الاثنين 23 يونيو 2025
في الوقت الذي تشهد فيه القارة الأفريقية تصاعدًا في النزاعات الداخلية، وتوسعًا لنشاط الجماعات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية، تتعمق أزمة أكثر خطورة تتمثل في تفشي تجارة المخدرات غير المشروعة. فلم تعد القارة مجرد سوق استهلاكية لهذه السموم فقط، بل أضحت مركزًا لإنتاجها وتوزيعها.
تأتي كينيا في صدارة المشهد، حيث أصبحت الدولة الوقعة في شرق أفريقيا، حلقة وصل استراتيجية في شبكة تهريب المخدرات العالمية، نظرًا لموقعها الجغرافي وسواحلها المطلة على المحيط الهندي، كما باتت مصدرًا هامًا لتصنيع المواد المخدرة في شرق أفريقيا، ووجهة خالصة لتوغل العصابات العالمية المختصة في تجارة المخدرات.
تتزايد الأدلة على تحول كينيا إلى مركز رئيسي لعمليات تهريب وتصنيع المخدرات على المستوى العالمي، حيث أصدرت السلطات الأمريكية مؤخرًا تقريرا حديثا يكشف عن وجود بنية تحتية متطورة تشمل مختبرات ضخمة لإنتاج مادة "الميثاميتامين" المخدرة في الأراضي الكينية، يقودها أكبر زعماء المخدرات المكسيكية. يعكس هذا التطور الأخير مدى نجاح العصابات الإجرامية العالمية في استغلال الموقع الجغرافي لكينيا، وبنيتها التحتية اللوجستية لإنشاء شبكة توزيع للمخدرات تمتد من أمريكا اللاتينية إلى الأسواق الأفريقية.
لطالما عرفت المخدرات مسارها التقليدي إلى أوروبا عن طريق البلقان، لكن مع زيادة تشديد الرقابة الأمنية الناتجة عن تعقيدات الأزمة السورية وديناميكيات الشرق الأوسط المعقدة على مدار العقد الأخير، تحولَّ مسار المُهربين إلى طريق البحر عبر المحيط الهندي.تنتقل الشحنات من أفغانستان إلى الساحل الشرقي لأفريقيا، عبر سفن متجهة إلى ميناء مومباسا الكيني، ومن ثم تصل الشحنات إلى أوروبا. هكذا، أصبح هذا الميناء بؤرة أساسية لعمليات تهريب المخدرات، وذلك بفضل موقعه الاستراتيجي المميز المطل على المحيط الهندي.
تعددت الأسباب وراء اختيار المهربين كينيا بالتحديد من بين جميع الدول وجهة لتهريب منتجاتهم المخدرة. وبطبيعة الحال تأتي في مقدمتها الموقع الجغرافي المميز المطل على المحيط الهندي، مما يمثل اتصالًا هامًا لعمليات التهريب. أضف لذلك القوى الديموغرافية الكبيرة والمتنامية لدول شرق أفريقيا، بما فيها كينيا، ما يجعلها سوقًا واسعة لاستهلاك المخدرات. ناهيك عن الديناميكيات في السياسة العالمية، والتغيرات في الشرق الأوسط التي لطالما مثلّ أهم طرق تهريب المخدرات إلى أوروبا إلى بحث المهرّبين عن طرق مرنة، وأسواق واسعة وجديدة، لتكون تربة خصبة لتجارة هذه السلعة غير المشروعة.
كما دفع تردي الأوضاع الأمنية في منطقة شرق أفريقيا، جراء هجمات حركة الشباب الصومالية وتنظيم القاعدة، فضلاً عن هشاشة الأنظمة الحاكمة في السيطرة على المناطق الحدودية، إلى خلق بيئة مواتية تمامًا لانفجار هذه التجارة غير المشروعة التي تودي بحياة الأفراد، بل والدول أيضًا. وبحسب الأمم المتحدة، ارتفعت عمليات ضبط الهيروين والمورفين عشرة أضعاف في أفريقيا ما بين عامي 2008 و2018، وكان الأغلبية في شرق أفريقيا.
تتسع كينيا لتهريب أنواع مختلفة من المخدرات، مثل: الهيروين والكوكايين، حيث يمر الهيروين القادم من آسيا والكوكايين القادم من أميركا اللاتينية عبر كينيا، قبل أن يتجه إلى أوروبا. وينقل الهيروين من جنوب غرب آسيا بكميات تُقدر بمئات الكيلوجرامات عبر المحيط الهندي إلى الساحل الكيني، بواسطة سفن صغيرة عابرة للمحيطات. بمجرد وصول الهيروين إلى كينيا، يُوزع على أسواق التجزئة في جميع أنحاء أفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. بحسب تقديرات مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، فإن نحو 42 طنًا من الهيروين تمر عبر كينيا، كما يتجه بشكل متزايد إلى المستخدمين المحليين، الذين تضاعفت أعدادهم في السنوات الخمس الماضية.
يتزايد تعاطي المخدرات في كينيا، وخاصة بين الشباب بشكل كبير. وتشير الإحصاءات الحالية إلى أن أكثر من نصف متعاطي المخدرات تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عامًا
كما يُنقل الكوكايين من أمريكا الجنوبية إلى كينيا عن طريق شركات الشحن الجوي التجارية القادمة على متن رحلات دولية إلى نيروبي. وتختلف طرق تهريبهم للمخدرات، فقد يُخفي هؤلاء الناقلون الكوكايين في أمتعتهم، أو على أجسامهم، أو يبتلعونه داخليًا، ثم يُوزّع الكوكايين إلى دول أفريقية أخرى ونحو أوروبا.
في سياق متصل، تعمل جماعات الجريمة المنظمة في كينيا على إنتاج مواد مخدرة في مختبرات سرية داخل كينيا، حيث تستورد هذه الجماعات المواد الكيميائية الأولية التي تُستخرج أساسًا من مصادر آسيوية، عبر الموانئ الكينية. وتُستخدم هذه المواد الأولية لإنتاج مادة الميثامفيتامين والمواد المؤثرة على العقل، ومن ثم بيعها في الأسواق المحلية، وتهريبها إلى أسواق مختلفة في أفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. يعكس كل ذلك مدى التطور في تحويل كينيا لبلد مُنتج للمخدرات، وليس نقطة عبور فقط.
تشهد كينيا تدهورًا اجتماعيًا واقتصاديًا خطيرًا بسبب انتشار تجارة المخدرات غير المشروعة، حيث أصبحت البلاد تعيش ما يشبه حالة "الانفجار" في إنتاج واستهلاك الهيروين والكوكايين والقنب والمواد الأفيونية، الأمر الذي يعني أن سوقًا جديدة بدأت تتشكل، وأن مستهلكين محليين صاروا مستهدفين من طرف تجار المخدرات العالميين. وقد دفع ذلك لظهور سوق سوداء مزدهرة، تستهدف بشكل خاص الشباب الكيني، حيث تشير الإحصائيات الحالية إلى أن أكثر من نصف متعاطي المخدرات تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عامًا.
يقدر حجم سوق تجارة المخدرات غير المشروعة بأكثر من 100 مليون يورو سنويًا، وهي تنمو باستمرار، وتُعد المخدرات مثل: الهيروين والنيكوتين والكحول والقنب الأكثر انتشارًا. أصبحت المخدرات، وخاصة الهيروين، متاحة بأسعار زهيدة (أقل من 2 يورو للجرعة)، ما سهلّ انتشارها بين مختلف الفئات. وقد تفاقمت الأزمة نظرًا للموقع الاستراتيجي لكينيا في شرق أفريقيا، ودور نيروبي كمركز اقتصادي إقليمي، مما جعلها محطة رئيسية للإتجار الدولي بالمخدرات.
ساهمت الآثار المدمرة للمخدرات من تنامي المشكلة الصحية العامة في البلاد، فالعديد من المستخدمين يصابون بأمراض مثل الإيدز أو التهاب الكبد الوبائي وغيرها من الأمراض الخطيرة
للأزمة عواقب صحية واجتماعية في غاية الخطورة، حيث ساهمت الآثار المدمرة للمخدرات في تنامي المشكلة الصحية العامة في البلاد، فالعديد من المستخدمين يصابون بأمراض مثل: الإيدز أو التهاب الكبد الوبائي وغيرها من الأمراض الخطيرة. تشير التقارير إلى أن 3.5٪ من سكان مدينة مومباسا عاصمة الاتجار بالمخدرات جربوا الهيروين، مما يوحي إلى مدى خطورة هذه السلعة على المجتمع الكيني.
تحمل الأزمة في طياتها آثارا مدمرة للاقتصاد الكيني، حيث ترتبط تجارة المخدرات بتهريب الأموال وغسلها، مما يُضعِف الاقتصاد الكيني. ونتيجة للإدمان، يفقد الشباب الكيني القدرة على العمل بصورة طبيعية، مما يؤدي إلى تراجع الإنتاجية في البلاد، ما يعيق عملية النمو الاقتصادي. علاوة على ذلك يؤثر تصنيف كينيا مركزا للمخدرات على الاستثمارات الأجنبية والسياحة في البلاد، ناهيك عن انتشار معدلات الجريمة، مما يهدد الأمن المجتمعي في كينيا.
على الجانب الآخر، تواجه الحكومة الكينية تحديات معقدة في مكافحة هذه الآفة، حيث تستغل شبكات الجريمة المنظمة الفساد داخل مؤسسات الدولة وقطاع الأعمال لتسهيل عمليات تهريب المخدرات، مما يعيق جهود الملاحقة القضائية والضبط الأمني. ومازالت الإجراءات الرادعة نادرة، مما يزيد من تفاقم هذه الأزمة، ويهدد استقرار المجتمع الكيني.
أدركت كينيا مدى خطورة توسع ظاهرة انتشار المخدرات على المستوى الداخلي، وأيضًا دورها المستحدث في تهريب المخدرات العالمية، وكيف أصبحت محطة توطين مختبرات لتصنيع مواد مخدرة تابعة لعصابات دولية، ذات أهداف استراتيجية عالمية لانتشار المخدرات في أفريقيا ككل. لذلك كثفت نيروبي جهودها الأمنية لحماية سواحلها من اختراقات التجارة غير المشروعة، وذلك من خلال، إنشاء كينيا لقوات خفر السواحل في عام 2018؛ لتعزيز عمليات فحص الحاويات في موانئ مومباسا، كما بدأت مؤخرًا المشاركة في برنامج الكشف عن المخدرات بقيادة الإنتربول في مطارها الدولي في نيروبي.
تعمل الحكومة على تعزيز الإطار القانوني والقضائي لمكافحة تجارة المخدرات، من خلال تشديد العقوبات على جرائم المخدرات وتوسيع صلاحيات أجهزة إنفاذ القانون لمصادرة أصول المتورطين في هذه التجارة غير المشروعة
عملت كينيا على تعزيز قدرتها الأمنية والقضائية لمحاربة تجارة المخدرات من خلال شراكات محلية ودولية، بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، تم تدريب 20 ضابطًا من مديرية التحقيقات الجنائية وخفر السواحل الكينية على تنفيذ عمليات مكافحة الاتجار بالمخدرات في البحر. وذلك في إطار جهود برنامج مكافحة الجريمة البحرية العالمي التابع لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، بدعم من مكتب شؤون المخدرات في شرق أفريقيا.
سعت كينيا أيضا لتوثيق تعاونها مع الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص في مكافحة الإتجار بالمخدرات، وأسفر التعاون الثنائي بين البلدين عن إنشاء وحدة مُدقّقة ضمن وحدة شرطة مكافحة المخدرات الكينية، والتعاون في اعتقال ومقاضاة عدد من كبار تُجار المخدرات. تستهدف الولايات المتحدة بهذا التعاون الاستراتيجي منع تدفق المخدرات إليها.
داخليا، حققت كينيا تقدمًا ملحوظًا في مكافحة المخدرات والوقاية منها، حيث أطلقت حملات توعوية مكثفة تستهدف الشباب في المدارس والجامعات، تشرح مخاطر الإدمان وتقدم بدائل إيجابية. كما تم إنشاء مراكز إعادة تأهيل في مختلف المناطق لعلاج المدمنين وإعادة دمجهم في المجتمع، بدلاً من الاعتماد على النهج العقابي التقليدي.
تحرص الحكومة على التعاون مع المنظمات المختلفة والمجتمع المدني في هذه البرامج، لضمان وصولها لأوسع شريحة ممكنة. كما تعمل الحكومة على تعزيز الإطار القانوني والقضائي، حيث تم تشديد العقوبات على جرائم المخدرات وتوسيع صلاحيات أجهزة إنفاذ القانون لمصادرة أصول المتورطين في هذه التجارة غير المشروعة.
على الرغم من كون دولة كينيا صاحبة الطموحات الكبيرة بأن تصبح قوة إقليمية مؤثرة في شرق أفريقيا، بل والقارة الأفريقية ككل، إلا أنها مازالت تواجه أزمات حادة قادرة على تقويض عمليات التنمية التي تقوم بها الدولة. في مقدماتها تجارة المخدرات غير المشروعة.
تعد جهود كينيا الحالية في تعزيز الأمن البحري والتعاون مع وكالات دولية مثل الإنتربول والولايات المتحدة خطوة مهمة، ولكنها ليست كافية بمفردها. حيث يجب على الحكومة الكينية تعزيز الأنظمة الرقابية والقانونية، وتفعيل تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الدول المجاورة، لمواجهة هذه الأزمة. كما يتعين تحسين الوعي المجتمعي حول مخاطر المخدرات، وتعزيز برامج العلاج والوقاية، خاصة بين الفئات الأكثر عرضة للخطر.