تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 12 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
كتب

"لا قوس قزح في الجنة": بوكو حرام، امتداد وحشي لتاريخ ما قبل الاستقلال

23 أكتوبر, 2025
الصورة
  "لا قوس قزح في الجنة": بوكو حرام، امتداد وحشي لتاريخ ما قبل الاستقلال
Share

تُعد رواية "لا قوس قزح في الجنة" (Il n’y a pas d’arc-en-ciel au Paradis)، الصادرة عام 2022 للكاتب السويسري التشادي نيتونون نويل نجيكيري، ملحمة روائية استثنائية حصدت جوائز مرموقة، والتي صدرت ترجمتها العربية بقلم الدكتور عاطف الحاج سعيد في سبتمبر/ أيلول 2025. تتجاوز الرواية السرد لتصبح وثيقة تحليلية عميقة تربط تاريخ القهر الأفريقي بعنف الواقع المعاصر، متتبعة خطاً زمنياً مظلماً يمتد من العبودية العابرة للصحراء، مروراً بالاستعمار، وصولاً إلى صعود الجماعات الإرهابية. وفي قلب هذه السردية، يقف نجيكيري ليؤكد الحقيقة القاسية بأن وحشية التاريخ لا تنتهي، بل تتجدد ضمن حلقة زمنية أكثر ضراوة.

أزمة الوعي في تجاهل التاريخ المحكي

تدور أحداث الرواية على مدى قرن من تاريخ المنطقة، حيث تسرد قصة ثلاثة من العبيد الهاربين في أواخر القرن التاسع عشر: رجلين وامرأة، وهم توماستا منصور، ياسمينة، وزيتون. يقرر هذا الثلاثي تأسيس مجتمع يوتوبي يُدعى كييبا على جزيرة عائمة في بحيرة تشاد، متعهدين بأن يكون مبدؤهم الأول هو الحرية التامة من كل أشكال الاستعباد. لقد كرّس هذا المجتمع الناشئ نفسه للتحرر بالمعرفة، ورفض النسيان، وتوثيق ذاكرة القهر عبر سجل خاص سُمّي بـ (ندادجي)، حيث اعتبروا التدوين أمراً ضرورياً حتى لا ينسى السكان أي شيء. لكن هذه الجزيرة المنعزلة، التي مثلت ملاذاً لسكانها بعيداً عن "ضوضاء العالم"، تنهار بشكل مأساوي عندما تتعرض لـ "غزوة" وحشية من قبل جماعة بوكو حرام الإرهابية، مُكملة بذلك حلقة تاريخية تستنسخ العبودية القديمة ذاتها.

يعتبر هذا التناقض المعرفي المفتاح لفهم أزمة الدولة الحديثة؛ إذ أن فشل النخب ما بعد الاستعمار يكمن في تبنيها للرواية المدرسية المنقحة التي تجاهلت عمق جروح التاريخ المروي

يكمن المنطلق الفكري للمؤلف في الكشف عن وجود تناقض جذري بين مفهومين لتاريخ مجتمعه: التاريخ الشفوي (ما يعرف بفن الحكواتيين الذي أخذ عنه الكاتب)، وهو أقرب ما يكون إلى الحقيقة الكاملة لأهوال القهر؛ والتاريخ المدرسي/الرسمي، الذي كان بعيداً عن الواقع. إذ ركزت المقررات المدرسية على تجارة الرق عبر الأطلسي، متجاهلة عمداً العبودية الداخلية وتجارة الرق عبر الصحراء وفي شبه الجزيرة العربية.

يعتبر هذا التناقض المعرفي المفتاح لفهم أزمة الدولة الحديثة؛ إذ أن فشل النخب ما بعد الاستعمار يكمن في تبنيها للرواية المدرسية المنقحة التي تجاهلت عمق جروح التاريخ المروي. ومن رحم هذا التجاهل الرسمي للذاكرة الحية، وُلدت جماعات مثل بوكو حرام، لتكون التجسيد الفعلي والمؤلم للتاريخ المروي الذي رفضت الدولة الاعتراف به أو معالجته.

يمثّل مجمع كييبا الطوباوي المبدأ النقيض لكل ما ترفضه الرواية. فبعد التأسيس على الحرية الكاملة والعدالة، تميز المجتمع بمشروعه التحرري الجماعي، المستلهم من أسطورة "السكولوبندر"، التي تُرسي الترابط بين الفرد والجماعة. وكان الهدف الأسمى لـ كييبا هو التحرر بالمعرفة، حيث تم اعتبار إتقان القراءة والكتابة أمراً ضرورياً حتى "لا ينسى السكان أي شيء". وحفاظا على هذه الذاكرة، تم تخصيص سجل التدوين الجماعي "ندادجي" لتوثيق التاريخ المروي. تذكرنا هذه الجزيرة، المسماة "كيرتا" البدوية، بجزر الأدب الشهيرة التي تمثل الملاذ الطوباوي، لكنها ترسخ مبدأ أن "من المستحيل البقاء على الهامش إلى الأبد".

عندما تعود العبودية من بوابة الإرهاب

انهيار كييبا لم يكن حادثة عابرة؛ فقد اجتاحها هجوم كاسح شنته جماعة بوكو حرام، وهو ما يكشف أنه لم يكن عملاً إرهابياً فحسب، بل استنساخا مروعا ودقيقا للعبودية القديمة ذاتها. يتجلى هذا الاستنساخ المؤلم في قيام قوة كوماندوز تابعة لجماعة بوكو حرام بـ "غزوة" وخطف مجموعة من الشباب والفتيات، مُكررين بذلك فظائع أسواق النخاسة التاريخية. وهذا التكرار المأساوي يُثبت أن جماعة بوكو حرام ليست سوى إرث النخاسين الذي يرفض أن يموت.

في هذا السياق، تؤكد الرواية أن "ضوضاء العالم، المشوهة عبر الرواية الشفوية، ستصل" إلى جزيرة كييبا المثالية. وأن شعار الجماعة، "التعليم الغربي حرام"، ليس رفضا أيديولوجيا فقط، بل هو مشروع متكامل يهدف إلى قمع المعرفة، وخلق بيئة جهل تُسهّل ممارسة الاستعباد والتجنيد القسري.

هذا التكرار المأساوي يُثبت أن جماعة بوكو حرام ليست سوى إرث النخاسين الذي يرفض أن يموت

أراد الكاتب نجيكيري من خلال السقوط المأساوي لجزيرة كييبا العائمة تقديم نقد عميق مزدوج. فأولاً، هو نقد للعزلة الوهمية؛ حيث يؤكد أن النجاة تتطلب المواجهة لا الهروب. وثانياً، وربما الأهم، فإن سقوط "كييبا" هو إدانة صريحة لفشل النخب الأفريقية في المنطقة. الرواية تُلقي باللوم على النُخب التي ورثت هياكل الاستعمار ولم تنجح في بناء عقود اجتماعية عادلة، مُشيرة إلى عنف الاستعمار المزدوج (كتجنيد شباب المنطقة قسراً في حروب أوروبا، ثم إقصائهم) والإقصاء المتراكم الذي يرسخ فكرة أن "استقلال الباوبابيا كان مجرد وهم". هذا التراكم لفشل الدولة يخلق فراغاً هائلاً في السلطة والعدالة مكن الإرهابيين والمتطرفين من توظيف اليأس الاجتماعي كأداة للتجنيد.

التنمية قبل العسكرة: استراتيجية لقطع "الحبل السري"

بينما يُدين نجيكيري فشل الدول الأفريقية في توفير العدالة والأمن، فإن الرواية تحمل دعوة ضمنية للنخب والشركاء الإقليميين والدوليين. مفاد هذه الدعوة هو أن الخروج من دورة العبودية المتجددة التي يجسدها الإرهاب والتطرف لا يمكن أن يتم بالاعتماد على المساعدات العسكرية الهشة، بل يتطلب استراتيجية تنموية واستثمارية تهدف إلى تجفيف منابع اليأس الاجتماعي التي يستغلها الإرهابيون والمتطرفون.

هذا التراكم لفشل الدولة يخلق فراغاً هائلاً في السلطة والعدالة مكن الإرهابيين والمتطرفين من توظيف اليأس الاجتماعي كأداة للتجنيد

وعليه، يجب أن تركز الجهود الإقليمية والدولية (خاصة من الشركاء الاستراتيجيين والدول الرائدة في التنمية والاستثمار) على تمويل مشاريع البنية التحتية والتعليم والزراعة في منطقة الساحل وحوض بحيرة تشاد، لتحويل المنطقة من ساحة صراع إلى واحة استثمار. إن هذا التحول في نموذج التنمية هو الكفيل بقطع "الحبل السري" الذي يربط القهر التاريخي بالإرهاب والتطرف المعاصر.

الكفاح من أجل العدل على الأرض

تؤكد الرواية قناعة جوهرية مفادها أن مكافحة الإرهاب والتطرف ما هي إلا مواجهة وجودية للظلم التاريخي المتراكم والمستمر، وعليه، فإن العنوان "لا قوس قزح في الجنة" هو بيان رمزي يرفض الوعد بالخلاص الغيبي السهل، ويُرسّخ رسالة مفادها أنه لن يأتي منقذ غيبي، وأن الطريق الوحيد لإنهاء دورة القهر التاريخي هو العمل المباشر والشاق لمواجهة الظلم وتحقيق العدالة في هذا العالم.

إن تحقيق السلام والاستقرار في بحيرة تشاد ومنطقة الساحل يستلزم أولاً معالجة جذرية للأسباب التاريخية العميقة للقهر، وتصحيحاً فورياً لفشل الدولة الذي وفر البيئة الخصبة لتنظيمات مثل بوكو حرام كي تتجسد كذراع ممتدة لنظام العبودية القديم بكل وحشيته.

المزيد من الكاتب