الأحد 9 نوفمبر 2025
تشكّل عملية العودة من مخيمات النزوح والمنفى إلى مواطنهم وديارهم الأصلية، اختباراً مصيرياً لطبيعة المرحلة الانتقالية التي تعقب الصراعات المسلحة. فهي، كما في سياق السودان حالياً، ليست مجرد حركة ديموغرافية عكسية، بل هي عملية اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة، تختبر قدرة النسيج المجتمعي السوداني على استيعاب صدمة الحرب وتجاوزها، بينما يكافح لإعادة بناء حاضر هشّ ومستقبل غير مضمون.
فهذه العودة الكثيفة للسودانيين في الأونة الأخيرة، إلى الديار وسط حرب مدمِّرة ما تزال تضرب الجميع بقسوة، حدثٌ اجتماعي مركّب يعيد تشكيل الخرائط غير المرئية للبنى المكونة لشخصية هذا الشعب. فالرجوع هاهنا، لا يقتصر على استعادة الأرض، أو استئناف الحياة اليومية، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة إنتاج السُلطة، وتوزيع النفوذ وقضايا الذاكرة والملكية.
إنها عودة تتقاطع فيها مطالب الأفراد مع مصالح الجماعات، وتتصادم فيها الروايات المتعارضة حول من يملك الحق في امتلاك الجغرافيا، ومن يملك الحق في إعادة كتابة التاريخ. فما هي المخاطر الكامنة والفرص الهشة التي تحدد ما إذا كانت العودة ستكون محركاً للتعافي أم آلية لإعادة إنتاج اقتصاد الحرب وإفرازاته الاجتماعية؟
كشفت المنظمة الدولية للهجرة، أن السودان يشهد موجة عودة جماعية للنازحين واللاجئين، تجاوز عددها مليوني شخص في أقل من عام. هذا التحوّل لا يمكن قراءته بمعزل عن ديناميكيات الحرب والسيطرة الميدانية، حيث ارتبط مباشرةً باستعادة القوات المسلحة السودانية لولايات رئيسية، مثل: سنار والجزيرة والخرطوم. حتى يناير/ كانون الثاني 2025، تجاوز عدد النازحين داخليًا أكثر من 11 مليون ونصف شخص، قبل أن يبدأ في التراجع مع تغيّر خريطة السيطرة العسكرية إلى جانب التطورات السياسية المتسارعة، الأمر الذي يُظهِر، كيف أن الحركة السكانية خلال حرب أبريل الدائرة في البلاد، ليست مجرد استجابة تلقائية للاحتياجات الإنسانية، وبحثاً مضنياً لتلبيتها باستغلال أي فرصةٍ تأتي خلسةً فحسب، إنما انعكاساً أيضاً لتوازن القوى على الأرض، حيث يتحوّل المدنيون إلى رهائن جغرافيا الحرب.
إن الرجوع إلى الديار، لا يُعيد الزمن إلى الوراء، إلى لحظة حراك ديسمبر الثوري مثلاً، بل يفتح زمناً جديداً يفيض بالتوترات: نزاعات على السكن ومساحات الترفيه، إعادة رسم حدود الأراضي والمزارع والحواكير
إن عودة، أكثر من 1.9 مليون شخص إلى محلياتهم الأصلية ما بين نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 ويوليو/تموز 2025، وفق بيانات المنظمة، مقابل عودة البقية من أصل مليوني شخص إلى ولاياتهم فقط، تكشف عن مدى التفاوت في إمكانيات إعادة الاستقرار والعودة إلى الديار التي لا تعني بالضرورة استعادة الحياة الطبيعية، إنما قد تفتح شهية طرح تساؤلات معارك انعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي المؤجلة.
توضح نسب توزيع العائدين؛ حيث الجزيرة 48٪ والخرطوم 30٪، ثقل هذه المناطق كمراكز جذب، فيما بقيت ولايات أخرى وخاصةً في وسط وغرب السودان، على هامش العودة. ولاية الخرطوم، على سبيل المثال، لم تستقبل سوى ما يقرب 600 ألف عائد من أصل 3.7 مليون فرّوا منها، ما يعكس حجم الدمار والخوف المتجذر، رغم الإجراءات الرسمية لتأهيل البنية التحتية وتوفّر الخدمات الأساسية.
تكشف الدوافع المعلنة للعودة عن منطق البقاء وضمان الأمن، حيث ربطت 97٪ من الأسر عودتها بتحسّن الوضع الأمني، غير أن قراءةٍ أعمق تُظهِر أن هذه العودة مدفوعة أيضاً بنقص الموارد في مخيمات النزوح وبلاد اللجوء، وضغوط التعايش اجتماعياً وتحديات العيش اقتصادياً، الجوانب المتعلقة بالرغبة في لمّ شمل العوائل التي تعاني الشتات والتشرّد، الأمر الذي يكشف عن قرار العودة في كل الحالات تصبح أقرب إلى خيارات قسرية في ظل غياب بدائل مستدامة. وتوضح بيانات المنظمة الدولية للهجرة، أن 57٪ منهم إناث، و40٪ أطفال تحت 18 عاماً، مما يشير إلى أن العودة بالنسبة لهذه التركيبة السكانية الأكثر ضعفاً، محفوفةً بمخاطرٍ واسعة منها إعادة إنتاج الفقر، والعجز عن الوصول إلى الموارد والخدمات في بيئةٍ أنهكتها العنف.
على مستوى النازحين، انخفض العدد إلى أقل من 10 ملايين، موزعين على أكثر من 10 آلاف موقع في 185 محلية. وبينما يعيش غالبيتهم في المناطق الحضرية، كثير منهم يعيشون مع مجتمعات مضيفة، الأمر الذي يشكّل ضغطاً هائلاً على نسيج اجتماعي هش أصلاً، ويعيد رسم أنماط التعايش والصراع بين السكان المستضيفين والوافدين، في ظل ما تشير إليه الأرقام من أن أكثر من نصف النازحين هم من الأطفال، و27٪ منهم دون سن الخامسة، في مقابل عبور أكثر من 4 مليون شخص الحدوج نحو المنفى، وهو نزيف بشري يقوّض رأس المال الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.
إن الرجوع إلى الديار، أثناء وبعد حرب أبريل، لا يُعيد الزمن إلى الوراء، إلى لحظة حراك ديسمبر الثوري مثلاً، بل يفتح زمناً جديداً يفيض بالتوترات: نزاعات على السكن ومساحات الترفيه، إعادة رسم حدود الأراضي والمزارع والحواكير، صراعات حاسمة على الخدمات الأساسية، الحق في المدينة، وأسئلة العدالة والحرية المؤجلة، بل وسؤال مفهوم الدولة القُطرية المركزية الموحّدة في حدّ ذاتها.
الديار؛ في هذه الزاوية التي نعني بها؛ المدينة أو الحي أو القرية أو الإقليم أو المزرعة أو الشارع الرئيسي للمنزل أو حتى السوق الطرفي الأسبوعي للمنطقة، ليست مجرد جغرافيا ثابتة، بل مسارح تتصارع فيها القوى المختلفة: المواطنين الذين أنهكتهم الصدمات المختلفة، الدولة الهشّة التي تحاول إعادة بسط هيبتها، زعماء الحرب الذين يجرون معهم اقتصادهم الموازي وشبكاتهم السوداء، المجتمع المدني المرهق الذي يسعى إلى ترميم ما تبقى من النسيج الاجتماعي الذي عصف به منطق الحرب.
يكشف مفهوم العودة هنا، عن هشاشة فكرة الوطن نفسها، إذ لا يتم استقبال العائدين بوصفهم أصحاب حق مطلق سابقاً بعد ظاهرة الاتهام بالتعاون وتحولات مفهوم المناطقية والاصطفاف الإثني، بل بوصفهم منافسين جُدد على موارد شحيحة ومساحات متنازع عليها من حيث مستويات السيطرة الجديدة، في ظل تداعي فكرة الدولة السودانية الموحّدة بعد ظهور حكومة موازية في مدينة نيالا، وسط ظهور أسواق جديدة للمغامرات، حيث تتقاطع الدولة العاجزة مع اقتصاد الحرب الذي لم يُدفن بعد، بل يواصل عمله عبر التهريب وتجارة السلاح وتكاثر المليشيات والتحكم في الإغاثة الرمزية التي يُستنجد بها آلاف الأرواح. وبالتالي، تصبح العودة مساحة اختبار للذاكرة الجماعية: أيُّ ذاكرة ستنتصر؟ ذاكرة التهجير القسري داخلياً وخارجياً، أم ذاكرة الصمود والمقاومة، أم ذاكرة الاستحواذ والقهر؟، أم ذاكرة البحث عن الشرعية وتماسك الدولة الوطنية؟
تصبح العودة مساحة اختبار للذاكرة الجماعية: أيُّ ذاكرة ستنتصر؟ ذاكرة التهجير القسري داخلياً وخارجياً، أم ذاكرة الصمود والمقاومة، أم ذاكرة الاستحواذ والقهر؟ أم ذاكرة البحث عن الشرعية وتماسك الدولة الوطنية؟
بهذا المعنى، فإن العودة ليست مجرد حركة من المنفى إلى الداخل، أو من المخيم إلى المنزل، أو من الملاجئ المؤقتة إلى البيت، إنما هي معركة رمزية ومادية في آن، معركة على المعنى وعلى الموارد وعلى الطقس وعلى المستقبل. إنها امتحان عسير لمقدرة بينة المجتمعات في السودان، على إعادة التفاوض مع ذاتها، ولقدرة الدولة، إن بقيت موحّدة، على إعادة التأسيس على قواعد جديدة تتجاوز منطق العنف، وعبث الأيديولوجيا.
تفعّل عملية العودة، آليات الدفاع المجتمعية الكامنة في ذاكرة المكونات الاجتماعية، وتنبثق من شبكات القرابة والجيرة والمصاهرة دولة ظلّ فاعلة، تحاول سدّ الفراغ الهائل الذي خلفه غياب المؤسسة الرسمية منها جهاز الدولة السياسي والإداري. فهي توفر سقفاً للحماية، وشبكة أمان معيشية، وإحساساً زائفاً بالاستقرار في واقعٍ مهزوم. إلا أن هذه الشبكات ليست تعبيراً بريئاً عن التضامن والتعاطف، إنما هي تشكيل قسريّ يُعيد إنتاج علاقات القوة والتبعية تحت وطأة الحاجة والاضطرار.
وبالتالي، تعيد عملية العودة رسم الخريطة الطبقية للمجتمع بخطوط إكراهية غير مرئية، حيث ينقسم المجتمع إلى طبقاتٍ جديدة: من صمدوا في الموقع وادّعوا احتكار معنى الصمود، ومن تمكّنوا من العودة حاملين معهم هزيمة المنفى، ومن حُكِم عليهم بالتشرد الدائم بسبب فقرهم أو انتمائهم، مما تشكّل هذه التراتبيات الجديدة، تربةً خصبة للاحتقان والصراع الداخلي الذي قد ينذر بتصدعاتٍ اجتماعية جديدة.
تتحول آليات التضامن من حالة الإغاثة الطارئة إلى ما يشبه اقتصاد عناية هش، يعتمد على التبادل العيني والخدمات غير الرسمية. إلا أن هذا الاقتصاد البديل يبقى رهينةً للصدمات الخارجية، مثل تقلبات الأسعار أو اندلاع أعمال عنف، مما يكشف هشاشة البنى المجتمعية التي يفترض أنها تشكل خط الدفاع الأول. وعليه، يصبح التضامن مشروطاً ومؤقتاً، بينما تتحول النزاعات المحلية إلى بديل عن الحرب الكبرى، مما يهدد بانهيار المجتمع من داخله قبل أن تنهض مؤسساته من رمادها.
وذلك في ظل ما يشهده قطاع الخدمات الأساسية من تفككٍ واسع، لتحل محله خصخصة قسرية، تُدار من قِبل وسطاء ومزوّدي خدمات غير منظمين عبر السوق السوداء. ما يحوّل الحق في الحياة إلى سلعةٍ، يتحكم بها أمراء الحرب وبارونات الاقتصاد الطفيلي، مما يعمّق أزمة الشرعية ويُفقر المواطنين بشكلٍ منهجي. ولكن، يظل الأكثر خطورة هو تحوّل المساعدات الإنسانية إلى أداةٍ للتمييز والاستبعاد السياسي. فتسييس المعونة يحوّلها إلى ريع سياسي وعسكري، يُستخدم لمكافأة الداعمين والحلفاء، واستبعاد الخصوم وغير المتعاونين، مما يعمّق الانقسامات المجتمعية، ويؤجج الاصطفاف الاثني، ويقوض أي أمل في استعادة الثقة الأفقية والرأسية، أو إعادة بناء عقد اجتماعي جديد، لتكون المحصلة النهائية: عودة بلا دولة، وتعافي بلا أمل.
تمثّل الفضاءات اليومية ذاكرةً حية لجراح الماضي، فهي ليست مجرد أطلال مادية، بل هي حاملة لأطياف الغائبين وروائح الذكريات المدمّرة، مما يعني أن العودة هنا هي عمليةً أنثروبولوجية معقدة لإعادة تطبيع الزمان والمكان، ومحاولة لاستعادة السيادة على حيزٍ كان مسرحاً للنزيف. وهي تتجسّد في طقوسٍ صغيرة ذات دلالات عميقة مثل؛ إصلاح بابٍ مهدم، إعادة افتتاح دكّان، إقامة صلاة في ركنٍ مخرّب، تسوّق في سوق هامشي وسط الحي، التمشيّ على رصيف شارع مغبر كان أربعينياً غير مكتمل، والتي تعني إعلان رمزي عن رفض الاندثار، ومحاولة لتحويل الفضاء من مساحاتٍ للموت إلى فضاءاتٍ للحياة والمعنى.
في هذا الفراغ، تعود السُلطات العرفية والتقليدية بشكل تدريجي لتلعب أدوار الحَكَم والضامن للاستقرار على المستوى المحلي على الأقل. لكن هذه العودة، في هذا السياق، تحمل في طياتها أخطاراً جسيمة؛ إذ يمكن لهذه السُلطات أن تعيد إنتاج اللامساواة والعلاقات القائمة على المحسوبية والمحاباة والعشائرية القديمة تحت غطاء التقاليد والأصالة، والمحافظة على الذاكرة التاريخية للقيم والمعايير المجتمعية.
تصبح عملية إعادة البناء لروح وبنية المجتمع، ساحة صراعات خفية بين محاولة استعادة الاستقرار عبر الأطر التقليدية، وخطر تكريس أنماط القهر القديمة. ما يجعل السؤال الجوهري حاضراً: هل يمكن تجديد شرعية هذه السلطات أم أن وجودها جزء من المشكلة وليس الحل؟ وذلك لعلاقتها البنيوية بتوفير الحماية في ظل سيطرة شبح العنف على المشهد العام، عبر ما يمكن تسميته انعدام الأمن الهجين، حيث تتنازع مليشيات وأجهزة أمنية متعددة السيطرة، محوّلة الحماية إلى سلعةٍ تُباع وتُشترى، ويصبح المدنيون رهائن في سوق الابتزاز والاستغلال.
تتصادم الحاجات العاجلة لإعادة الإعمار مع البنية الصلبة لاقتصاد الحرب الذي ترسخ خلال أكثر من عامين ونصف من النزيف في البلاد؛ حيث شبكات الجباية والتهريب والاحتكار التي تشكل نظاماً اقتصادياً طفيلياً يحاول الرسوخ، ويقاوم أي تحوّلات واسعة نحو السلام، لأنه يهدد مصالحها الريعية التي بُنيت على أنقاض الدولة. وفي قلب هذه الأجواء، تبرز ملفات الأرض والملكية كأخطر الملفات وأكثرها حساسية. فقدان الوثائق الثبوتية، سواء بسبب التدمير أو الضياع، يحوّل مسائل الملكية إلى ساحة نزاعات جديدة. من يملك الحق؟ من يحمل الوثيقة؟ من يسيطر على الأرض؟ كلها أسئلةً تكفي لإشعال حروبٍ محلية لا تنتهي.
وعليه، من السهولة أن تتفجر نزاعات حولها، كوقود جاهز لنزاعات مستقبلية لا تُبشر بنهاية. استيلاء قسري، وبيع تحت التهديد، وتدمير ممنهج للسجلات العقارية؛ كلها أدوات تُستخدم لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين وخلق وقائع جديدة كما حدث في اعمال التهجير القسري التي وقعت في ولاية غرب دارفور وحاضرتها مدينة الجنينة وأعمال التخريب والدمار التي طالت مدن العاصمة الخرطوم الثلاث. وبالتالي يصبح غياب مسارات إنصاف عادلة وشاملة يترك الضحايا في مواجهة خيارين مرّين: القبول بالضياع أو اللجوء للعنف.
فقدان الوثائق الثبوتية، سواء بسبب التدمير أو الضياع، يحوّل مسائل الملكية إلى ساحة نزاعات جديدة. من يملك الحق؟ من يحمل الوثيقة؟ من يسيطر على الأرض؟ كلها أسئلةً تكفي لإشعال حروبٍ محلية لا تنتهي
بينما تُظهِر الأسواق المحلية، مرونةً ملحوظة عبر الترميم الذاتي والاعتماد على تحويلات من هم ما يزالون يعانون الغربة، فإن هذا النبض الاقتصادي يبقى نابضاً على جهاز إنعاش واهن. فهو يفتقر إلى أدنى مقومات الاستقرار: عملة مستقرة، أنظمة تأمين، أو حماية من الصدمات الخارجية. مما يخلق في الواقع اقتصاداً هجيناً، يعتمد جزء كبير منه على المساعدات والتحويلات الهشة، وجزء آخر يغوص في اقتصاد الظل والعنف. وهو في الآخر، مزيجٌ لا يبني دولة، إنما يعيد إنتاج اقتصاد الحرب تحت مسميات جديدة، مما يحوّل التعافي الاقتصادي إلى وهم كبير.
لا تعود الأجساد وحدها من المنفى، بل تعود مصحوبةً بذاكرتين متصارعتين: ذاكرةٌ سابقة مثقلة بأهوال لا تُحتمل، وذاكرة آنية تحاول البحث عن معنى في وسط الركام، مما ينتج هذا التصادم بينهما، هويةً مكسورة مهزوزة، تُعاني من صدمات الماضي وارتباك الحاضر، وغموض المستقبل. وقد تتحوّل الصدمات المختلفة، في غياب المساحات الآمنة لتعبير عنها، إلى عنفٍ صامتٍ يومي. نزاعات صغرى وعنف أسري وإدمان وحساسيات عشائرية مكبوتة، وانطواء اجتماعي؛ كلها أعراض لجرحاتٍ لم تُعَالَج بما يكفي، ولذكرياتٍ لم تُفْسَح لها مساحات آمنة للاعتراف والمشاركة.
إن إعادة بناء التعايش تتطلب تفاوضاً صعباً وشائكاً حول سردية مشتركة للحدث: من المسؤول والجميع متورط بنسبٍ متفاوتة وأدواتٍ مختلفة؟ كيف نسمي ما جرى؟ وما هي حدود العفو والمحاسبة؟ هكذا نوع من الحكي ومحاولة التفاوض، هو عملية حاسمة وحساسّة، وكأنها السيرُ على حبلٍ مشدود فوق هاوية الانقسامات والاصطفاف والمناطقية السلبية التي انتشرت بكثافةٍ واسعة. وعندئذ يترك الفشل، في إدارة هذا التفاوض، المجتمع أسيراً لماضيه العنيف، عاجزاً عن فتح صفحات جديدة للرؤية والعمل والنهضة. فالذاكرة هنا ليست مجرد حنين إلى الأطلال، إنما هي سلاح سياسي يمكن أن يُستخدم لتمزيق النسيج الاجتماعي أو لخياطة جروحه، وتحويل الصدمة الجماعية إلى سردية عامة بنّاءة تعيد خلق الدولة من جديد على أسس عادلة أو تتحوّل العودة إلى رافدٍ ومغذٍ جديد لحروبٍ مؤجلة قادمة؟