تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 9 نوفمبر 2025

  • facebook
  • x
  • tiktok
  • instagram
  • linkedin
  • youtube
  • whatsapp
تحليلات

كيف يشعل"تازارا" السباق العالمي على معادن أفريقيا؟

9 أكتوبر, 2025
الصورة
كيف يشعل"تازارا" السباق العالمي على معادن أفريقيا؟
Share

في خضمّ السباق العالمي المحموم على المعادن الحرجة التي تمثل الركيزة الأساسية للتحول نحو الطاقة النظيفة، تمضي الصين في تعزيز حضورها الاقتصادي داخل أفريقيا عبر تحديث مشروع خط سكة حديد تنزانيا–زامبيا "تازارا"، إذ أعلنت بكين مؤخرًا عن ضخ استثمارات تقدر بـ 1.4 مليار دولار في خط تازارا المتهالك، في خطوة مدروسة لترسيخ السيطرة على مسارات نقل المعادن الحيوية من قلب أفريقيا نحو الأسواق الآسيوية والعالمية.

يأتي هذا الحراك في ظل تصاعد النفوذ الغربي للسيطرة على سلاسل توريد المعادن من خلال اهتمامها بمشاريع موازية أبرزها ممر "لوبيتو" في غرب القارة، لتبدأ جولة جديدة من حرب الموارد بين الكبار وأسلحتهم: الممرات الحيوية في أفريقيا.

خلفيات المشروع وتاريخه

يشتد الطلب العالمي على المعادن الحرجة، نظرًا لأهميتها الاستراتيجية في التحول للطاقة النظيفة، مثل: النحاس والكوبالت والنيكل، حيث من المتوقع أن يرتفع الطلب عليهم ما بين 20 إلى 40 مرة بحلول عام 2040، وفقًا لتقديرات وكالة الطاقة الدولية، وتتركز هذه المعادن بشكل نشط في منطقة "حزام النحاس" الأفريقي، والتي تمتد بين زامبيا حتى جمهورية الكونغو الديمقراطية.

استجابة للتحولات العالمية، ولإدراكا من الصين بأهمية السيطرة على سلاسل توريد المعادن الحيوية، اتجهت مؤخرًا إلى زامبيا وتنزانيا لتحديث خط سكة حديد "تازارا" الواقع ضمن منطقة حزام النحاس الأفريقي الغني بالمعادن. وتماشيًا مع ذلك، أعلنت بكين في 29 من سبتمبر/ أيلول 2025، عن ضخ استثمارات تُقدر ب1.4 مليار دولار أمريكي لتجديد خط تازارا، الذي يربط ميناء دار السلام في شرق تنزانيا بمدينة كابيري مبوشي في زامبيا، والممتد لمسافة تُقارب 1860 كلم.

يتضمن الاتفاق الذي أبرم بين الصين وزامبيا وتنزانيا، تحديثا كاملا لخط سكة حديد "تازارا"، وإضافة 34 قاطرة و16 عربة ركاب و760 عربة إلى مخزون السكك الحديدية، وهو ما من شأنه أن يساعد في تعزيز شحنات المعادن عبر من زامبيا حتى ميناء دار السلام في شرق أفريقيا.

وتمنح الصفقة شركة البناء والهندسة المدنية الصينية (CCECC) امتيازًا لمدة 30 عامًا بموجب نموذج البناء والتشغيل والنقل، مع تخصيص السنوات الثلاث الأولى لإعادة الإعمار، تليها 27 عامًا من التشغيل لاسترداد استثماراتها.

يعود تاريخ بناء سكة حديد تازارا بين عامي 1970 و1975 بتمويل صيني بلغ 415 مليون دولار، على هيئة قروض ميسّرة بلا فوائد، وافتتح المشروع عام 1976، وكان يُنظر إليه بوصفه أكبر مشروع مساعدات خارجية صينية في أفريقيا.

كان الهدف من تشيّد الخط هو تأمين منفذ بحري لدولة زامبيا الحبيسة جغرافيًا، وذلك؛ لنقل البضائع والنفط الخام بعيدًا عن موانئ جنوب أفريقيا التي كانت خاضعة وقتها لأنظمة الفصل العنصري، في إطار أعمق، حمل المشروع بُعدًا سياسيًا واضحًا، إذ عُدَّ في سياقه التاريخي رمزًا للتعاون الصيني- الأفريقي ضد الإمبريالية الطاغية آنذالك، وقد ساهم مشروع "تازارا" في تعزيز التنمية الاقتصادية في كل من تنزانيا وزامبيا.

لكن بمرور العقود، ومع تغير المشهد السياسي في المنطقة وسقوط نظام الأقلية البيضاء، تراجعت الأهمية الجيوسياسية للمشروع، حيث تهالكت بنيته التحتية بسبب ضعف الإدارة وغياب الاستثمارات، حتى بات في العقدين الأخيرين يواجه مشكلات تشغيلية حادة، إذ لا تعمل سوى عشر قاطرات من أصل خمسين.

رغم ذلك، ظل الخط حاضرًا في الذاكرة السياسية لبكين ودار السلام ولوساكا باعتباره "رمز الصداقة الصينية–الأفريقية"، ومع إطلاق مبادرة الحزام والطريق عام 2013، عاد الاهتمام ب"تازارا" باعتباره حلقة مفقودة في شبكة الربط التجاري التي تسعى الصين إلى مدّها عبر القارة، فتنزانيا انضمت رسميًا إلى المبادرة عام 2018، وتم رفع العلاقات مع الصين إلى مستوى "شراكة استراتيجية شاملة"، وهو ما مهّد الطريق لاستئناف المحادثات بشأن تحديث الخط.

مع تحسين الخط الرابط بين زامبيا وميناء دار السلام، سيُتاح بديلاً أكثر كفاءة وموثوقية لنقل الموارد، مما يساعد على تقليل أوقات الشحن والتكاليف الباهظة

تُعد زيارة الرئيسة التنزانية سامية سولوهو حسن إلى بكين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 نقطة تحول في مسار الخط؛ إذ وُقعت خلالها 15 اتفاقية ثنائية تضمنت تحديث تازارا وإعفاءات من الديون، وقد أعادت هذه الزيارة المشروع إلى صدارة أجندة التعاون بين الجانبين، تمهيدًا لمذكرة التفاهم المشتركة في عام 2024 بتحديث الخط، ومن ثم الإعلان الأخير عن الاستثمارات الجديدة التي تُقدّر بـ1.4 مليار دولار.

أهمية تجديد خط سكة حديد "تازارا"

تتجلى أهم المزايا الاستراتيجية لتجديد خط تازارا في إمكانية تجاوز الاختناقات اللوجستية التي لطالما أعاقت صادرات المعادن من زامبيا ودول الجوار، نتيجة الاعتماد الرئيسي على الموانئ الجنوبية المزدحمة في جنوب أفريقيا. ومع تحسين الخط الرابط بين زامبيا وميناء دار السلام، سيُتاح بديلاً أكثر كفاءة وموثوقية لنقل الموارد، مما يقلل أوقات الشحن والتكاليف الباهظة.

حيث يُتوقع أن يؤدي التحديث إلى زيادة كبيرة في سعة النقل، إذ سترتفع القدرة الحالية البالغة نحو 400 ألف طن سنويًا إلى 1.2 مليون طن في العام الأول بعد التشغيل، ثم إلى 2.4 مليون طن في السنوات اللاحقة، بينما سينخفض زمن الرحلة من خمسة أيام إلى أقل من يومين، ما يعيد للخط دوره كممر تصدير تنافسي. إلى جانب ذلك، يمكن للخط فتح منافذ مستقلة لدول مثل: زامبيا والكونغو الديمقراطية وغيرهم إلى الأسواق الآسيوية والأروبية، مما يعزز قدرتهم التفاوضية، ويمنحهم موقعًا أكثر تأثيرًا في السباق العالمي على معادن المستقبل.

يمثل "لوبيتو" ركيزة رئيسية في مساعي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتأمين سلاسل إمداد المعادن الحرجة بعيدًا عن الشبكات الصينية

بالنسبة لتنزانيا، يكتسب المشروع أهمية مضاعفة لأنه يرسّخ موقعها كمحور لوجستي إقليمي، فالدولة التي طالما سعت لأن تكون بوابة شرق أفريقيا التجارية، تجد في تحديث تازارا فرصة لتكريس نفوذها الاقتصادي، وربط موانئها بالداخل الأفريقي. كما أن الخط سيسهم في إنعاش ممرات النقل الإقليمية التي تربط تنزانيا بجنوب الكونغو ومالاوي وموزمبيق، بما يعزز التكامل الاقتصادي في منطقة البحيرات العظمى، ويحوّلها إلى مركز تصدير معدني رئيسي للقارة.

منافسة الممرات: تازارا في مواجهة لوبيتو

بينما تعمل الصين لترسيخ حضورها في شرق أفريقيا عبر تجديد خط "تازارا"، تتحرك القوى الغربية بخطى سريعة لترسيخ نفوذها في الجهة المقابلة من القارة من خلال ممر لوبيتو، المشروع الذي يصفه المسؤولون الأمريكيون بأنه "التحول اللوجستي الأكبر في غرب أفريقيا منذ عقود".

فالممر، الذي يمتد من ميناء لوبيتو على الساحل الأنغولي إلى المناطق التعدينية في جنوب الكونغو الديمقراطية وشمال زامبيا بطول يُقارب 1300 كيلومتر، يمثل ركيزة رئيسية في مساعي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتأمين سلاسل إمداد المعادن الحرجة بعيدًا عن الشبكات الصينية التي تهيمن على معظم طرق التجارة في المحيط الهندي.

بدأ المشروع يأخذ طابعه التنفيذي الفعلي منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2022، حين منحت الحكومة الأنغولية امتيازًا مدته ثلاثون عامًا لتحالف شركات يضم "ترافيغورا" (المتخصصة في تجارة السلع)، و"Mota-Engil Africa" البرتغالية، و"Vecturis SA" البلجيكية، لإعادة تأهيل وتشغيل الخط الحديدي. وتبلغ قيمة الاستثمارات الإجمالية أكثر من 2.3 مليار دولار تشمل أعمال تحديث البنية التحتية، وتطوير ميناء لوبيتو ومحطات النقل.

على عكس تازارا، يحظى ممر لوبيتو باهتمامات واسعة من مؤسسات تمويل عديدة، منها البنك الأفريقي للتنمية الذي تعهد بضخ 500 مليون دولار للمشروع، بالإضافة لمؤسسة تمويل التنمية الأمريكية (DFC) المُقدر لها بدفع 250 مليون دولار، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي الذي تعهد في منتصف 2024 بضخ 320 مليون دولار إضافية لتسريع أعمال الممر، ضمن مبادرة Global Gateway الأوروبية. كما يندرج المشروع ضمن مبادرة مجموعة السبع (PGII)، التي تهدف لتوفير بدائل تمويلية للبنية التحتية في الدول النامية بعيدًا عن نموذج القروض الصينية.

تشهد أفريقيا اليوم سباق ممرات موازٍ لسباق المعادن نفسه، فممر لوبيتو وتازارا ليسا مجرد خطوط نقل، بل ممرات نفوذ جيوسياسي تربط الدول الأفريقية بمراكز القوى الكبرى

ووفقًا للخطط المعلنة، من المقرر أن ترتفع القدرة الاستيعابية للممر إلى أكثر من خمسة ملايين طن من الشحنات المعدنية سنويًا خلال الأعوام الخمسة الأولى من التشغيل، مع إدخال أكثر من 30 قاطرة و1500 عربة شحن جديدة. كذلك، يجري العمل على تنفيذ مشروع للطاقة المساندة بقيمة 300 مليون دولار لتوصيل الكهرباء إلى التجمعات الصناعية والمناطق التعدينية المتصلة بالممر، بما يسمح بإنشاء مناطق تصنيع ومعالجة أولية للمعادن قبل تصديرها. وتُقدّر السلطات الأنغولية أن الممر سيختصر زمن شحن النحاس من زامبيا إلى المحيط الأطلسي من نحو عشرة أيام إلى أقل من ثلاثة، مما يمنح الأسواق الغربية منفذًا أسرع وأكثر أمانًا إلى المواد الخام الحيوية.

واتصالاً بما سبق، فإنّ مشروع "لوبيتو" لا يُقدم كونه بنية لوجستية فقط، بل أداة جيوسياسية متكاملة تسعى من خلالها واشنطن وبروكسل لتثبيت موطئ قدم دائم في قلب "حزام النحاس" الأفريقي، وموازنة النفوذ الصيني المتنامي في الشرق. وفي المقابل، تنظر بكين إلى تحديث "تازارا" بوصفه استجابة استراتيجية لهذا التوسع الغربي.

من هنا يمكن القول إن أفريقيا تشهد اليوم سباق ممرات موازٍ لسباق المعادن نفسه، فممر لوبيتو وتازارا ليسا مجرد خطوط نقل، بل ممرات نفوذ جيوسياسي تربط الدول الأفريقية بمراكز القوى الكبرى، وبينما تراهن واشنطن وبروكسل على خطاب التنمية والاستدامة والحوكمة الرشيدة، تعتمد بكين على إرثها السياسي الطويل وشراكاتها المرنة مع الأنظمة الأفريقية.

ختامًا، بتجديد "تازارا"، أشعلت الصين فعليًا شرارة سباق جديد على موارد أفريقيا، بعدما نقلت التنافس على النحاس والكوبالت من باطن الأرض إلى خطوط النقل والموانئ. فالخط الذي يصل زامبيا بميناء دار السلام لم يعد مجرد مشروع تنموي، بل أداة لإعادة رسم مسارات تصدير المعادن في مواجهة ممر "لوبيتو" المدعوم غربيًا.