الخميس 17 يوليو 2025
بعد عام تمامًا من موجة احتجاجات يونيو/ حزيران 2024 التي هزّت البلاد، وأجبرت الحكومة على التراجع مؤقتًا عن قانون ضريبي مثير للجدل، عادت كينيا إلى دائرة الغليان الشعبي، مع اندلاع موجة احتجاجات جديدة، تزامنت مع الذكرى السنوية لأحداث 2024 الدامية، لتكشف أن جذور الأزمة لا تزال قائمة بل تتعمق في ظل تجاهل حكومي للمطالب، وتصاعد في القمع الأمني والتوترات السياسية.
بينما تحاول الحكومة احتواء الغضب وفرض التعتيم الإعلامي، تتقاطع هذه التحركات مع أزمة اقتصادية خانقة، وانقسامات داخل السلطة، ما يجعل البلاد أمام مفترق طرق محفوف بالمخاطر، ويطرح تساؤلات جدية حول مآلات الاستقرار السياسي في ظل اقتراب استحقاق انتخابات 2027.
تحوّل احتجاجات شعبية واسعة شهدتها العاصمة الكينية نيروبي، في 25 يونيو/حزيران 2024، إلى فاجعة دموية، وذلك خلال مظاهرة حاشدة أمام البرلمان اعتراضًا على مشروع قانون المالية الذي تضمن زيادات ضريبية طالت سلعًا وخدمات أساسية. تفاقم التوتر بشكل حاد عندما حاول المتظاهرون اقتحام مبنى البرلمان، لترد الشرطة بإطلاق النار، ما أسفر عن مقتل 60 شخصًا. كشفت التحقيقات أن بعض أفراد الشرطة أطلقوا الرصاص على متظاهرين غير مسلحين، الأمر الذي فجّر موجة غضب عارمة، واتهامات للأجهزة الأمنية بالاستخدام المفرط للقوة.
في ذكرى هذه الفاجعة، عادت كينيا مُجددًا إلى مشهد الغضب الشعبي، حيث خرج آلاف المتظاهرين في 25 يونيو/حزيران الماضي في 27 مقاطعة من أصل 47، لإحياء ذكرى ضحايا احتجاجات عام 2024، وبدأ الحراك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكان سلميًا في البداية، لكنه قوبل سريعًا برد أمني عنيف، حيث أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع، واستخدمت خراطيم المياه في وسط نيروبي لتفريق الحشود، ثم الرصاص الحي، ما أسفر عن مقتل 19 شخصًا وإصابة 531، وفقًا للجنة الوطنية الكينية لحقوق الإنسان.
إحياء الذكرى السنوية للاحتجاجات ما كانت إلا فرصة مواتية تمامًا لإفراز الأصوات الشابة ضد تكهنات الحكومة ووحشية الشرطة المتزايدة
مثلت وفاة المدون ألبرت أوجوانج أثناء احتجازه لدى الشرطة، على خلفية منشور ناقد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تطورا خطيرا، يفتح فصلًا جديدًا في تصعيد الأزمة، بما اكتنفه من غموض وغياب للمساءلة. وزاد التوتر حين قُتل بائع متجول برصاص الشرطة خلال مظاهرة لتأبين أوجوانج، ما فجّر موجة غضب جديدة، وعمّق الإحساس العام بأن الدولة لم تتراجع عن نهجها القمعي منذ احتجاجات العام الماضي.
هناك دوافع تكمن وراء نشوب الاحتجاجات العنيفة في كينيا، فإحياء الذكرى السنوية ما كانت إلا فرصة مواتية تمامًا لإفراز الأصوات الشابة ضد تكهنات الحكومة ووحشية الشرطة المتزايدة. فبحسب الهيئة المستقلة للرقابة على الشرطة، توفي 20 مواطنًا أثناء احتجازهم لدى الشرطة خلال الأربعة أشهر الماضية، في حين وثّقت منظمات حقوقية أكثر من 70 حالة اختفاء قسري لناشطين ومعارضين منذ احتجاجات العام الماضي، ورغم إطلاق سراح معظمهم، لا يزال 26 شخصًا على الأقل في عداد المفقودين، وفقًا للجنة الوطنية الكينية لحقوق الإنسان.
شكّل مقتل المدون ألبرت أوجوانغ أثناء احتجازه نقطة تحول جديدة، تلاها إطلاق النار على متظاهرين خلال جنازة رمزية له، ما عزز الإحساس العام بأن السلطة تتعامل مع الناشطين بوصفهم أعداء داخليين، في ظل غياب أي مساءلة لممارسات الأجهزة الأمنية.
في الخلفية، كانت الأزمة الاقتصادية تتفاقم بشكل يضغط بشدة على الفئات الشابة، التي تمثّل أكثر من 75٪ من سكان كينيا، بحسب تعداد 2019. فمع استمرار ارتفاع معدلات البطالة وتكاليف المعيشة، دون وجود إصلاحات ملموسة، ترسخت قناعة لدى شرائح واسعة من الشباب بأن الدولة عاجزة عن تحسين أوضاعهم.
وزاد إعلان البنك الدولي في مايو/آيار 2025 عن خفض توقعات نمو الاقتصاد الكيني إلى 4.5٪ من هذا الشعور، خاصة مع الإشارة إلى تصاعد الدين العام، وارتفاع أسعار الفائدة، وتراجع تمويل القطاع الخاص. رغم تسجيل الاقتصاد معدلات نمو ظاهرية، فإنها لم تنعكس على الحياة اليومية، بل ترافقت مع تفاوتات متزايدة وغياب في الشفافية. ما جعل الغضب يتراكم في أوساط الشباب، ورفع جاهزيتهم للاحتجاج في وجه السياسات الحكومية.
هكذا تضافرت آلة القمع الأمني، مع الأزمة الاقتصادية، وسياسات التعتيم الإعلامي، لتفجّر طاقات شبابية دفينة أعادت المطالب إلى الواجهة، مستندة إلى ذكرى الضحايا كرمز للمظلومية وأداة للتعبئة
من جهة أخرى، على الرغم من سحب حكومة روتو قانون المالية لعام 2024 الذي تسبب في احتجاجات العام الماضي، إلا أنها جاءت هذا العام بقانون آخر يشبهه في بعض الإجراءات من قبيل الزيادة الضريبية على بعض السلع، فضلاً عن السماح لهيئة الإيرادات الكينية بالوصول إلى البيانات الشخصية والمالية لدافعي الضرائب، مما جعل المواطنين يشعرون باستخفاف النخبة الحاكمة بمطالب الشارع، واستمرار تحميل المواطن أعباء إخفاقات الدولة في إدارة الاقتصاد والديون.
لجأت السلطة إلى سياسة تعتيم إعلامي ممنهجة، في مواجهة هذا التصعيد، فتم حجب الإنترنت في أجزاء واسعة من العاصمة نيروبي، وصدر قرار يحظر البث المباشر للمظاهرات، فيما تلقت وسائل الإعلام تحذيرات من تغطية الاحتجاجات. وقد ترافق هذا التحوّل في تعامل الحكومة مع الفضاء العام مع خطاب رسمي يلوّح بـ"الأمن القومي"، لكنه زاد من قناعة الجمهور بأن النظام لا يسعى فقط إلى قمع الاحتجاج، بل إلى طمس الحقيقة ومحاصرة الوعي.
هكذا تضافرت آلة القمع الأمني، مع الأزمة الاقتصادية، وسياسات التعتيم الإعلامي، لتفجّر طاقات شبابية دفينة أعادت المطالب إلى الواجهة، مستندة إلى ذكرى الضحايا كرمز للمظلومية وأداة للتعبئة. ففي اللافتات والهتافات، حضرت الدعوات لإسقاط حكومة روتو، ووقف عنف الشرطة، ومحاسبة الفاسدين، في تجسيد واضح لرفض محاولات الاحتواء التي رافقت احتجاجات العام الماضي، وإصرار على استمرار الضغط الشعبي.
على الرغم من تمكُن حكومة ويليام روتو من احتواء الاحتجاجات في يونيو/ حزيران 2025 وتجنّب التصعيد المفتوح، حيث توقفت نيران الاحتجاجات صباح الخميس 26 يونيو/ حزيران، إلا أن تكرار نمط الإنفجار الشعبي ذاته خلال العامين، يكشف عن أزمة أعمق من مجرد الغضب تجاه السياسات الضريبية أو عنف الشرطة. فهذه التحركات تعكس خللًا بنيويًا في منظومة الحكم نفسها، وتُبرز حالة التآكل الداخلي التي بدأت تضرب أركان السلطة. إذ تمر حكومة روتو بواحدة من أكثر مراحلها اضطرابًا، في ظل تصدُعات واضحة داخل تحالف "كينيا كوانزا" الحاكم، الذي لم ينجح في الحفاظ على تماسكه أمام الضغوط الشعبية والسياسية.
عمّقت الانقسامات السياسية من حدة الأزمة في الشارع الكيني، إذ أشارت تقارير حقوقية إلى تورط شخصيات سياسية نافذة في الدفع بعصابات محلية مسلحة إلى قلب الاحتجاجات
تجلى هذا التفكك في التباينات العلنية بين النخبة السياسية منذ احتجاجات العام الماضي، ولا سيما بين الرئيس ويليام روتو ونائبه ريغاثي غاشاغوا، حيث ظهر الأخير في مناسبات متكررة بمواقف ناقدة للإفراط في استخدام القوة ضد المتظاهرين. كما لمح إلى خلافات بشأن أولويات الميزانية العامة، بين تمويل الأجهزة الأمنية وتحسين الخدمات الاجتماعية. واعتُبرت هذه التصريحات محاولة لتسجيل موقف سياسي مستقل، ضمن سباق مبكر على النفوذ استعدادًا لانتخابات 2027، ما زاد من وضوح الانقسام داخل مؤسسة الحكم.
في السياق ذاته، عمّقت الانقسامات السياسية الداخلية من حدة الأزمة في الشارع الكيني، إذ أشارت تقارير حقوقية من بينها تقرير صادر عن "Global Initiative" إلى تورط شخصيات سياسية نافذة في الدفع بعصابات محلية مسلحة إلى قلب الاحتجاجات، بغرض تأجيج حدة الأوضاع وتشويه صورة حكومة روتو. وقد استُخدمت جماعات مثل: "كونغو بويز" و"غزا غانغ"، والتي جرى استقطابها من أحياء نيروبي المهمّشة، لتنفيذ عمليات قمع عنيف ضد المتظاهرين، في ظل تواطؤ أمني واضح.
في واقع الأمر، يكشف هذا الاستخدام للعصابات عن غياب موقف موحد داخل أجهزة الدولة في التعامل مع الاحتجاجات، في الوقت الذي يحاول فيه روتو احتواء الأزمة، يتعاون كبار الساسة لتأجيجها مما يحوّل الشارع الكيني إلى ساحة تنازع بين كبار الساسة، وهو ما يعكس عمق التشقُق في بنية الحكم، ويفسّر جزئيًا تكرار الانفجار الشعبي رغم محاولات الاحتواء الظاهرية.
شكّل الفارق بين الطموح الإقليمي والإخفاق المحلي أحد العوامل التي غذت امتداد الاحتجاجات الشعبية في كينيا، حيث تسعى كينيا لتعزيز نفوذها الإقليمي من خلال الانخراط في أزمات شرق ووسط أفريقيا، إلا أن هذا التوجه الخارجي قوبل باستياء شعبي متزايد، في ظل إهمال الأوضاع الداخلية، ومع غياب نتائج ملموسة لتلك التدخلات، التي أسفرت في بعض الأحيان عن انتكاسات دبلوماسية، عزز الشعور بأن القيادة تبتعد عن أولويات المواطن.
تجلّى ذلك بوضوح في فبراير/ شباط 2025، عندما استضافت الحكومة الكينية وفدًا من قادة قوات الدعم السريع السودانية، ما أثار أزمة دبلوماسية غير مسبوقة مع الخرطوم، التي اعتبرت الخطوة "دعمًا صريحًا لكيان متمرد"، وأعادت التشكيك في حياد كينيا كوسيط في الأزمة السودانية.
لم تكن هذه الواقعة معزولة، بل جاءت في بعد انسحاب القوات الكينية من شرق الكونغو أواخر عام 2023، وسط اتهامات بالتواطؤ مع ميليشيات محلية، وتضاؤل فعالية مبادرة "مسار نيروبي" للسلام، التي كانت الحكومة تروج لها كأداة لترسيخ نفوذها الإقليمي. لكن بدلًا من تعزيز صورة كينيا باعتبارها فاعلا دبلوماسيا، عززت هذه التطورات داخل البلاد انطباعًا بأن القيادة السياسية منشغلة بإدارة ملفات خارجية شائكة، بينما تتجاهل التحديات البنيوية في الداخل، مثل: البطالة المتزايدة، وارتفاع كلفة المعيشة، وتدهور الخدمات الأساسية.
من هذا المنطلق، لم تعد الاحتجاجات مجرد رد فعل على الإجراءات الاقتصادية وحدها، بل تحوّلت إلى تعبير صريح عن أزمة شرعية داخلية، إذ يُنظر إلى الدور الإقليمي للحكومة، لا كقوة ناعمة لخدمة المصالح الوطنية، بل كغطاء للهروب من المساءلة الداخلية.
رغم توقف الاحتجاجات صباح الخميس 26 يونيو/حزيران، إلا أن الهدوء الراهن لا يُعدّ مؤشرًا على نهاية الأزمة، بل هو أقرب إلى هدنة مؤقتة. فالمطالب التي فجّرت الشارع لا تزال دون معالجة واضحة، في وقت تزداد فيه الشكوك تجاه نوايا الحكومة، خاصة أن تنازلات العام الماضي لم تُترجم إلى إصلاحات حقيقية. ما يعزز من احتمال عودة الغضب الشعبي، خصوصًا إذا بادرت الدولة بقرارات تمس الوضع المعيشي أو الأمني مجددًا.
في المدى القريب، يبدو أن الرئيس ويليام روتو سيعتمد مزيجًا من التهدئة والانضباط الأمني لكسب الوقت، مع الحرص على عدم إظهار ضعف سياسي، خصوصًا مع اقتراب انتخابات 2027. كما لا يُتوقع أن يتخلى بسهولة عن قبضته على السلطة أو يسمح بانفلات داخلي يُضعف موقعه في معادلة الحكم. وفي هذا الإطار، قد يقدّم تنازلات محسوبة لتخفيف الاحتقان، دون المساس بجوهر سياساته أو توازناته داخل التحالف الحاكم.
أما على المدى المتوسط، فإن استمرار الانقسام داخل النخبة السياسية، وغياب قنوات فعالة للتفاوض مع الشارع، قد يدفع كينيا نحو دورة جديدة من الاستقطاب والتجاذب. وإذا استمر روتو في تغليب الحسابات الانتخابية على الاستجابة الفعلية للأزمة الاجتماعية، فإن البلاد قد تواجه احتجاجات أكثر تنظيمًا وخطورة، تقودها فئات شبابية فقدت الثقة في وعود الدولة، وتَعتبر المعركة طويلة ومفتوحة حتى 2027.