار سام هاريس هذه المقارنة مع أبلباوم في بودكاسته؛ اتفقا على أن تنبؤات كابلان لم تتحقق كاملة، لكن أبلباوم لم ترفض المقارنة.
إن النشطاء المؤيدين لفلسطين يهتمّون بالسودان كذلك؛ فالأمر ليس لعبةً صفرية. ولم أسمع كثيرًا من المفكرين السودانيين يقولون إنهم يريدون من الناس أن يكفّوا عن الاهتمام بغزة. لكن في دوائر غربية بعينها، استُخدم السودان أداةً رمزيةً لمحاولة نزع الشرعية عن التضامن مع فلسطين
أما غيتلمان فيُمهّد مباشرةً لحجج أبلباوم عن «العدمية»: "ثمّة سببٌ بسيط يجعل بعض أكثر حروب أفريقيا دمويةً ووحشيةً لا تنتهي: إنها ليست حروبًا حقًا. ليس بالمعنى التقليدي، على الأقل. فالمتحاربون بلا أيديولوجيا تُذكر؛ بلا أهدافٍ واضحة. لا يبالون بالسيطرة على العواصم أو المدن الكبرى - بل يفضّلون الأدغال الكثيفة، حيث يسهل ارتكاب الجرائم. ويبدو أن متمردي اليوم غير معنيين بكسب الأنصار، قانعين بدلًا من ذلك بسرقة أطفال غيرهم، ووضع الكلاشنيكوفات أو الفؤوس في أيديهم، وجعلهم يقومون بالقتل. أنظر عن كثب إلى بعض أكثر صراعات القارة استعصاءً، من الخلجان المليئة بالمتمردين في دلتا النيجر إلى الجحيم في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فستجد هذا".
كما يستخدم غيتلمان وأبلباوم صورًا متقاطعة: فمخيّم اللاجئين والمستشفى يشكّلان، عند الكاتبين، رمزَا لعالمٍ مختلّ. ويطلق الثلاثة تعميمات واسعة عن الصراع، يعزونها إلى عللٍ فضفاضة - فعند كابلان «ندرة بيئية» تدفع موجات الجريمة والحرب؛ وعند غيتلمان، ينتج العنف «غير المعقول» من نهاية الحرب الباردة وعالمٍ مليء بـ«الدول المريضة». والواقع أن أطروحة غيتلمان قد تبدو مألوفة اليوم لقرّاء مقال أبلباوم: "ما تغيّر في جيلٍ واحد كان، جزئيًا، العالم نفسه. فقد أفضت نهاية الحرب الباردة إلى انهيار الدولة والفوضى. حيث وجدت القوى العظمى المتدخلة آنفًا حجارةَ دومينو يجب منعها من السقوط، غدت فجأةً لا ترى أيّ مصلحة وطنية على الإطلاق. (الاستثناء، بالطبع، الموارد الطبيعية التي أمكن شراؤها بسهولة - وغالبًا بخصمٍ جيّد - من جماعات مسلحة مختلفة). فجأةً، صار كلّ ما تحتاجه لتصبح قويًا هو بندقية، وتبيّن أن البنادق وفيرة. نزفت بنادق AK-47 وذخائر رخيصة من الكتلة الشرقية المنهارة إلى أقاصي أفريقيا. كانت فرصةً مثالية للكاريزميين ذوي الإشكال الأخلاقي".
إن حقيقة تتابع نشر نسخٍ من الفكرة ذاتها من التسعينيات إلى اليوم في صحف أميركية رائدة، يوحي بأن كل كاتب فسّر صراعات أفريقيا في لحظته عبر عدسة رؤيته الجيوسياسية الخاصة. فأيّها الصحيح - هل كانت أفريقيا بخير حتى ضغطت البيئة؟ أم حتى انتهت الحرب الباردة؟ أم حتى انتُخب ترامب؟ في كل مقال نتعلم عن سياسة الكاتب أكثر مما نتعلم عن العنف في أفريقيا. ومرةً بعد مرة، تُستدعى أفريقيا رمزًا للفوضى.
حين تُثار مسألة الإبادة الإسرائيلية في غزة، تلجأ أصواتٌ موالية لإسرائيل وكذلك معلّقون يتحرّجون من لفظ «إبادة» إلى ضربٍ من «الواتأبوتزم»: (أسلوب جدلي يقوم على الرد على اتهام أو نقد ما بالإشارة إلى قضية أخرى بهدف التشتيت أو صرف الانتباه)، فيسألون الأصوات المؤيدة لفلسطين لماذا لا يهتمون بالسودان أيضًا. والجواب، على نحوٍ منطقي، أن النشطاء المؤيدين لفلسطين يهتمّون بالسودان كذلك؛ فالأمر ليس لعبةً صفرية. ولم أسمع كثيرًا من المفكرين السودانيين يقولون إنهم يريدون من الناس أن يكفّوا عن الاهتمام بغزة. لكن في دوائر غربية بعينها، استُخدم السودان أداةً رمزيةً لمحاولة نزع الشرعية عن التضامن مع فلسطين. وقد استخدمت أبلباوم نسخةً مُلطّفة من هذه التقنية في مقابلة مع تيم آدامز في «ذا غارديان» (يوليو/ تموز 2024) حين قالت: "تخشى أن تكون الحرب المروعة في غزة قد أصبحت نوعًا مماثلًا من «القضايا الفاصلة» المبسّطة. كان كتابها مؤسسة الاستبداد مكتوبًا بمعظمه قبل هجوم حماس في 7 أكتوبر. «تمكّنت من إدخال بعض التعديلات عليه لاحقًا»، تقول. لكن لم يُصَمَّم بوصفه كتابًا عن الشرق الأوسط".
لقد أكّد لها طبيعة الخطاب المحيط بالحرب ذلك. "حين رأيتُ أن [التعليقات] صارت سامةً جدًا على الإنترنت بسرعة، قلت لنفسي: حسنًا، سأنأى بنفسي عن هذا"، تقول: "لستُ خبيرةً في المنطقة. لست هناك. ولن أتحدث عنه بالتأكيد على تويتر. أعني، هل لدى الناس آراءٌ محسومة بالكامل عمّا يجري في السودان، مثلًا؟ تلك أزمة كبرى أخرى".
وبالنظر إلى ازدراء أبلباوم (كما عبّرت في مقال «ذي أتلانتك» وأماكن أخرى) لوسائل التواصل، تبدو تصريحاتها هنا (أ) تكرارًا لمقولة مألوفة مفادها أن الناس أسرع مما ينبغي إلى تبنّي مواقف سياسيةٍ عبر الإنترنت وأبطأ مما ينبغي في تغييرها، و(ب) أن الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني أعقد من أن يسمح بأحكامٍ أخلاقية قاطعة، و(ج) تضمينًا للسودان بما يوحي بأن من يندّدون بالعنف الإسرائيلي في غزة انتقائيون في انخراطهم الجيوسياسي.
وإذا كان عنوان «الحرب على لا شيء» صادمًا بقسوته، فإن «أكثر صراعٍ عدميٍّ على وجه الأرض» لا يقلّ سوءًا، إذ يُختزل بشرٌ حقيقيون إلى قتلةٍ بلا عقول
لا تظهر كلمة «غزة» في مقال أبلباوم في «ذي أتلانتك» إلا مرتين: "يُستخدم الإحصاء أحيانًا للتعبير عن حجم الدمار في السودان. فقد نزح نحو 14 مليون إنسان بسبب سنواتٍ من القتال، أكثر مما في أوكرانيا وغزة مجتمعتيْن". "وحتى بعد تولّي بايدن منصبه، انصرف الاهتمام الشعبي والسياسي الأميركي أولًا إلى أفغانستان ثم إلى أوكرانيا وغزة؛ ولم يعد إلى السودان".
وقد تُفهم الإشارتان بوصفهما إيحاءً من نوعٍ واحد - أي الإيحاء بأن السودان أهم من غزة، أو أن غزة استهلكت انتباهًا كان ينبغي أن يُصرف إلى السودان.
وعلى هذا المنوال، يلفت النظر المواضع التي لا تُذكر فيها غزة في المقال: "وضع الغزو الروسي لأوكرانيا دولةً عضوًا في مجلس الأمن في مواجهة مباشرة مع ثلاثٍ أخريات للمرة الأولى منذ الحرب الباردة، منهيًا، ربما إلى الأبد، أيّ دورٍ لمجلس الأمن بوصفه مكانًا جادًا لمناقشة مسائل الحرب والسلام"… دون نقاش لفكرة أن استخدام الولايات المتحدة الفيتو مرارًا لصالح إسرائيل قد أضرّ أيضًا بقدرة المجلس على أداء دورٍ بنّاء في «مسائل الحرب والسلام». القوى ذاتها التي دمّرت السودان آتيةٌ إلى بلدان أخرى أيضًا. فقد دمّر العنف المُلهَم والمموّل من أطراف عدة سوريا وليبيا واليمن، وهو يتمدّد في تشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وما وراءها. والجشع والعدمية والمعاملاتية تعيد تشكيل سياسات العالم الغني أيضًا. ومع سقوط القواعد والأعراف القديمة، لا يحلّ محلّها هيكلٌ جديد. بل يحلّ محلّها لا شيء"… دون ذكرٍ لما إذا كان أيٌّ من هذا ينطبق على الصراع الأكثر تناولًا في العالم الآن.
وأجزم أن أبلباوم سترفض هذا التأويل للمقال، لكنني أرى أنه يمكن قراءة خيطين بين السطور عن السودان وغزة: أولهما إصرارٌ على أن السودان أهم، على نحوٍ صفري؛ وثانيهما إيحاءٌ بأن القوات الإسرائيلية تعمل، في الأغلب، وفق «القواعد» في غزة والضفة، فيما «القوى المتوسطة» تستغلّ فراغ القيادة الأميركية في السودان.
يذكّر هذا كله بمقارنة بيتر بينارت عام 2024 بين أبلباوم ومايكل ماكفول وماكس بوت - ثلاثة «صقور ليبراليين يهاجمون روسيا ويمنحون إسرائيل بطاقة مرور». كتب بينارت: "إنهم يروون قصةً بعينها عن أميركا، وعن القرن الماضي، تقلبها القضية الإسرائيلية–الفلسطينية رأسًا على عقب. فالقصة أن صعود أميركا إلى الصدارة العالمية أطلق عالمًا أكثر حريةً والتزامًا بالقانون. امتدحت أبلباوم "الباكس أمريكانا التي رافقت النظام العالمي القائم على القواعد". ويقول بوت إنه بعد الفوز في الحرب العالمية الثانية تجنّبت الولايات المتحدة "ملاحقة مصلحتنا الضيقة" وأنشأت بدلًا من ذلك "مؤسسات دائمة مثل الناتو والاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة (سلف منظمة التجارة العالمية) لتعزيز الازدهار والأمن للجميع". ويؤكد ماكفول أن "الولايات المتحدة لم تنخرط منذ عقود في الضمّ أو الاستعمار، ولا تهاجم الديمقراطيات، ولا تستخدم الإرهاب عمدًا أسلوبًا في الحرب".
لكن هناك أماكن كثيرة، خاصة في الجنوب العالمي، لا تنطبق عليها هذه الحكاية التي تقول إن القوة الأميركية أطلقت تقدمًا أخلاقيًا.
لا تنطبق على السودان تلك السردية - لكن مقال «ذي أتلانتك» ينتهي إلى محاولة حشر السودان في سردٍ كونيٍّ مؤيّدٍ لأميركا، متجاهلًا التحدّي الذي تطرحه غزة لـ«القيادة الأخلاقية» الأميركية المفترضة. وكما قال آدم جونسون بصراحة على الإكس:
"تركّز أبلباوم، و«ذي أتلانتك» عمومًا، على السودان لسببين لا ثالث لهما: 1) لتدعيم أطروحتها الأوسع بأن الأشياء السيئة لم تحدث إلا لأن الولايات المتحدة “انسحبت” من شرطة العالم؛ 2) كحيلةٍ في موضوع إبادة غزة التي يدعمونها بنسبة 100٪".
طالما أزعجني استخدام الكتّاب لفظ «العدمية» لوصف العنف في أفريقيا. يبدو أن معناها الدارج شيءٌ كـ«العبثية» أو «انعدام الأيديولوجيا». لكن حركة العدمية في القرن التاسع عشر، مثلًا في روسيا، كانت رؤيةً فكريةً وسياسيةً طموحة تهدف إلى اجتثاث التقليد في سبيل التقدّم. وأيقونتها الأدبية القصوى - يفغيني بازاروف في رواية إيفان تورغينيف "الآباء والبنون" - شخصيةٌ مرسومةٌ بقدرٍ كبير من التعقيد. لقد آمن العدميون بشيء؛ واللفظ لا يعني «القتل للتسلية». ومن ثم فإن الاستخدام الدارج ليس محاولةً للتحليل، بل هو نعتٌ سياسي يدلّ - في نظري - على رفض الكاتب الانخراط بجدّية مع أسباب العنف ودوافعه. وإذا كان عنوان «الحرب على لا شيء» صادمًا بقسوته، فإن «أكثر صراعٍ عدميٍّ على وجه الأرض» لا يقلّ سوءًا، إذ يُختزل بشرٌ حقيقيون إلى قتلةٍ بلا عقول.
ويبقى مجالٌ واسع للتفكير في سبب اختيار «ذي أتلانتك» صحفية «مشاهير»، بدلًا من كاتبٍ ذي خبرة عميقة بالسودان، لكتابة قصة الغلاف. صنعت أبلباوم اسمها بالكتابة عن الاتحاد السوفيتي قبل أن تتحول إلى الكتابة عن السلطوية؛ والقول إنها مؤهلةٌ للكتابة عن السودان لأنها «خبيرة» في «النظام الليبرالي العالمي» قفزةٌ كبيرة. لقد همّشت المجلة آلاف الكتّاب المحتملين الذين كان بوسعهم أن يكتبوا مقالاتٍ رائعة، لتُقدّم بدلًا منهم شخصًا بحجّةٍ لامعة الصياغة لكنها خاطئةٌ بعمق.